
في ظل الانتقادات المحلية لتوقيع الحزب الحاكم في إسرائيل “الليكود” برئاسة بنيامين نتنياهو “اتفاق فائض أصوات” مع حزب فاشي عنصري يدعو لترحيل الفلسطينيين )حزب الصهيونية الدينية ( والتحذيرات من تبعات ذلك على صورتها في العالم، كرّر نتنياهو مزاعمه وتبريراته أمس بأنه لن يقوم بتعيين ايتمار بن غفير أحد أقطاب هذا الحزب وأشدهم عنصرية وزيرا في حكومته المستقبلية.
والحقيقة أن بن غفير الذي لا يخفي انتماءه لحركة “كاخ” العنصرية المحظورة برئاسة الحاخام مئير كهانا الذي اغتيل في نيويورك، ليس حالة شاذة في المشهد السياسي الإسرائيلي. لقد سبقت الكهانية نتنياهو وهي معششة في الأحزاب الصهيونية منذ عقود بل من قبل نكبة 1948 ولطالما دعا بعضها بالتصريح أو التلميح لقتل العرب أو طردهم من البلاد بقوة السلاح، وكان لها ممثلون داخل البرلمان الإسرائيلي ربما أبرزهم الوزير رحبعام زئيفي صاحب نظرية الترانسفير الذي صفته الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في القدس المحتلة، ردا على اغتيال قائدها أبو علي مصطفى في رام الله عام 2001.
وبالأمس أظهر استطلاع رأي لراديو تل أبيب أن الظاهرة تتغذى من الفكر الصهيوني وأن ربع الإسرائيليين يؤيدون تعيين بن غفير وزيرا في حكومة مستقبلية مقابل معارضة 46 ٪منهم فقط.
يشار الى أن بن غفير ينشط في حركة ” عوتسماه يهودي”)عظمة يهودية( وهو من أتباع حركة ” كاخ ” ويدافع عن كل المجرمين المعتدين على الفلسطينيين ويعلق في صدر بيته صورة السفاح باروخ غولديشطاين مرتكب مجزرة المصلين داخل الحرم الإبراهيمي في الخليل عام 1994 .
ويأتي “اتفاق فائض الأصوات” مبدئيا عندما يطلب من الأحزاب المرشحة للكنيست “الانقسام إلى أزواج”، وفقا للتقارب الأيديولوجي بينهما، من أجل توقيع اتفاق فائض يحول دون هدر أصوات فائضة بعد احتساب قوة كل حزب وعدد مقاعده. وإزاء الانتقادات الموجهة لليكود ونتنياهو على خلفية توقيع “اتفاق فائض الأصوات ” عاد نتنياهو، أمس وزعم أن بن غفير لن يكون وزيرا وإنما جزءا من الائتلاف فقط. وهذا ما اعتبرته جهات إسرائيلية معارضة نوعا من التضليل وذر رماد في العيون منطلقة ليس فقط من اعتبارات أخلاقية بل براغماتية ترى أن مثل هذا التحالف مع الكهانية يعرض صورة إسرائيل في العالم للخطر.
حتى الآن وقع حزب ” أمل ” برئاسة جدعون ساعر مع حزب ” يمينا ” برئاسة نفتالي بينيت، ووقع حزب ” هناك مستقبل ” برئاسة يائير لابيد مع حزب ” يسرائيل بيتنا ” برئاسة أفيغدور ليبرمان، وحزب ” أزرق- أبيض ” برئاسة بيني غانتس مع حزب ” الاقتصادي ” برئاسة يارون زليخا و” الليكود ” برئاسة بنيامين نتنياهو مع ” الصهيونية الدينية ” برئاسة باتسلئيل سموطريتش وبن غفير.
رسالة مبطنة
وهناك ” اتفاقات فائض أصوات ” محتملة على الطريق بين بقية الأحزاب وسط تساؤلات ما إذا ستوقع القائمة المشتركة مع القائمة العربية الموحدة )الحركة الإسلامية الشق الجنوبي( علما أن مثل هذا الاتفاق يستبطن رسالة احترام للاختلاف والتوافق على قواسم مشتركة من شأنها المساهمة في إدارة منافسة نزيه ومحترمة بين القائمتين العربيتين.
ولا تنطوي خطوة نتنياهو بتوقيع اتفاق “فائض أصوات” على مفاجأة حقيقية فهو طالما كان مستعدا للقيام بكل شيء من أجل البقاء في الحكم دون أي وازع سياسي أو أخلاقي. وهذا ما يفّسر تغيير استراتيجية الاستعداد بالاحتواء في تعامله مع المواطنين العرب الذين طالما حرّض عليهم وسعى لشيطنتهم قبل أن يتزلف لهم ويحاول التقرّب لهم وزيارة بلداتهم في الشهور الأخيرة. وهذا ما أكدته صحيفة ” هآرتس ” في افتتاحيتها بقولها إن نتنياهو في نضاله من أجل استمرار حكمه يلجأ إلى وسائل أو شركاء، حتى لو من أيديولوجية كاهانا العنصرية السوداء. وتابعت “نتنياهو لم يوقع فقط شهادة ترويج للكهانية وممثله في الكنيست. في الواقع، هو أيضا عراب الاتحاد نفسه بين سموتريتش وبن غفير. فقط بفضل نتنياهو، الذي أراد أن يجمع قائمة يمينية أخرى من شأنها أن توصي عليه بتشكيل الحكومة، وبفضل المهر السياسي الذي وعد أمس الإثنين بتوحيدهما” .
واستذكرت “هآرتس” أن بن غفير يحاول التسلل إلى الكنيست منذ فترة لكنه لم ينجح أبدًا في أن يصبح نائبا وأنه في انتخابات نيسان/ أبريل 2019، خاض الانتخابات مع سموتريتش ومع حزب “البيت اليهودي” لرافي بيرتس )حتى ذلك الحين بفضل جهود التوفيق بين نتنياهو( كجزء من توحيد الأحزاب اليمينية، لكنه لم يدخل الكنيست، أما في الانتخابات السابقة، فخاض بن غفير منفردا ولم يعبر نسبة الحسم وهدر بضع عشرات آلاف من الأصوات. وتابعت “هآرتس”: “إذا نجح خليفة كهانا في دخول الكنيست في آذار/ مارس المقبل فسيكون ذلك من الإنجازات المريبة الأخرى لـ “الساحر” نتنياهو، وغني عن القول، لا يوجد سحر هنا، عندما لا تكون هناك قيود أخلاقية، فإن مساحة المناورة السياسية تكاد لا تنتهي. معتبرة أن المهر الذي دفعه نتنياهو كبير، مقابل توحيد ” الصهيونية الدينية ” التي ستحظى من جملة مكاسب بممثل في لجنة اختيار القضاة. وقال إنه بعبارة أخرى، لم يتوسط نتنياهو بين سموتريتش وبن غفير فحسب، بل توسط أيضًا بين الليكود وبينهما، مؤكدة أنه في أفعاله، يعترف نتنياهو بأن الكهانية حليف، وعضو وجزء من عائلة الليكود.
جذور الكهانيّة عميقة في المجتمع الإسرائيلي
وتعود الكهانية الى الحاخام العنصرية الكاره للعرب مئير كهانا، مؤسس رابطة الدفاع اليهودية، وعصابة “كاخ” الفاشية، المحظورة حسب القانون الإسرائيلي. وشغل منصب عضو كنيست في الكنيست الحادي عشر، وفي عام 1988 تم شطب قائمته الانتخابية، ومنعها من خوض الانتخابات الإسرائيلية العامة، بشبهة أنها عنصرية وبعد عامين، لقي مصرعه مقتولاً بعد انتهائه من إلقاء خطاب في نيويورك.
ويلفت محرر الشؤون الإسرائيلية الكاتب انطوان شلحت أن حجة الذين أقاموا تلك الضجة تمثلت بأن هذه الاتفاقية تساهم في “شرعنة الكاهانيّة” وفي غمرة ذلك زعم هؤلاء أن حظر عصابة كهانا المذكورة تسبّب بتكريس نظرة عامة إلى العنصريـة بصفتها أمراً استثنائياً وشاذّاً في المجتمع الإسرائيلي.
ويتابع في مقال مهد فيه لعدد جديد من ” قضايا إسرائيلية ” انه من السهولة بمكان دحض هذه المزاعم كلها، من دون تسخيف دوافع الواقفين وراء تلك الضجة. ولغرض دحضٍ كهذا، يشير شلحت بداية إلى أنه، بعد 12 عاماً من حظر تلك العصابة، وبالتزامن مع انتفاضة القدس والأقصى عام 2000 التي شارك فيها الفلسطينيون في الداخل، جرى تعليق لافتاتٍ في شوارع كبرى المدن الإسرائيلية، كُتب عليها “كهانا على حق” .
وفي يونيو/ حزيران 2001، بعد ساعات قليلة من إحدى العمليات الاستشهادية الفلسطينية في قلب مدينة تل أبيب )”عملية الدولفيناريوم”(، تجمهر شبان يهود كانوا يرتدون البزّات الصفراء، وعليها شارة عصابة “كاخ”، بالقرب من مسجد حسن بك في مدينة يافا، الذي أقيمت فيه مراسم الصلاة، وبدأوا بإلقاء الحجارة نحو جموع المصلين، وترداد هتافات “الموت للعرب” .
وفي ذلك الحين خلصت إحدى الدراسات الإسرائيلية التي تناولت هذه المظاهر، ونشرت في مايو/ أيار 2002، استنتاج فحواه أن جذور العنصرية الكهانيّة عميقةٌ في المجتمع الإسرائيلي. منوها أن تلك الدراسة نفسها )وهي لأحد أساتذة العلوم السياسية في جامعة حيفا، بداتسور(، رأت أيضاً، أن ما أسمته بـ”التطرّف اليمينيّ” ليس مسألةً شاذّة في ممارسة المجتمع والساسة في دولة الاحتلال.
ويضيف “عملياً قبل عام 1948، نشطت في فلسطين تيارات قوموية كان في مقدمها التيّـار التنقيحي )بزعامة زئيف جابوتنسكي(، وتأثرت أجزاء منها بفكر الفاشية الأوروبية. غير أنه في الأعوام بين 1948 و 1967، ظلت هذه التيارات في صفوف المعارضة )وأساساً ضمن حركة حيروت( إلى أن وقع احتلال 1967 الذي أعاد تمهيد الأرضية لـ”اشتداد عودها”، وتقدّمها إلى مركز الصدارة، وكذلك لظهور مزيدٍ منها على غرار أحزاب “هتحيا” و”تسومت” و”موليدت” المنحلّة، وأيضاً عصابة “كاخ” .
تهجير فلسطينيي 48
كما يشير إلى أن الأمر الأهم في هذه الدراسة، التي استندت من ضمن أمور أخرى إلى استطلاع للرأي العام، أنها وجدت نسب تأييد للأفكار المتوحشة التي كانت تلك العصابة تدفع قدماً بها (منها تشجيع تهجير فلسطينيي 48، وشرعنة شنّ هجوم عليهم بعد وقوع عمليات مقاومة)، في صفوف ناخبي جميع الأحزاب اليهودية، بما في ذلك التي تؤطر نفسها ضمن خانة الوسط أو خانة “اليسار”، مثل حزب ” ميرتس” . بموجب الدراسة نفسها، تقوم الكهانيّة على أربعة أسس: العنصرية، والتطرّف القومي الذي يتجسّد بشهوة التوسع الإقليمي، ومعاداة الديمقراطية، وتبرير استعمال العنف. ويتساءل شلحت “أفليست هذه الأسس هي نفسها التي تقوم عليها إسرائيل، وتسعى إلى ترسيخها أكثر فأكثر في الآونة الأخيرة؟”.
عنصرية بنيوية
ويتابع “بخصوص العنصرية، ما زالت تتردّد إلى الآن أصداء ملاحظة الباحث شلومو ساند )ضمن كتابه “كيف لم أعد يهودياً؟”، الصادر عن منشورات مدار قبل عدة أعوام( التي لفت فيها إلى أن العنصرية موجودة تقريباً في كل مكان من العالم، غير أنها في إسرائيل غدت بنيويةً أساساً بروح القوانين التي جرى ويجري سنّها من طرف السلطتين التنفيذية والتشريعية، وهي تُدرّس في جهاز التربية والتعليم، ومنتشرة في وسائل الإعلام، والمروّع أكثر من أي شيء، برأيه، أن العنصريين فيها لا يعرفون أنهم كذلك، ولا يشعرون أبداً بوجوب الاعتذار.
ويوضح شلحت أن نتنياهو عمّق تحالفه مع القائمة الانتخابية، التي تضم حركة “قوة يهودية” (عوتسما يهوديت)، المنبثقة عن حركة “كاخ” الإرهابية، المحظورة بموجب القانون الإسرائيلي، كما أنها محظورة في الكثير من الدول بينها الولايات المتحدة. وتبين أن اتفاق الليكود مع هذه القائمة، على “فائض الأصوات”، يشمل تعهدا بضم “ممثلين” عن القائمة وزراء في حكومته. وهذا من شأنه أن يخلق حالة صدام مع حلفاء آخرين في الحكومة سيرفضون ضم وزير من ” عظمة يهودية” . كما أن هذا التحالف بات يقلق كتلتي المتدينين المتزمتين )الحريديم( الأكثر ارتباطا بالليكود.
ومن ناحية أخرى، تُظهر استطلاعات الرأي حالة تأرجح عند نسبة الحسم، أو الابتعاد منها، لعدد من القوائم، بينها لأول مرة قائمة “ميرتس”. ويستذكر ما شهدته الأيام الأخيرة من ضجة في الصحافة الإسرائيلية، وفي بعض جوانب الحلبة السياسية، حول مضمون اتفاق فائض الأصوات الذي أبرمه نتنياهو مع قائمة “الصهيونية المتدينة” التي تضم حركة ” عظمة يهودية”، لأن الاتفاق يضمن “تمثيلا لممثلي القائمة في الحكومة التي سيرأسها نتنياهو”، ما يعني أن التمثيل قد يشمل وزيرا من حركة ” عظمة يهودية”، وهذا ما قد يخلق عقبات أمام نتنياهو، في حال كان هو الشخص الذي سيشكل الحكومة وهذا خيار غير مؤكد مقابل خيار استبداله بمرشح آخر أو الذهاب لانتخابات عامة خامسة، بسبب تكريس حالة التعادل بين معسكر نتنياهو وبين معسكر مناهضيه.
