‘الماضي’ لأصغر فرهادي: فرنسا الحائرة بين إيران والعرب
[wpcc-script type=”98f3cc0a76ceb66cada7d813-text/javascript”]
يواصل المخرج الإيراني ‘أصغر فرهادي’ تتبّع الحالات الإنسانية وكشف تناقضات شخوصه في فيلمه ‘الماضي’. فرهادي هو صاحب الأوسكار عن فيلم ‘انفصال نادر وسيمين’. وهي المرّة الأولى التي يحصل فيها فيلم إيراني على هذه الجائزة، بغض النظر عن الظرف السياسي المتوتر ــ ظاهرياً ــ بين الولايات المتحدة وإيران. أما في فيلم ‘الماضي’، والذي كان ينافس على السعفة الذهبية بهرجان كان الفائت، إلا أنه استطاع الحصول على جائزة لجنة التحكيم، كما حصلت بطلته ‘بيرنيس بيجو’ بطلة الفيلم الصامت ‘الفنان’ على جائزة أفضل ممثلة بالمهرجان نفسه.
هذه المرّة تدور الأحداث في فرنسا، وتنطق الشخوص بالفرنسية، ويدور العمل من خلال علاقات متشابكة بين ثلاث جنسيات، كل منها يتصرف وفق تاريخه وإرثه الثقافي … امرأة فرنسية تريد إنهاء علاقتها برجل إيراني، لتواصل حياتها مع آخر عربي.
الحواجز الزجاجية
يبدأ الفيلم بوصول أحمد ‘علي مصفى’ من إيران إلى باريس، لإتمام إجراءات الطلاق، حسب رغبة ماري ‘بيرنيس بيجو’، حتى تتمكن من الزواج من سمير ‘طاهر رحيم’ العربي المقيم في باريس. وعند اللقاء الأول بينهما في المطار يقف أحمد خلف باب زجاجي يتحدث إلى ماري، التي تبادله الحديث، دون أن يسمع أحدهما الآخر، وهو افتتاح دلالي بالفيلم تأكيداً لحالة عدم التواصل، وعدم الرغبة في سماع الآخر، وهو ما يستمر طوال أحداث الفيلم، فالتأكيد هنا على حالة عامة بين شخصيات الفيلم، رغم طبيعة العلاقات المتشابكة، فكل شخصية ترى الأمر من وجهة نظرها، ولا يحركها سوى ماضيها وانعكاسته على مستقبل هذه العلاقات. بداية من الحديث ومتابعة كل منهم للآخر سواء من خلف أبواب الزجاج كما أسلفنا، أو من خلال زجاج النوافذ المغلقة في بيت ماري.
جغرافيا البيت
لا يريد أحمد في البداية الإقامة ببيت ماري، والذي يذكّره بعلاقتهما القديمة، خاصة وهو جاء من إيران وقد حسم أمره على إنهاء هذه العلاقة، وتتعلل ماري بعدم حجز غرفة له بأحد الفنادق بأنها لم تكن متأكده من قدومه، خاصة وأنه وعدها أكثر من مرّة بالمجيء، لكنه لم يف بوعده. فالمرأة تريد أن تنهي العلاقة، وتلح في هذا، لكنه تريد الانتقام بأن تجعل أحمد يقوم بذلك وهو يعيش في ماضي هذه العلاقة ــ مكانياً على الأقل ــ شكل من أشكال التعذيب والإهانه، كما كشف عنه أحمد في نهاية الأحداث.
من ناحية أخرى .. نجد أن البيت في حالة تجديد تقوم بها ماري، طلاء الجدران لم يكتمل بعد، الأثاث والأشياء مغطى ومنزو في أركان المكان، كنوع من محو ذكريات تود صاحبة المكان نسيانها، أو التحايل على نسيانها، ورغم ذلك تأتي بشريكها في هذه الذكريات ــ وقد جمعت حاجياته في حقيبة، وألقت بها في غرفة التخزين ــ ليشهد انهيارها. إضافة إلى أشجار الحديقة الذابلة، والجو الشتوي الغائم المسيطر على الأحداث من بدايتها حتى النهاية.
الضوء الوحيد القوي/الحار هو الذي نراه في نهاية الفيلم، عندما يتلمّس سمير يد زوجته في المستشفى، التي تعيش في غيبوبة، فقط ليتأكد أنها لم تزل حيّة، لتضغط برفق على يده، وتنحدر منها دمعة في بُطء شديد. ربما تكون بداية جديدة لسمير معها، وربما إيحاء بشعوره بالذنب، خاصة وهو الذي يريد التأكد من موتها، حتى يتزوج من ماري.
لعبة إخفاء الحقائق
لوسي هي الابنة الكبرى لماري، إضافة إلى أخري صغيرة (ليا) كل منهما من أب مختلف. لوسي المراهقة ترفض زواج أمها بسمير، وتصر على أن زوجة سمير التي تحيا في غيبوبتها وصلت لهذه الحالة ــ نتيجة محاولة انتحار ــ لأنها اكتشفت علاقة سمير بماري. لوسي هي التي تحرك الأحداث، والتي على علاقة طيبة مع أحمد، مما يورطه في محاولة إصلاح الأمر بينها وبين أمها، وهو الذي جاء لأيام قليلة ليحسم أمره، ويعود لبلده سريعاً، خاصة وأنه خاض تجربة العيش في فرنسا، لكنه لم يستطع التأقلم مع الحياة الفرنسية. يقابل أحمد كل ذلك بصدر رحب، بداية من حواره مع لوسي وماري، واللعب مع ليا و’فؤاد’ ابن سمير الوحيد من زوجته المريضة، وهو طفل مشاكس، لكنه يخفي رقة وخوف وحزن على والدته، التي يرفض زيارتها في البداية، لكنه في الحقيقة خائف من فقدها.
تتواصل الشخصيات في عرض وجهات نظرها، إلا أن أسباب كل منها يكشف عن حقائق أخرى طوال الأحداث. لوسي التي تصر على معرفة الزوجة بأمر العلاقة بين سمير وماري، تأتي في النهاية لتعترف بأنها هي مَن أرسلت للمرأة الرسائل الإلكترونية بين أمها وصديقها، مما أدى بالزوجة للانتحار، وهو الذنب الذي لم تعد تحتمله لوسي.
وماري التي تريد أن تبدأ حياة جديدة مع سمير، تعترف بأنها تنتظر منه طفلاً، وأن يدها التي تؤلمها بحجة أنها هي مَن تقوم بطلاء المنزل، أصبح السبب الآن من جرّاء الحمل.
حتى أن سمير نفسه، والذي يبدو عدوانياً تجاه الآخرين في البداية، ويؤنب طفله فؤاد، ويجبره على الاعتذار للآخرين عند صدور خطأ منه، تبدو حالته في النهاية من أكثر الشخصيات حيرة وتردد، خاصة عندما يكتشف في النهاية أن زوجته لم تقدم على الانتحار بسبب علاقته بماري، ولكن لشكّها في علاقته بإحدى العاملات في متجر تنظيف الملابس، الذي تملكه. فنتائج اللحظة المأزومة التي يعيشها الجميع دائماً ما تنكشف أسبابها البعيدة، غير المُصرّح بها في البداية. وحالات الهدوء التي تبدو على الشخصيات تخفي خلفها صراعاً لم يظهر على السطح إلا لحظات، تبدو الشخصيات فيه على حقيقتها، وتعرف علّة حاضرها، لكنها لحظات قليلة، وبالتالي يبدو مستقبل هذه العلاقات مرتبكاً وضبابياً … كما بيت ماري والجو الغائم الذي تدور به الأحداث.
البطل الإيراني
يبدو أن ‘فرهادي’ أراده من بطله أن يكون الأكثر ثقة من الآخرين … فهو الوحيد القادر على التواصل بين الجميع، الوحيد الذي لم يتردد في أفعاله، ترك فرنسا، وجاء في زيارة سريعة لإنهاء آخر علاقاته بالمكان/الانفصال عن ماري. يشترك في الأحداث ويتفاعل معها، ويبدو أنه الوحيد الذي حسم أمره في قطع صِلته بهذا الماضي، الذي تحياه باقي الشخصيات وتتنفسه، مما يجعلها عاجزة عن رؤية واضحة للمستقبل. فقط أحمد والزوجة الغائبة عن الوعي، الذي أصبح غيابها ــ جسداً ــ أشد حضوراً وثقة من آخرين يتوهمون أنهم على قيد الحياة.
*كاتب من مصر