الخطابة من شعائر الإسلام ، ودلائل بالحياة وسعيه إلى الامتداد ، وربما كان تأثيرها الروحي نفاذًا أخاذًا ، خصوصـًا إذا كان الخطيب صاحب عقيدة تزحم أقطار نفسه ، وتضطرم بها مشاعره . إنه حينئذٍ يشعل الجماهير حوله كما تشمل النار الهشيم .
وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مثلاً أعلى في صدق اللهجة وعمق التأثير ، وكان إذا خطب احمرت عيناه ، وعلا صوته ، واشند غضبه ، كأنه منذر جيش يقول : ((صبحكم ومساكم ))size=3> ، ويقول : ((بعثت أنا والساعة كهاتين))size=3> ، ويقرن بين إصبعيه للسبابة والوسطى ، ويقول : ((أما بعد ، فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وسلم – ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة size=3>…)) .
ولما كانت نفس الخطيب المؤمن تشبه مولدًا للكهرباء ، فإن الإيمان ينسكب من نفسه مع ألفاظه يشق طريقه إلى القلوب شفـًا . ومن ثم كان الجيل الذي صحب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خير الأجيال ، لعظم ما أفاد منه وانتفع به وأفاد الدنيا ونفع .
ومع هذه المنزلة للخطابة فإن لها قسمـًا لا يقل عنها جدوى ، ولا تستغني الدعوة عنه أبدًا ، وهو الكتَابة ، بل إن ما ارتبط بالخطابة من أجواء عاطفية يجعل مجالها متجهـًا إلى المشاهدة قبل كل شيء ، وإن اعتمدت على سلامة المنطق بداهة ، لكن الكتَابة على العكس ، تتجه إلى العقل وتقوم على الاستعراض المنظم المتأني للأدلة المؤيدة والمفندة ، ولا بأس أن ينضم إلى ذلك أسلوب جيد وسياق جذاب .
ثم إن الخطابة موقوتة الفرص ، منتهية بانتهاء مجالسها ، وانفضاض مجامعها ، أما الكتابة فهي أخلد على الزمن وأعصى على الفناء ، والواقع أن الخطب النفيسة ، تتحوّل إلى أدب مكتوب ، فإن كانت حافلة بعلم نافع أو وعظ بليغ كان بقاؤها في الصحائف امتدادًا في إمكان النفع بها ، وإن كانت صاحبها قد مات ، وضاع الأثر المقترن بسماعها منه وهي تنبض بالحياة من فمه ، وتخرج مفعمة بخصائص نفسه !
والكتابة المؤلفة في خدمة الرسالات المختلفة كثيرة ، ومداها في نشر الدعوات بعيد ، وحسبنا أن الإسلام يعتمد في خلوده ، ونضارة رسالته ، وتجدد دعوته على كتاب فَذّ هو معجزة الدهر ، وصوت السماء الصدوق المبين ، قال تعالى: ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ size=3>)size=3>( فصلت:42 ) ، ومنذ بدأ الإسلام والمؤلفون دائبون على مدرواته بالقلم ، حتى لقد رُوي في الأثر – مبينـًا لهذا الجهد – (يُوزن مداد العلماء بدم الشهداء يوم القيامة) .
والكتابة العلمية تزحم تراثنا الثقافي ، وتدفع به إلى الطليعة في المواريث الأدبية لأهل الأرض ، بل نستطيع الجزم بأن دينـًا من الأديان ، أو مبدأ من المبادئ لم يصنع الحركة العقلية الجبارة التي صنعها الإسلام في العالم ، والتي أنشأ بها حضارة مازالت فيها كل الغنى بأسباب القوة والازدهار ، والمنقبون الآن في مخلفات الفكر الإسلامي كأنما ينقبون في أرض مليئة بآبار البترول أو مناجم الذهب والحديد ، كلما بحثوا عثروا على كنوز مدفونة ، وخير خبيء ، وعظمة غطاها التراب !!
ولا عجب ، فإن الفجر الذي طلع به القرآن الكريم على الوجود ، أنعش العقل الإنساني إنعاشـًا لا نظير له ، وأطلقه ينشط ويجوب ويكدح .
وإذا كان هناك مأخذ على هذا النشاط ، فهو أنه بلغ أحيانـًا حد الإسراف الذي يجهد ولا يغني .
وطبيعي أننا في تلك الأوراق المحدودة لا نؤرخ ولا نتابع الكتابة العلمية لنشر الدعوة الإسلامية وإيضاح أصولها وفروعها ، فذاك مبحث تفرد له مجلدات ، وإنما نريد هنا إثبات ملاحظتين صغيرتين تتعلقان بموضوعنا :
أولاهما : أن الكتابة الأدبية في خدمة الإسلام ليس لها اتساع الكتابة الفنية وانتظامها، وأعني بالكتابة الأدبية ما يذكي العاطفة الإنسانية بعد ربطها بالإسلام ، وأخذها بتعاليمه وعباداته ، وقد تكون للصوفية كتابات ، وأخطاؤهم الكثيرة تشوب هذا اللون من الأدب وتجعل الاستفادة منه عسرة أو خطرة .
وفي عصرنا هذا ارتقت الكتابة الأدبية التي أنوِّه بها في آثار رجلين جليلين هما: الشاعر الهندي محمد إقبال، والأديب العربي مصطفى صادق الرافعي في كتابه ( وحي القلم ) ، والذي أريده ، لون من الأدب الديني يرسم معالم الإسلام كما يرسم الشاعر المفتون بالطبيعة الحدائق الناضرة ، والسماء الضاحية ، والنجوم الزهر ، والليل الساجي . نحن فقراء في هذا الضرب من الكتابة الراقية ، مع شدة الحاجة إليها في تربية العواطف وصقلها باسم الله .
والملاحظة الأخرى: أن الكتابة العلمية – التي استبحرت قديمـًا ثم جمدت أيام الانحلال والتخلف وهجوم الاستعمار ـ لا تزال دون تقدم الوعي الإنساني في هذا العصر ، ودون اتساع دائرة التعلم والتعليم ، وانكماش الأمية الفكرية في كل قطر .
إن المحدثين مازالوا عالة على القدامى ، ولولا صلاحية القرآن لشتى الأعصار لكان تخلف المسلمين العلمي سببـًا في زوالهم ، والمطلوب أن ينتفض الجيل المعاصر انتفاضة الحياة ، ويشرع في خدمة الإسلام ، الخدمة العلمية المناسبة لهذا العصر .
وإني لأذكر – محزونـًا مكروبـًا – أن العلماء المجددين لأمر الإسلام يكافحون في وجه عنت هائل ، ويبذلون جهود الجبابرة ثم يطويهم الجهل والغمط والنكران ، فما يكاد ينتفع بآثارهم إلا الأقل الأقل .
لقد مات محمد فريد وجدي بعد حياة مليئة بالمجد العلمي ، وها هو ذا قد مرت بضع سنين على موته ، فما ذكره أحد بكلمة رثاء ، ولا طبع له كتاب نقد ، ويوشك أن يطويه ومؤلفاته النسيان ، فما هذا ؟ والحال كذلك بالنسبة إلى الشيخ محمد رشيد رضا ، العالم الأديب الجليل الشأن ، وأعرف غيرهم من أصحاب الأسماء التي لم تحظ بالشهرة ، وإن أسدت للإسلام أعظم المنافع ، فالشيخ أحمد عبد الرحمن البنا ، رتّب ” مسند ابن حنبل ” وفق الأحكام الفقهية في خمسة وعشرين مجلدًا ، ومع ذلك فقد ترك الدنيا وكأنه رجل أمي لم يخط حرفـًا ، فضلاً عن أن ينشئ هذا العمل الضخم ، وإن قليلاً جدًا هم الذين أحسُّوا فقده ، ولسنا نأسى على الموتى ، فقد أفضوا على الله تعالى الذي يضاعف الحسنات ، وإنما نأسى على الأحياء الذين لا يحسنون الانتفاع بثمرات المجددين الذين عاشوا مع الزمن يدفعون عن الإسلام ، ويحرسون أركانه ، ويجلون بريقه .
إن الكتابة العلمية الواجبة في هذا العصر يجب أن تتسع وتطرد ، وهناك أمور ذات بال نحب أن نلفت إليها حتى يؤدي القلم حق الإسلام عليه في ذكاء وحصافة ومقدرة ، وفق مقتضيات الأزمان