اليونان تعاطوا مع العمليات الكيميائية من خلال التنظير فهم قوم يعشقون الفلسفة ، و لذلك اخترعوا فكرتين وهميتين هما حجر الفلاسفة (حجر يحول المواد الخسيسة إلى ذهب ) و إكسير الحياة (عقار يمنح الشفاء من كل داء و الشباب الدائم و خلود الحياة). لكن ذلك تنظير اقتصر على مجرد التمنيات ولم يبذل نحو تحقيقه أي جهد .
لم يضف الرومان إلى العمليات الكيميائية شيئا يذكر لاهتمامهم بالعسكرية والرياضة والترفيه ، وانطبق عليهم القول (عضلات كبيرة و عقول صغيرة). الإمبراطورية الرومانية هدمها المسلمون في عصر الخلافة الراشدة .
لقد كانت فترة الخلافة الأموية انشغال بالفتوحات حتى وصلت ثغور الدولة الإسلامية إلى الصين شرقا والمحيط الأطلسي غربا .
في العصر العباسي ، ابتدأ النظر في المعارف و العلوم التي وجدت في البلاد المفتوحة وفي البلاد المجاورة و جرت ترجمات كثيرة للكتب . عثروا على متفرقات تتضمن فكرتي حجر الفلاسفة و إكسير الحياة ، فانصرف جزء من العلماء إلى البحث عن ذلك في أماكن خفية مغلقة و تحت الأرض. هذا الاستتار كان يهدف إلى حيازة حجر تعرفه القلة لتنال الثروة لانه لو علمته العامة لاصبح الذهب برخص التراب . ممارسة البحث السري هذا أطلقوا عليه علم الكمي (كلمة الكمي العربية تعني الاختباء و الإخفاء ، ومن الكلمات المألوفة القريبة منها كلمة كمين و تعني المكان الذي يختبئ به إنسان مثلا ليصطاد إنسانا آخر أو حيوانا). في تلك الفترة ، ارتفعت صيحات الاحتجاج على هذا العلم من قبل العلماء (يقول الإمام أبو الفرج الجوزي في كتاب صيد الخاطر :… و أبله من هؤلاء من يتشاغل بعلم الكيمياء فانه هذيان فارغ . وإذا كان لا يتصور قلب الذهب نحاسا لم يتصور قلب النحاس ذهبا . فإنما فاعل هذا مستحل للتدليس على الناس ، هذا إذا صح له مراده . (
بسبب تحريم الدين لكتمان العلم ، كان لا بد من أن ينتقل هذا العلم من زوايا الظلام إلى بقاع النور الساطع لكي يطلع عليه كل من يرغب فيه ، و هذا ما أتاح لعقليات فذة أن تدخل لتصويب الوضع القائم من أمثال جابر بن حيان و ابن سينا و الكندي و غيرهم .
تضمن التصويب إقامة الكيمياء على التجربة و الملاحظة و الاستنتاج . هذه الطريقة العلمية في التفكير أو الحكم على الأشياء هي حجر الزاوية في تأسيس الكيمياء كعلم نافع للإنسانية جمعاء . و لقد كان أثرها سريعا من خلال الإنتاج في عصر الخلافة العباسية و شمل ذلك استحضار مواد و اكتشاف تقنيات لم تعرفها البشرية من قبل وهذه بعض الأمثلة :
من المواد ، استحضروا حمض الكبريتيك (أسموه زيت الزاج ) ، حمض النتريك ، الماء الملكي (مزيج من أحماض النتريك و الهيدروكلوريك يذيب ملك المعادن –الذهب- ) ، الصودا الكاوية أي هيدوكسيد الصوديوم،
نترات الفضة ، كربونات البوتاسيوم ، كربونات الصوديوم ، حمض الطرطير ، غاز النشادر أو الامونيا (سموه في البداية نوشادر) ، كبريتات الحديدوز (أسموه الزاج الأخضر) ، كبريتات النحاسيك (أسموه الزاج الأزرق)، الكحول (أسموه ابتداء الغول لانه مادة الخمر التي تسكر فتغتال العقل) ، و العديد من مركبات الرصاص و الزرنيخ .
من التقنيات التي اكتشفوها ووصفوها بإتقان لم تعهده البشرية قبل العصر العباسي ، الترشيح ، التذويب ، التبلور ، التصعيد ، الترويق ( وهو صب السائل بهدوء بمعزل عن المادة الصلبة التي لم تذب فيه كما نفعل عند احتساء القهوة العربية) ، التسامي ( تحول المادة من حالة الصلابة إلى الحالة الغازية بدون المرور في حالة السيولة) ، التكليس ، التقطير (وهو تبخير + تكثيف) . في كتاب صناعات العمليات الكيميائية لمؤلفيه شيريف وبرينك يقولان ما ترجمته حرفيا : إن تقنية التقطير البخاري العبقرية يعود الفضل فيها لعالم القرون الوسطى أفيسين (وهو الاسم المحرف للعالم ابن سينا(
استخدم علماؤنا الأفاضل المواد و التقنيات في الطب و الصناعات المختلفة مثل صنع العقاقير و تركيب الأدوية و تنقية المعادن و تركيب الروائح العطرية و دبغ الجلود و صبغ الأقمشة ، و في بعض مؤلفات جابر وصف لصناعة الفولاذ و صقل المعادن الأخرى .
يقول ابن الأثير: إن العرب استعملوا أدوية إذا طلي بها الخشب امتنع احتراقه ، و اشتهروا في صناعة الزجاج و التفنن فيها ، و كذلك في صناعة الورق . يقول لويجي رينالدي العالم الإيطالي ” … إن العرب أول من أدخل هذه الصناعة( الورق) إلى أوروبا ، وقد أنشأوا لذلك مصانع عظيمة في الأندلس و صقلية ، ومن ذلك الحين انتشرت صناعة الورق في إيطاليا كلها(
لا بد هنا من التعليق على أمر صناعة الورق : الصينيون هم الذين اكتشفوا هذه الصناعة في زمن النبي محمد (صلى الله عليه و سلم) تقريبا – و كأن الله عز وجل قد سخرهم لخدمة القران الكريم – ، لذلك فان المكتوب على الرقاع و الجلود و العظام في وقت النبي قد جرى نقله إلى الورق في عهد الخليفة عثمان بن عفان (رضي الله عنه) حين وصلت الأوراق إلى بلاد الإسلام، و تقول الروايات المؤكدة أنه قد تم نسخ 7 مصاحف عثمانية وزعت على الأمصار و هي ما نراه الآن في مصر أو سمرقند أو استانبول مثلا . الصينيون شعب كتوم للعلم و يؤمنون بما يسمى (سر الصنعة) منذ القدم و حتى الآن ، ولذلك فانهم في البداية عرضوا على المسلمين إقامة مصانع للورق يديرها صينيون لكن المسلمين رفضوا هذا العرض و أصروا على تعليمهم هذه الحرفة مقابل دفع مبالغ مالية مغرية مما جعل الصينيين يستسلمون . بعد ذلك ، كان المسلمون هم من أدخل التحسينات على صناعة الورق ثم نقلوها إلى أوروبا لتشهد تطويرا رائعا نرى أثره الآن . لو لم يضحي المسلمون بالمال ، لبقيت صناعة الورق حكرا على قوم قد لا يبدعون فيها و لربما كان ما في أيدينا الآن أوراق صفراء خشنة لا تصلح للطباعة . العلوم تتقدم و تثرى حين يتاح المجال للعديد من العقليات في مختلف أرجاء العالم لكي تسهم فيها ، أما ما يسمى (سر الصنعة) فهو وصفة غبية للإبقاء على التخلف و دليل على عدم الإيمان بأن الرزق هو بيد الله وحده … و الواقع أن هذا ما تفعله الدول الصناعية الكبرى حاليا .
حين يقرأ الجيل الشاب هذا المقال سوف يتعجبون و لربما يقولون : هل كانت أمتنا حقا هي التي أوجدت علم الكيمياء بمواده و تقنياته و طرائقه الأساسية ؟ الجواب على ذلك : نعم بالتأكيد ، فلقد كانت أمة ناهضة ماجدة عظيمة تحترم العلم و العلماء ، وكان الخليفة المأمون مثلا يعطي العالم وزنا من الذهب يعادل وزن كتابه .
لقد تساءل الأستاذ أبو الأعلى المودودي (رحمه الله): ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ؟ و الجواب عندي: الكثير الكثير ، فالكيميائي المسلم الملتزم شعاره الحديث الشريف (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه)
و أستاذه جابر صاحب كتاب (نهاية الإتقان(
لم أتعجب حين نال العالم الكبير أحمد زويل جائزة نوبل على أبحاث ( كيمياء النانو nanochemistry) ، فهو ابن هذه الأمة التي أنجبت النوابغ ، هذه الأمة التي لا تعيش تحت تأثير الخمور و المخدرات ولا تحت العقد النفسية والقلق الداخلي ولا تحت قسوة الحياة المادية التي لا ترحم وتطمئن قلوبها بذكر الله ، من الطبيعي أن يبدع أبناؤها . لذلك فان المستقبل سيكشف مدى الإجرام الذي اقترفه أولئك الذين كانوا وما يزالون يبذلون جهودا جبارة لاعاقة العرب والمسلمين عن التقدم ، حيث أن تقييد هذه الأمة لحوالي قرن من الزمان قد أدى إلى تأخر الإنسانية ألف عام بدون مبالغة.
على أي حال ، وفد الأوروبيون إلى جامعات الأندلس لينهلوا كافة العلوم و من ضمنها الكيمياء ولم يبخل عليهم علماؤنا بشيء ، و نقل الأوروبيون ذلك إلى بلادهم . أي استلموا الشعلة من هذه الأمة هناك و كذلك من بلاد الشام حين غزاها الصليبيون (متعلمين فيها صناعات كيميائية كثيرة مثل الصابون و العطور ) و بسبب البطء في الفهم و الاستيعاب لدى الأوروبيين تأخر التقدم في الكيمياء إلى القرن السابع عشر الميلادي . ثم دارت العجلة و دبت فيهم الحيوية للسير ، وفي الوقت ذاته ذهبت أمتنا إلى النوم و تعاون عليها البعيد و القريب ليمنعوها من الصحوة في كافة مجالات الحياة ومن ضمنها الكيميـــاء .
المصدر: مجلة المياه
Source: Annajah.net