المترجم الفلسطيني خيري حمدان: مخزون الذاكرة العربية يكفي لكتابة آلاف الروايات
[wpcc-script type=”82e4822107360ac4b434a130-text/javascript”]
خيري حمدان مترجم وروائي، يعتبر اليوم أحد المترجمين الأساسيين للأدب البلغاري من وإلى اللغة العربية. ولد حمدان في قرية دير شرف- نابلس عام 1962، أنهى دراسته الثانوية في الزرقاء ثمّ غادر إلى صوفيا لينال شهادة الماجستير في الهندسة. تفرّغ للعمل في مجال الصحافة والترجمة في تسعينيات القرن الماضي. صدر له العديد من الروايات والأعمال الشعرية باللغة البلغارية أهمّها «أوروبي في الوقت الضائع»، «أحياء في مملكة السرطان»، «مريمين»، «حياة واحدة لا تكفي»، «المخرج الأخير»، ومسرحية «هل يسمعني أحد»، التي فازت بجائزة الدارة الحمراء ولعبت على خشبتها بتمويل أوروبي. صدر له باللغة العربية رواية «أرواح لا تنام»، رواية «انعتاق»، رواية «حدائق البندق»، مسرحية «دعني أعِش، دعني أمُت». فكان لـ»القدس العربي» معه هذا الحوار..
■ على الرغم من وجودك منذ أكثر من ربع قرن في بلغاريا إلا أن الأردن وفلسطين بقيت هي المسرح الدائم لأعمالك الروائية، ما تفسير ذلك؟
□ أهمّ الفترات الزمنية في عمر أيّ مواطن هي السنوات العشرون الأولى من حياته، التي تبقى بمنزلة الذاكرة المشبعة بالوجدان والانتماء، والمحرّك الدائم للتواصل مع الذكريات والأحداث التي عايشها يومًا ما خلال مرحلة الطفولة والمراهقة، وبدء مرحلة النضوج. كيف لي أن أنسى فلسطين والأردن، هي الخالدة في الذاكرة والقلب والمرجع الأوّل والأخير في معظم أعمالي الأدبية، على الرغم من الحضور الغربي في أعمالي أيضًا، لكن دومًا ستجد الأسماء العربية في أعمالي الأدبية القادرة على الحضور القويّ والمشرف على مسرح الأحداث العالمية.
■ تعتمد كثيراً على الذاكرة في كتاباتك. ماذا تعني لك الذاكرة؟
□ لا أدري، هل نحن محظوظون بهذا المخزون الكبير من الذاكرة، احتلال، حروب أهلية، هجرة بل هجرات. على الصعيد الشخصي، معايشة المرحلة الاشتراكية والانقلابات البيضاء والمرحلة الانتقالية التي لم تنته منذ قرابة الثلاثة عقود في أوروبا الشرقية؟ هل نحن محظوظون؟ نمتلك حقًا كمًّا كبيرًا من مخزون الذاكرة يكفي لكتابة آلاف الكتب والروايات والدراسات في سياق المعاناة البشرية ومحاولات الانتقال لأنظمة سياسية واقتصادية وحياتية مختلفة جديدة جملة وتفصيلا، متباينة عن المراحل السابقة التي استمرّت كذلك لعقود طويلة للغاية. أستقي من هذا المخزون الفكري والمعلوماتي الكثير في أعمالي، التي تبدو أحيانًا واقعية. قد تكون هذه إحدى مراحل حياتي أدبيًا، تتبعها مرحلة أخرى من استخدام حدث ما لكتابة رواية أو قصّة قصيرة أو طويلة، مسرحية أو دراسة نقدية. الذاكرة هي همزة الوصل مع الزمان والمكان، هي الملجأ الذي يحميني من الظمأ والعجز عن الكتابة. الذاكرة هي كلّ ما أملك، أمّا الشعوب المحرومة من الحضور اليومي لذاكرتها فهي محكومة بالنسيان.
■ برأيك لماذا يعاني العالم العربي من ضعف الصلة بين الأدب وقرائه، بين الثقافة العربية وأبنائها؟
□ هناك أسباب ومسبّبات بما يتعلّق بتراجع قيمة الأدب وتحوّل المواطن العربي لمجرّد مستهلك وأمّي بمحض إرادته. الشعر يحظى باهتمام كبير في بلغاريا، والشعراء البلغار بدورهم يحسدوننا على وراثتنا لكنوز الشعر العريق، وقدرتنا على تذوّقه ونظمه، مؤكّدين على أنّ الشعراء العرب قد رضعوا الشعر من منابعه الحقيقية، وهذا لا يتنافى مع الواقع والحقيقة. وانقطاع الصلة ما بين الشعر والشعراء والقرّاء في العالم العربي مرتبط بالسياسات الثقافية وليس من المنطقي إلقاء اللائمة دومًا على المواطن التقليدي العادي. ليس من المتوقّع أن يتذوّق المواطن العربي جائعًا أو مهمومًا، القراءة والاستمتاع بالشعر يحتاج لأريحية واستقرار نفسي، كما توجد ضرورة لإحياء واستحداث المزيد من الفعاليات والتقاليد الشعرية، وتقديم الدعم والجوائز والتقدير والثناء للقارئ الجيد والأديب المبتدئ، فالمثقفون في نهاية المطاف هم النخب التي تمثّل الشعوب التي يجب أن تفخر بها الحكومات والنخب السياسية، باعتبارها لسان حال الأمّة والمتحدّث الجيّد باسمها.
أرواح لا تنام» كتبت بداية باللغة البلغارية تحت عنوان «أوروبي في الوقت الضائع»، وجدت العنوان غير مناسب حين قررت كتابتها باللغة العربية، وجاء عنوان «أرواح لا تنام» بمعنى الشخوص المعذّبة التي لا تعرف الراحة والسكينة.
■ ماذا عن روايتك «أرواح لا تنام»، وكتابتها بالعربية والبلغارية؟
□ «أرواح لا تنام» كتبت بداية باللغة البلغارية تحت عنوان «أوروبي في الوقت الضائع»، وجدت العنوان غير مناسب حين قررت كتابتها باللغة العربية، وجاء عنوان «أرواح لا تنام» بمعنى الشخوص المعذّبة التي لا تعرف الراحة والسكينة. وهي تتناول بصيغة درامية العديد من الأحداث التي مرّت بها دول أوروبا الشرقية ممثّلة ببلغاريا في أثناء مرحلة الحقبة الاشتراكية، وتبعات الحصار الاجتماعي وحظر مغادرة البلاد والتعامل الحرّ مع العالم الخارجي وغيرها من ثنايا الحياة الخفية، بالطبع كان للاشتراكية الفضل الكبير بتطوير بلغاريا على الصعيد المعماري والتقني، لكنّها مرحلة مشبعة بالأيديولوجية شديدة التعقيد، الرواية تتناول شخصية أديب ومفكّر يسعى للخلاص بكافّة الطرق القليلة الممكنة من حصاره الداخليّ والكوني أيضاً، لذا تراه متقلّب الهوى ويتنقّل من امرأة لأخرى، لعلّه يجد راحته في كنف إحداهنّ. النسخة العربية الصادرة عن دار البيروني ليست ترجمة للنسخة البلغارية، بل نقلتها بتصرّف لتحقيق الفائدة المرجوّة، وقد أخذ عليّ بعض الكتاب البلغار العنوان البلغاري للرواية مؤكّدين على أنّ آسيا أيضاً تعيش في الوقت الضائع، بدوري أؤكّد حالياً أنّ الإنسانية برمّتها تعيش في الوقت الضائع، بعيدًا عن الطموح الأخلاقي الكوني والعقائدي، ما أتاح الفرصة للدكتاتوريات بالتوغّل تقتيلاً وتهجيراً بمواطنيهم، إضافة لتفشّي الفقر والأمية والأمراض الجسدية والنفسية.
■ وكيف ينظر المجتمع البلغاري للمهاجرين العرب؟
□ علينا أن نضع بالحسبان المرحلة الاشتراكية التي وسمت العالم الاشتراكي بمسمّىً قاسٍ وهو «المعسكر»، حرس الحدود في تلك المرحلة لم يتردّدوا لحظة واحدة آنذاك بإطلاق الرصاص على كلّ من يحاول قطع الحدود بطريقة غير رسمية للهرب إلى العالم الغربي، خلافًا لما تطالب به بعض القوى القومية المتطرفة حاليًا بإطلاق الرصاص على كلّ من يحاول تجاوز الحدود وعبور الأراضي البلغارية. المجتمع البلغاري وتحت تأثير وسائل الإعلام وسياسة اليمين المتطرّف لا يرحّب باللاجئين ويرى بأنّهم قادمون لسرقة لقمة عيشهم واقتناص فرص العمل والحصول على الضمانات الاجتماعية والصحية بدون أن يحرّكوا ساكنًا. لذا فإنّ اللاجئين غير مرحّب بهم في بلغاريا وباقي دول أوروبا الشرقية، وألمانيا تعتبر استثناءً حيث استقبلت أعدادا كبيرة من اللاجئين، لسدّ حاجتها من اليد العاملة لارتفاع معدّلات النمو الاقتصادي في ألمانيا وبعض دول أوروبا الغربية. هناك بعض المضايقات تجاه الأجانب الذين لم يتمكّنوا من الاندماج في المجتمع البلغاري لكنّ وبصورة عامّة، يتمكّن الأجانب من أصول عربية من تحقيق النجاح والانخراط في المجتمع، هناك الكثير من الناجحين في مجال الطبّ والهندسة والصحافة والمحاماة وغيرها من المهن، بل حتى الحرف التقليدية، التي تجد رواجًا وتقديرًا بين فئات المجتمع البلغاري، وبات من الممكن شراء خبز الطابون والخبز العربي والعراقي بسهولة، وتناول أصناف الطعام الشرقي في المطاعم العربية المتواجدة في معظم أنحاء البلاد، كما توجد عيادات ومشاف صغيرة لأطباء وأخصائيين عرب ومن أصول عربية، وفي نهاية المطاف، لكلّ مجتهد نصيب.
■ أصدرت مؤخراً رواية بعنوان «حدائق البندق» ماذا عنها؟
□ الرواية تتناول حلم الوطن الكبير، حلم العودة الذي تحوّل في لحظة الاقتراب من خطّ النهاية لمجرّد أمنية امتلاك بيت صغير وحديقة ملأى بأشجار البندق، وكان للوالد ما يريد. هذا أحد مسارات الرواية، وهي تبدأ في بروكسل مروراً بعمّان والبتراء ومخيّم جنّاعة في الزرقاء، وأماكن أخرى من الأردن والموصل. أتناول فيها كذلك صراع الإخوة وقصّة حبّ تبدو مستحيلة في مراحلها الأولى، وغيرها من تجلّيات البحث عن الذات والهوية والاستقرار، نهايتها تدلّ على مآل جيل بأكمله حين تفضّل الشخصية الرئيسية في الرواية التوجّه إلى الصحراء بانتظار واقع جميل مرجوّ.
توجد ضرورة ملحّة للتفاعل المتواصل دومًا مع الكتابة والإبداع وحبّ المطالعة والقراءة، وبذل الجــهد لتطـــوير الذات والتعرّف على خبايا اللغات.
■ حصلت روايتك «انعتاق» على جائزة «الألوكة» السعودية، وحصلت بعض أعمالك المترجمة مؤخراً على العديد من الجوائز في بلغاريا..كيف أثرت هذه الجوائز عليك؟
□ رواية انعتاق «فلسفة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين» كانت وما تزال تحدياً كبيراً لي، الفكرة كانت جاهزة لديّ، لكن الفترة الزمنية التي أتاحتها المسابقة كانت قصيرة للغاية، وكنت على وشك التخلّي عن الفكرة لأنّ إمكانيات كتابة رواية في مئة يوم فقط صعبة للغاية، لكنّني ومع هذا قبلت التحدّي، وكنت أستيقظ في الخامسة صباحاً للعمل وأمضي كلّ أوقات فراغي لإنجازه، الذي راق في نهاية المطاف للجنة التحكيم المكوّن من عدّة دول عربية. أمّا بالنسبة للجوائز البلغارية فقد كانت متوقّعة بالنسبة لديّ، لأنّ الترجمات التي قدّمتها تقدّم كوكبة من الكتاب البلغار المعاصرين، في الوقت الذي تشحّ فيه الأعمال المترجمة من وإلى اللغة العربية لأسباب عديدة يمكنني التطرّق إليها لاحقًا. منح الجوائز والتكريم ملزم للشخص المعني، لأنّه يتطلّب الاستمرار بالعمل وتقديم ما هو جديد ومجد. ولا أنكر في نهاية المطاف أنّها تترك أثرًا طيّباً لأنّها اعتراف بالجهد المبذول لتحقيق الفكرة والغاية الإبداعية والمعرفية.
■ ما هي معايير اختيارك للعمل الأدبي عند ترجمته؟
□ السياسة هي فنّ الممكن، وتتقلّب وفقًا للمصالح الحزبية وتوجّهات السلطة الحاكمة، لذا تراني عازفا عن ترجمة السياسة سوى ما يتعلّق بالعلوم السياسية العامّة، التي تهدف الفائدة والتعريف بفنّ السياسة، الأدب ليس بمعزلٍ عن صنعة السياسة، ويتناوله بحنكة كما يتمكّن من الالتفاف على المألوف ويصبغ الحالة السياسية بنكهة ساخرة قادرة على تعرية القادة والزعماء العالميين. الترجمة الأدبية البحتة تتيح المجال لتحفيز الفكر والعاطفة والخيال مرّة واحدة، وأفضّل الأدب غالبًا أمام الفنون الأخرى.
■ وهل تحتاج الترجمة إلى موهبة أم تكفي الممارسة والخبرة؟
□ عدا عن الموهبة، توجد ضرورة ملحّة للتفاعل المتواصل دومًا مع الكتابة والإبداع وحبّ المطالعة والقراءة، وبذل الجــهد لتطـــوير الذات والتعرّف على خبايا اللغات. الجدير بالذكر أنّ اللغات العالمية في حالة تطوّر، وقد أفادت حركة الترجمة الخصبة في الغرب بإثراء قواميسها، لا يمكن بالطبــع مقارنة أيّ لغة عالمية باللغة العربية القادرة على اســتيعاب كلّ المستجدات اللغوية، لكن هناك قصورا ملحوظا يحول دون ذلك. فالمترجم الناجح هو أديب وناقد أيضًا، لديه الكفاءة لتمييز الأعمال الجيّدة التي تستحقّ العناية ومشقّة الترجمة. أعتقد أنّ الخبرة والممارسة كفيلة بشحذ موهبة الترجمة لنقل أدب جمـــيل متمّيز، لتخطّي المصاعب المذكورة بأمانة وحصافة.
■ هل ترى للكلمة الشاعرة مكاناً في عصرنا هذا الذي يتسم بالطابع التقني المادي؟
□ تصوّري للعالم الإنسانيّ مرتبط بالمخزون الأخلاقي والتقليدي، فلسفة الحبّ والتسامح والمغفرة والرحمة في عالمٍ تسوده الكراهية والقابلية لإطلاق النار لأتفه الأسباب، كما نرى في المجتمع الأمريكي مؤخّرًا وفي ممارسات المنظّمات المتطرّفة التي أساءت للإسلام وعقيدته السمحة القادرة على استيعاب كلّ الاختلافات الكونيّة. حياتي الشخصية غير منفصلة في أيّ حالٍ من الأحوال عن الأوضاع المعيشية التي يعيشها الشعب الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية المحتلة والمأساة التي يعاني منها أهالينا في قطاع غزّة الذي يعاني مرّ الحصار منذ زمن طويل. حياتي الشخصية مرتبطة كذلك بحالة الفقر وانعدام فرص الحياة الكريمة في العديد من الدول العربية، في زمن تمكّن فيه ستّة أشــخاص من امتلاك نصف مقدّرات البشرية. حياتي مرتبطة كذلك بالمعاناة اليومية التي يعيشها المشرّدون والمتسكّعون، بدون مأوى في الشوارع الأوروبية، في أجـــواءٍ باردة للغاية، بدون أن أتمكّن من تقديم سوى النزر اليسير من المساعدة العاجلة، حياتي مرتبطة بتبعات الشعبوية والقومجية الرافضة للآخر المتفشّية في المجتمعات الأوروبية وفي غيرها من الأقاليم حول العالم، سياسة باتت مؤذية ومتربّصة بالمستضعفين في الأرض. نعم أعاني من كلّ هذا وأنا على ثقة من أنّ الشِعْرَ والأدب قادر على تقديم فتات روحي وفكري لتحقيق السكينة والمضيّ إلى نهارٍ مشرقٍ آخر.