ما إن يتسامع الناس عن مشاريع تجارية, أو مساهمات مالية, ذات عوائد مرتفعة, إلا وينتفض البعض- دون تأمل وترو- ليجمع ما حصلته يداه من أموال ومدخرات, ربما لقي في جمعها وتحصيلها عرق القربة, فيلقيها في فوهة تلك المشاريع أو المساهمات, ولو كانت مجهولة العاقبة أو تحوم حول جدواها الشكوك والظنون؛ أملاً في تحقيق تلك العوائد التي يسيل لها اللعاب, ويطرب لها القلب, وحب المال كما يقال يعمي ويصم, فمقل منا ومستكثر.
والمدهش حقاً أن يضحي الواحد منا بمشاريعه التجارية الناجحة, والتي تدر عليه أرباحاً مجدية, فيبيعها ويتخلص منها سريعاً؛ طمعاً في عوائد تلك المساهمات المجهولة الهوية, ثم يفاجأ بأنه قد رجع بخفي حنين, فلا هو قد حصل عوائد من تلك المساهمات, وربما لم يحصل حتى رأس ماله, ولا هو قد احتفظ بمشاريعه وموارده المالية, والتي كان ينتفع بها هو وأهله وأولاده ردحاً من الزمن, وقد جاءت النصوص الشرعية بالتحذير من التفريط في مثل هذه الموارد المالية, والإرشاد إلى حماية المصادر التمويلية, إذا كانت تدر على المسلم أي نوع من أنواع الدر, سواء كان مالاً أو غيره, كما ألمح إلى ذلك الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه (3/1281) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خرج رسول صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة, فإذا هو بأبي بكر وعمر, فقال: ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ قالا: الجوع يا رسول الله, فقال: وأنا والذي نفسي بيده, لأخرجني الذي أخرجكما, قوموا, فقاموا معه, فأتى رجلاً من الأنصار.. فقال: الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني, فانطلق, فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب, فقال: كلوا من هذه, وأخذ المدية, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إياك والحلوب!..) والمراد بالحلوب: الشاة ذات اللبن, كما في شرح سنن ابن ماجه (1/229) وفي رواية لابن ماجه(2/1062) وأبي يعلى (1/80): (إياك وذوات الدر) قال الزرقاني في شرحه (4/397):”نهاه عن ذبحها شفقة على أهله بانتفاعهم بلبنها مع حصول المقصود بغيرها”أهـ.
ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى كراهة ذبح الماشية التي تصلح للحمل والحرث؛ لما في ذبحها من تعطيل مصدر من مصادر التمويل, لاسيما إذا كان ذبح تلك الماشية الحلوب لا يعود عليه بالفائدة مع إمكان ذبح غيرها مما لا يصلح للحمل والحرث, قال القاضي عياض في إكمال المعلم(6/512) تعليقاً على حديث الحلوب: ” وفيه حجة لمن لم ير من أصحابنا ذبح حوامل الماشية, وكذلك فيما كان يصلح من البقر للحرث؛ لأن هذا- إذا لم يضطر إليه- من الفساد” أهـ أي من إفساد المال, وقد كانت الماشية في ذلك العصر من أهم أنواع المال, وأبرز مصادر التمويل, ولا زالت الحلوب من الماشية في عصرنا الحاضر مصدراً مهماً من مصادر الريع والإنتاج, كما تشهد بذلك أدراج ثلاجات التبريد التي تمتلئ بالحليب وسائر مشتقاته في أسواقنا المحلية وفي الأسواق العالمية, وهنا تظهر حكمة الشارع الحكيم حين نبه المسلم إلى حماية هذا المصدر الهام من مصادر التمويل, وهي الحلوب من الماشية, وأرشده إلى ما هو خير له في دنياه, وذلك بأن يذبح ما يحصل به مقصود الضيافة, عوضاً عن ذبح ما يدر عليه نتاجاً كل حين من حمل, وحليب ومشتقاته الأخرى؛ رحمة به, ورأفة بأهله وولده الذين ينتفعون بنتاجها طول العام, ويقاس على الشاة الحلوب, كل ما يدر على الرجل من ريع أو ربح, سواء كان عقاراً, أو غيره.
وبهذا ندرك ما تزخر به السنة من التوجيهات النبوية الشريفة, والتي لا تهدف إلى توعية المسلم بأمور دينه فحسب, بل تهدف -أيضاً- إلى توعيته بأمور دنياه, وتضع له القواعد العامة لترسم له الطريق الأمثل في المعاملة, وحسن التصرف, ومن هنا لم يكن غريبا أن يكون حفظ المال من المصالح الضرورية الخمسة التي جاءت بها شريعتنا الغراء, سواء كانت المحافظة على هذا المال من جهة الوجود بتشريع أحكامه ورسم قواعده, أو من جهة العدم بدرء كل ما يؤدي إلى تضييعه, أو سرقته, أو العبث به, ولهذا نهى الشارع الحكيم عن إعطاء المال للسفهاء, كما في قوله سبحانه (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) قال القرطبي في سياق تفسيره لهذه الآية (5/28):”لا تدفع مالك مضاربة ولا إلى وكيل لا يحسن التجارة”أهـ, كما نهى الشارع أيضاً عن التبذير وإضاعة المال, بل وأوجب الشارع عقوبة الحد على السارق, وعقوبة التعزير على كل من يلغ في أموال الناس بالباطل, سواء بأسلوب الغصب أو الاختلاس أو الغش أو النجش أو نحو ذلك, كل هذا- ونحوه- إعانة للمكلف على حفظ ماله, وعدم تعريضه للسرقة أو التلف أو الضياع.
———————————
*د. يوسف بن أحمد القاسم
أستاذ الفقه المساعد بالمعهد العالي للقضاء