القطرة العاشقة

Share your love

 

يخطئ من يظن أن الحب مقصور على الإنسان أو حتى الأحياء.. الكون بأسره عاشق.. لماذا تدور الإلكترونات حول النواة في مداراتها الأبدية دون ملل؟ وما سر تلك الطاقة المهولة التي تنبعث في حال تحطيمها؟.. لماذا تقطع الطيور الكوكب الأرضي بأسره كله لتعود إلى أعشاشها الأصلية؟ وعلام تسبح الأسماك في المياه العميقة الباردة دون أن تعبأ بإحصاء الصرعى الذين يتساقطون في الرحلة الطويلة؟.
الحب هو القانون الحاكم من حولنا.. حينما ترق نفسك كندى الصباح تفهم اللغة الخفية لهذا الكون الذي لا يكف عن الهمس بأسراره حولك.. تسمع النسيم يهمس للغصون: أحبك، وتقرأ حكاية قطرة ماء عاشقة تكتبها على أوراق الورد.
حكاية قطرة
أنا قطرة ماء.. أصل الحياة، العناق الأبدي بين ذرة أكسجين وذرتي هيدروجين. عرفت كل شيء وسافرت في كل مكان.. ترقرقت مع الأنهار، سبحت فوق البحار، تسلسلت إلى باطن الأرض وعرفت أسرارها، تدفقت في شرايين البشر وفهمت أفكارهم ولامست أحلامهم، ثم سئمت الكوكب الأرضي فتبخرت في الهواء.. طرت كالعصافير، حلقت كالنسور، وقعت في غرام الشمس، صممت أن أرتفع حيث السحب ثم يجذبني الحنين إلى كوكب الأرض في رحلة أبدية مستمرة.
هذه المرة هبطت فوق أدغال إفريقيا.. فوق قمة جبل عال كان تجسدي. تحولت مرة أخرى إلى الحالة السائلة.. انسبت إلى أسفل في نعومة.. انزلقت حتى أصبحت قطرة في نهر (كاجيرا).. اسم صعب ولكن الأسماء لا تهم من يصنع الحقيقة.. رحلة كثيرا ما قطعتها وسط مروج إفريقيا الخضراء. نظرت للقطرة المجاورة فوجدتها خائفة ومذعورة.. سألتني: أين يذهب هذا النهر؟.. ابتسمت لها في تشجيع: إلى أحضان أمنا الكبرى (بحيرة فيكتوريا)، حيث تحلق الطيور وتغفو التماسيح وتستحم أفراس النهر ويبدأ النيل العظيم رحلته.
سألتني عن اسمي، ضحكت وقلت: منذ متى تعرف قطرة مياه اسمها؟، سألتني عن عمري، قلت: ملايين السنين. قالت في خوف: لقد ولدت بالأمس فقط ولا أعرف شيئا بعد عن هذا العالم.. كانت ترتعش من الخوف. إحساس عجيب تملكني لحظتها، شعور صاعق لم أجربه من قبل.. هل هو ما يسمونه الحب؟.. كتمت انفعالاتي بصعوبة وقلت في رقة: لقد اقتربت أمنا المقدسة (بحيرة فيكتوريا).
أنا لحبيبي وحبيبي إلي
البحيرة العملاقة التي يبدأ عندها النيل رحلته الطويلة حتى البحر. وقفنا معا نرقب المياه وهي ترغي وتزبد وآلاف الأسماك تثب كأقواس فضية لامعة عند مسقط النهر.. تتصايح القرود وتتأمل الغزلان المشهد الساحر بعيون متسعة.. والشمس الفضية تحولني بكيميائها الغامضة إلى حبة لؤلؤ وتحول حبيبتي الصغيرة لدرة ثمينة.. يخفق قلبي فصارحتها وأنا أرتجف: أحبك، فترقرقت من الخجل.
نواصل الرحلة جنبا لجنب.. الرذاذ يتطاير في ملحمة مرعبة عند الشلال.. الطبيعة في ذروة سطوتها، أصرخ وسط الهدير: هل تتزوجينني؟ قالت ارفع صوتك، لا أسمعك.. صرخت أكثر: أحبـــك فهل تتزوجينني؟، تضرجت بالخجل فعرفت أنها سمعتني.. لزمت الصمت فعرفت أنها موافقة.. أمسكت يدها فلم تمانع.. نهبط في مجرى متسع.. مغامرة مدهشة حقا، هذا النهر عنيف حقا، هكذا تهمس رهبة فأقول لها: وكذلك الحب.
ننساب سويا في رشاقة، يحشر النيل العملاق نفسه حشرًا ليدخل بحيرة (ألبرت) الضيقة المالحة ثم يخرج منها عذبا سلسبيلا.. تسألني كيف تحدث تلك المعجزة؟ فأقول لها بالحب، تقول بكلامك الجميل سيصبح شهدا.
يخرج النهر من البحيرة هادئا ليدخل البحيرة الثالثة (إدوارد).. يتحول بعدها إلى مستنقعات راكدة.. تضيع ملامحه ويتحول إلى عدد لا حصر له من القنوات، وعلى مدى البصر أعشاب كثيفة سميكة تحركها الرياح.. تخاف حبيبتي فأقول لها أغمضي عينيك وفكري في ذكرياتنا الجميلة، في مستقبلنا الأجمل.. تبتسم راضية وتسلمني قيادها.. وأجدف بها كملاح ماهر.. تشرق الشمس فلا أصدق عيني من رؤية كل هذا الجمال حولي!.. كيف تحولت المستنقعات إلى فردوس غفل عنه الزمان؟.. جنة من الطيور وفي جزر النهر الوسطى تقضي طيور الشمال المهاجرة الشتاء في انتظار الربيع وحولها الطيور الإفريقية تمارس حياتها في هدوء، لا تعايشها ولا تقاتلها.. الكل يحيا في عزلة وسلام. تفتح صغيرتي عينيها وتنظر حولها في افتتان ثم تهمس: ما أجمل الطبيعة!! ولكني أراك أجمل.
شهر العسل
تلوح الخرطوم على مرمى البصر ليتم اللقاء الشهير بين النيل الأبيض والنيل الأزرق النابع من مرتفعات الحبشة والذي يمد النهر بمعظم مائه. الزواج المقدس الذي يصنع ذلك النهر الذي نعرفه.. يتلوى النيل الذي طوى آلاف الأميال جامحا معربدا حتى يدرك بلاد النوبة، حينئذ يدور رأسه من ترجيع ناي، من أنشودة نوبية حزينة، من شيخ ذابل العينين يعلم حفيده درس العشق الأول.
ثم تلوح أسوان.. الحبيبة السمراء التي روضت النهر فيترقرق كنبع عذب يسطره أشعاره على أوراق البردي الحزينة. تقول حبيبتي: كم كنت ساذجة حينما شعرت بالخوف من العالم؟.. إنه جميل جدا.
تتعاقب المدن.. الأقصر، قنا، سوهاج، أسيوط، المنيا، معابد فيلة والأقصر والكرنك، حيث يبلغ الرجل الطويل القامة ارتفاع إصبع التمثال لا أكثر.. وتكاد دقة النحت تصور الهواء الذي تنفسه الفرعون الملك.. تقول حبيبتي ضاحكة: رحلة شهر عسل خيالية ومجانية كذلك.. أخطف قبلة.. تتنهد فأذوب.
نمر على فتيات ضاحكات يسبحن في النهر فنضحك معهن، وعجوز يحاول صيد الأسماك في العصاري فتقول له: لا تفرق الأحبة، نتأمل ظل القمر وهو يستقر في قاع النيل، ويشهر ضوءه في وجه الظلام المتربص بالأعماق فنأنس به.
موال الفراق
تقترب القاهرة.. مدينة الألف مئذنة والقباب الفضية لقلعة صلاح الدين تتوهج في ضوء الشمس وترمق النيل الحليوه الأسمر.. أرنو إلى الشمال.. إلى لجة البحر الأزرق التي أوشكنا أن نبلغها لنبدأ رحلتنا البحرية.. لكن قوة شفط جبارة جذبتني فجأة.. أصرخ في جنون وأتشبث بحبيبتي.. أتجه مقهورا نحو أماكن ضيقة.. اختفت الشمس البهيجة وأتسرب في أنابيب طويلة مظلمة، المهم أننا لم ننزل معا.
انتهت الرحلة وبقينا صامتين نلهث.. فجأة وجدت قوة تدفعني إلى الهبوط.. أمسكت بيد حبيبتي بقوة وأنا أشاهد القطرات أمامي تنزلق إلى أسفل.. إلى كوب يحمله طفل ويملؤه حتى الحافة.. كنت القطرة الأخيرة لحظي العاثر. أغلق الطفل الصنبور بقوة. حاولت جذب نفسي إلى الداخل مرة أخرى لكن جاذبية الأرض كانت أقوى مني.. حاولت أن أجذبها معي لكنني لم أتمكن.. الطفل يحملني ويبتعد، وهي تنادي: أين تذهب؟ لا تتركني.. أصرخ في جنون: سنلتقي حتما.. سأبحث عنك لملايين السنين القادمة وسط كل قطرات العالم.. سأجوب كل البحار، وأسبح في كل الأنهار، وأفتش عنك في باطن الأرض وفي جوف كل مخلوق.. لن أنساك أبدا.
كان الطفل يحملني ويبتعد دون أن يسمع صراخي.. كوب الماء يهتز وقبة السماء تظهر مرة أخرى. نظرت إلى النجوم الزاهرة فوقي فتذكرت عيون حبيبتي وبدأت أستعد لبحثي الطويل القادم عنها.
 

المصدر: شباب عالنت

Source: Annajah.net
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!