يبدو أن فهماً عقيماً يسيطر على دور الحكومة في الدول العربية، فالحكومة هي الأهل لمن لا أهل له، هكذا كانت الرسالة في فيلم (العزيمة) المصري القديم، وفي مصر مقولة (إن فاتك الميري اتمرمغ في ترابه)، بمعنى التمسك بالعمل مع الحكومة بصورة مباشرة أو غير مباشرة ومهما كانت الوظيفة المتاحة، ما لنا وما لمصر؟ ربما يحدث القارئ نفسه، فالفرق بين الأردن ومصر كبير ومتسع، إلا أن الثقافة على الرغم من ذلك متقاربة، بل وتضخم دور الحكومة في حياتنا اليومية في الأردن ربما يتجاوز النموذج المصري بما يسمح لنا باستعارة مريحة لجميع تراث المقولات المرتبطة بالحكومة وتدخلها.
حكومة مركزية قوية وثقيلة ومكلفة يتوقع منها المواطنون أن تمتلك العصا السحرية من أجل العمل على جميع المشاكل، ولكن هذه النوعية من الحكومات لا يمكن أن تعمل بكفاءة خارج الدول التي تمتلك إمكانيات مادية وثروات طبيعية هائلة، وهذه مشكلة اقتصادية، تهون أمام المشكلة السياسية، حيث يمكن أن تتحول الحكومة إلى عائق أمام تقدم المجتمع، بمعنى أن تختطفه أيديولوجياً أو فكرياً، ولعل من الواضح أن الأردن كان بمعزل نسبياً عن هذه الحالة، فالملك هو الذي يكلف الحكومات وكتاب التكليف السامي يحدد أطر عملها، إلا أن بعضاً من الأسبقيات تدفع للقلق، فمثلاً أتى تحجيم تعليم الفلسفة في المدارس الأردنية في لحظة تقارب بين الدولة وتيارات الإسلام السياسي، ولذلك فتفويض الحكومة بأدوات السيطرة على المجتمع أمر خطير، خاصة أن الديمقراطية متقلبة وتحمل مفاجآتها، وما يمكن أن نستبعده لأسباب اقتصادية ربما يحمل بدائل سياسية واجتماعية عميقة التأثير.
نتطلع للحكومة بوصفها الدولة، ونكاد نخلط بين المفهومين بصورة متعسفة، ويحدث أحياناً أن تتغول الحكومة بوصفها سلطة تنفيذية على السلطات التشريعية والقضائية، ويعمق ذلك من الأزمة، والموضوع يتعلق بحدود تأثير الحكومة على المجتمع، وكيف يمكن تقييدها من التذرع بالأغلبية التي ربما تحصل عليها بسبب غضب مجتمعي من أداء حكومة أخرى.
لنفترض المثل التالي، تتوالى على الحكومة ثلاث قوى، دينية وليبرالية وقومية، ويعين وزير التربية والتعليم من الحزب الحاكم في كل مرة، فما الذي سيقدمه منهاج للتربية الاجتماعية والوطنية؟ وكيف يمكن أن ينعكس ذلك على وعي جيل واحد متقارب في العمر، وكيف يمكن تحديد ما هو المقبول وغير المقبول مجتمعياً، وما يصب في مصلحة المجتمع في المدى البعيد؟
في الولايات المتحدة الأميركية أصدرت محكمة فيدرالية حظراً على تدريس نظرية التصميم الذكي (التي تتبناها القوى الدينية) بوصفها بديلاً عن نظرية النشوء والارتقاء لتشارلز داروين، واضطرت المدارس في ولاية بنسلفانيا للالتزام بذلك، وذلك لأنه يوجد توازن بين السلطات ومن ورائه تقاليد الدولة بشكل عام، وهي ليست مكتوبة بالضرورة، ولكنها تصبح جزءاً من نسيجها مع الوقت.
أمام صدمة الديمقراطية، وحتى أمام حكومات قصيرة العمر تتخذ صفة تسيير الأعمال أكثر من التداخل فيما هو استراتيجي، وتجنب الاشتباك مع قضايا مهمة كثيرة في مختلف المجالات من التعليم إلى الإعلام إلى الثقافة، يتأتى الحل في المجالس العليا التي يمكن أن تعمل على بناء التصورات التي تتناسب مع حاجات الدولة والمجتمع في المدى البعيد، ولا يشكل ذلك انتقاصاً من الحكومة إلا ضمن التصور الذي يعتبر الحكومة غايةً في حد ذاتها، ويضفي عليها الصفة الأبوية الكاملة بوصفها ما اعتاد الناس على معايشته من تجليات الدولة في حياتهم.