المخاصمة عن المبطلين… عن الظالمين… عن المفسدين ماذا تعني؟
إن الصراع بين القيم الفاضلة، والمصالح الزائلة صراع طويل وقديم قِدم الصراع بين الحق والباطل، والتحديات التي يفرضها هذا الكفاح المرير كثيرة ومختلفة باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص.
يقول الله _تعالى_: “إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً… الآيات” [النساء: 105 – 116].
ذكر جماعة من المفسرين أن هذه الآيات أُنزلت كلها في قِصَّة واحدة، وذلك أن رجلا من الأنصار يقال له (طُعمة بن أُبيرق) أحد بني ظُفر بن الحارث من الأنصار سرق درعا من جار له يقال له قتادة بن النعمان، وكان الدرع في جرابٍ فيه دقيق، فحمل الجراب وبه الدرع واتجه إلى بيته، وجعل الدقيق يتناثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى داره وفي الطريق أثرُ الدقيق ثم خبأها عند رجل من اليهود يقال له (زيد بن السَمين)، فالتُمس الدرع عند طُعمة فلم توجد عنده، وحلف لهم أنه ما أخذه – أي الدرع – وما له به من علم، فقال أصحاب الدرع: بلى والله قد أدلج علينا فأخذه وطلبنا أثره حتى دخل داره، فرأينا أثر الدقيق، فلما أن حلف تركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهوا إلى منزل اليهودي فأخذوه – الدرع – فقال دفعها إلى (طُعمة بن أبيرق) وشهد له أناس من اليهود على ذلك فقالت بنو ظفر – قوم طُعمة -: انطلقوا بنا إلى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فكلِّموه في ذلك، وسألوا رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أن يجادل عن صاحبهم، وقالوا: إن لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح وبرئ اليهودي، فهمَّ رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أن يفعل – وكان هواه معهم – وأن يعاقب اليهودي فأنزل الله هذه الآيات.
لقد كادت معالم الحق أن تخفى، وأوشك البريء أن يُتهم والمتهم أن يُبَرأ لكن الذي يعلم السرَّ وأخفى جلّى الحقيقة لرسوله _صلى الله عليه وسلم_ في سياق تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا.
وهكذا يحتدم الصراع بين القيم الفاضلة من الصدق والأمانة والقيام بالقسط على الأنفس والأقربين وبين مصالح زائلة… عصبيةٌ… نوالٌ دنيوي حقير…درعٌ وماذا يساوي الدرع؟ وما فوق الدرع؟ أمام المبادئ الحقَّة، والثوابت السامية؟!
وتتكرر الوقائع بتكرر الزمان وتعداد المكان بلونٍ مختلف وأسماء مختلفة والحقائق واحدة، فأرباب الهمم الصغيرة، والنفوس الأسيرة يضحّون بقيمهم مهما كان الثمن. بل ويبذلون أعراضهم في سبيل دنياهم.
أفيُخاصم عن هؤلاء؟!
إن نصرة الظالمين ليس بتبرئة ساحتهم، ولا بتبرير افتياتهم، إنما تكون وفق المنهج الشرعي وذلك بالأخذ على أيديهم وأطرهم على الحق أطراً، إذ تقرر في قواعد الشريعة أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ولا عجب أن ترى مساحة المخاصمة عن المبطلين تتسع في زمن العولمة لتجد من يكتب أو يتكلم أو يجادل أو حتى يفتي ليقول لغاصب الأرض وهاتك العرض أنت مُحرر لا مُدمِّر، ومُبشرٌ لا مُنصِّر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ولعل أقرب الأمثلة ذلك الاحتفاء الكبير الذي حظيت به رواية (بنات الرياض) للكاتبة السعودية رجاء الصائغ وهو يصور مدى حرص القوم على تسويق كل هزيل من الأفكار والمبادئ المستوردة والمجادلة عن أربابها في سبيل تجريم الفضيلة وخلخلة الثوابت الشرعية لاسيما في ما يخص المرأة، وصدق الله: “وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ” [غافر: من الآية5].
وليس هذا غريباً على بني جنسنا الذين مافتئوا يسيرون في ركاب الغرب. الذي اعتاد أن يحتضن كل مارق عن مبادئ الإسلام وقيمه العادلة، بل ويمنحهم الجوائز وهذا مشاهد على مستوى المؤسسات العلمية والأهلية في الغرب فآخر ما سمعناه تكريم جمعية ((اينانا)) في بروكسل للكاتبة المصرية نوال السعداوي التي عرفت بتنكرها لكل المسلمات الشرعية فكانت جديرة بهذه المكرمة.
إن مَعْقد الابتلاء في حقيقة الاستقامة يكمن في أن أهواء العِباد غالبا ما تتعارض مع مبادئهم وقيمهم الحقَّة، فلا مَحيص من خسران بعض مصالحنا لتسلم لنا ثوابتنا الإسلامية؛ لأن التنازل عن المبادئ أو قبول المساومة عليها يعني ضياع المصالح العاجلة والآجلة التي جاءت الشريعة بها، فنخسر من حيث أردنا الربح، ونُفسد من حيث أردنا الإصلاح “وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ” [البقرة: من الآية216].