المرابط الحاج ولد فحفو

المرابط الحاج ولد فحفو

المرابط الحاج ولد فحفو غيب الموت علما من أعلام العلم والزهد والورع إذ أعلن في موريتانيا..

Share your love

المرابط الحاج ولد فحفو

غيب الموت علما من أعلام العلم والزهد، والورع ،إذ أعلن في موريتانيا هذا الأسبوع عن موت شيخ الشيوخ المرابط الحاج ولد فحفو واسمه الحقيقي “سيدي محمد بن السالك” عن عمر ناهز 110 سنة .
ولد الشيخ المرابط فحفو  حوالي سنة 1331هـ (1913م) في نواحي “ارقيبه” بولاية العصابة، وسط مجتمع يعطي العلم عناية كبيرة، فأقبل على طلبه وهو صغير، بادئا بحفظ القرآن وتجويده في أسرته، وخاصة على خاله محمد الأمين ولد بوب، كما سمعه ودرسه بعد ذلك على مقرئين آخرين.
وكان والده فقيها طلبه الفرنسيون لتولي القضاء فادعى لهم الجهل بالأحكام! فخاطبه الحاكم (الفرنسي) مستنكرا ذلك، وقال له: “إن التعليم هو الذي أصاب رأسك بالصلع”! .
أما الولد الحاج فقد انهمك في طلب العلم، متنقلا بين محاظر كبيرة في مناطق متعددة ، وقد زامل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في محظرة العلامة أحمد فال بن آدو، كما درس في محظرة أهل أبات ومحظرة أهل الطالب ابراهيم المشهورتين في تلك البلاد .
غير أن لمرابط الحاج يعترف بأن أهم شيء في تحصيله كان، بعد ذلك، المطالعة المستمرة ودراسة الكتب والأبحاث بشكل مستمر ،فالرجل لا شغل له ولا عمل إلا المطاعة وصحبة الكتب ، لا يجالس الناس، و لا ينشغل بجارة ولا كسب، إنما الوقت كله للعلم .

وعند بلوغه سن الثلاثين أصبح متصدرا يعلم الناس ويفتي في النوازل وانقطع بالكلية للتدريس والتعليم مدة تزيد على السبعين سنة بدون انقطاع أو كلل أو توقف.
ومع تعدد أشياخه وتنوع مصادره، لم يهتم الحاج بالتقليد والتتبع الحرفي لأشياخه، ومن ذلك زهده في “الإجازات” (الشهادات) حيث يقول إنه اتبع قول السيوطي في الإتقان (في علوم القرآن) بأن الإجازة ليست شرطا في التصدي للتدريس “وإنما هي بمثابة الشهادة، وقد حدثت بعد القرن الأول والسلف الصالح، لذلك لم أهتم بها”

رحلة الحج ماشيا:
ولكن أداء فريضة الحج وزيارة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت في المرتبة الأولى في اهتمام الحاج بعد التعلم، وكان تحقيق تلك الرغبة صعب المنال في تلك الأيام، ولا يتأتى إلا بطريق الرحلة برا، لمن له الزاد والراحلة، ولم يكن هو منهم يومئذ!
ومع ذلك صمم الرجل على الحج راجلا، فخرج حوالي سنة 1938م في رحلة طويلة وشاقة استغرقت ثلاث سنوات في الذهاب والعودة، حيث كان التلميذ حين ينتهي من الدراسة فإنه يطمح للحج، بل كان يجدر بالطالب ألا يجلس حتى يؤدي هذه الفريضة مع أنه لم تكن لديهم وسائل لهذه الرحلة.
حيث يقول لمرابط الحاج عن نفسه خرجت مع رفيق واحد، نريد الوصول إلى البلاد المقدسة راجلين لو اقتضى الأمر، ومهما كلف ذلك فمررنا بكثير من البلاد. في البداية انطلقنا من هنا (ﮔـلاﮔـة) إلى “كيفه” ثم إلى “خاي” ثم إلى “أژواد” قبل أن نصل إلى “باماكو” حيث ركبنا القطار، وكنا نمكث فترة في بعض المدن”.

ومن ثم مر ببلاد السودان العريضة؛ ومنها ركب البحر إلى جدة, ثم أتم الحج والعمرة لله، وعكسا لما كان يعرض للعلماء الموريتانيين من مغريات الإقامة ومحبة تلك البقاع الطاهرة، مع تعلق طلبة العلم باستبقائهم، فقد كان لمرابط الحاج دوما على نية العودة إلى بلده بعد أداء الفريضة وزيارة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وهذا ما فعله؛ ولكن طريق العودة كانت أطول زمنا كما يقول: كنت، مع طول الطريق ومشقة السفر، أقل استعجالا، كما أني استجبت لطلب بعض أهل القرى بالإقامة معهم لأعلمهم، فمكثت أطول مدة في “البيظ” (السودان) حيث قرأ علي قاضيها نصف مختصر خليل وأفتيت في بعض النوازل الفقهية”.
وكانت طريق العودة من السودان مختلفة، إذ تمت “عبر النيجر والصحراء وأژوا”د.
ويتذكر الحاج في هذه الرحلة عموما ما كان يُحظى به الموريتانيون الشناقطة من إجلال وترحيب، حتى كان أعيان وتجار القرى يتنافسون في استضافتهم ومساعدتهم والأخذ من علمهم.

عاد الحاج إلى وطنه وقد جلب ما تيسر حمله من الكتب التي عني كثيرا بمطالعتها ونسخها بيده خلال تلك الرحلة الشاقة المباركة، فألقى عصى التسيار في منطقة (كلاكة) ، وما كاد يستقر به المقام حتى حف به الطلبة من كل جانب ومن كل فج.
لكن لمرابط الحاج ولد فحفو لم يكن أبدا شيخا عاديا ولا شخصية تنتمي لهذه الأزمنة، فمنذ قام للحياة أظهر لها كل الزهد فيها والإعراض عن زخرفها والرغبة عن مستحدثاتها الكثيرة المدهشة!
حبه للخلوة:
لن يحدثك لمرابط الحاج عن أسباب حبه للخلوة ولا عن أهميتها، لكن الكبار في الأسرة متفقون على أنه مذ كان يافعا، كان يميل إلى العزلة ويغشى الخلاء، و يأتي ليصلي مع الناس الصلوات المكتوبة ثم يرجع الى الجبال والأودية.
هكذا كان في شبابه، وظل على هذا النهج في ورعه وهروبه من أي موقف في الحياة تكون فيه مظنة الشُّبَه؛ سواء في المعاش أو المساكنة أو المصاحبة، بل كان شعاره “إن حلال الدنيا قذر فكيف بحرامها؟”
ولكن الرجل، رغم هذا، أبعد ما يكون عن الترهب أو ترك الطيب من زينة الحياة الدنيا كلها، فقد كان يعيل أسرته والمحتاجين من طلابه، وكان يلبس أحسن الثياب يتضوع المسك منها، وكان مخالطا لتلامذته القادمين من كل حدب وصوب، ومن كل الأعراق، مخالطة تامة لا تحَفظ فيها يستبشر يهم ويسألهم عن أهليهم وبلادهم ويتفقد حالهم ويتطلع لمعرفة مشاكلهم ويحلها بنفسه مهما كان نوعها، كما اشتهر بالكرم والإنفاق وسعة الحال ،يرزقه ربه من حيث لا يحتسب.

أما علاقاته العامة فتكاد تنعدم، بسبب اختياره توطن منطقة نائية ظلت لا يبلغها إلا من أراد “الانقطاع عن الدنيا” وتلك ميزة مزدوجة المنافع؛ فهي تضمن للحاج استمرار عزلته عن العالم، وتتيح لطلاب العلم التفرغ له والانقطاع من كل العوائق الشاغلة عنه!
ولهذا أيضا لم تتوسع علاقات لمرابط الحاج بمعاصريه من العلماء والشخصيات السياسية، حيث اقتصرت العلاقة مع العلماء على الرد بالمراسلة على ما يرِد عليه من أسئلتهم العلمية، بينما كان الإعراض عن السلطات وأعوانها والسياسيين واتصالاتهم هو السمة الغالبة، وبالصرامة.

اليوم في حياة لمرابط الحاج:
يبدأ البرنامج اليومي في حياة لمرابط الحاج، حينما يمضي من الليل أكثره، ويسلم الكون نفسه للسكون تحت سماءٍ ذات نجوم متلألئة حيث يستيقظ النائم في هذا الحي الصغير ليسمع من حوله أصواتا متداخلة تنبعث من الأرجاء كلها: قراءات جادة ندية؛ آيات القرآن تتلى هنا وهناك، ونصوص خليل وابن مالك وابن بري… تراجع هنا وهناك.
وحين تنهض ترى النيران موقدة والتلاميذ من حولها يصطلون ويستضيئون لقراءة نصوصهم… والكون كله يلقي السمع شهيدا على هذه الصورة البديعة التي تتمنى أن تكون خاتمة كل ليلة في حياتك!
وبعد أقل من ساعتين تتلاشى تلك الأصوات في صوت واحد هو صوت المؤذن ينادي مباركاً تلك اليقظة: الصلاة خير من النوم، فيتوجه الكل إلى فضاءِ حظيرة ريفية يحميها سور من الشجر وأخشابه، من اقتحام البهائم، هذا هو المسجد.
ثم يتقدم لمرابط الحاج إلى “المحراب” الرملي فيؤم المصلين، حتى إذا قضيت الصلاة أقبل على جمع الطلاب يُدرسهم الواحد تلو الآخر، لا يبرح محرابه، وتكاد دروس هذه الحصة عادة أن تكون في القرآن، إلا إذا تدخل طالب “جديد” فألقى نصه؛ فالشيخ “لا يرد لوحا”.
ولكن كثرة الطلاب تلتهم الوقت بسرعة، فتشرق الشمس حمراء من بين الأشجار، ثم ترتفع قيد رمح فيباح النفل!
بعد ركعتي الضحى، يتوجه الشيخ إلى ظل خيمة العِلم القريبة، حيث المكتبة، وحيث ينتظر طلاب آخرون “تصحيح ألواحهم” أو قراءة نصوصهم وحل استشكالاتهم…
وبعد الزوال تتوقف الدروس قليلا ليعود الطلاب إلى مساكنهم فيقيلون، ويشغل لمرابط الحاج تلك الساعة الوحيدة بالمطالعة أو الكتابة، وربما أخذته سنة من النوم، قبل الاستعداد لصلاة الظهر، بعدها تستأنف دروس الطلاب، وخاصة في الفقه والأصول والعقائد والنحو؛ وتستمر دون انقطاع إلا ريثما تؤدى الصلوات المكتوبة (العصر والمغرب والعشاء) حتى يمضي من الليل ثلثه أو يزيد قليلا، ولا يحتاج الطالب كثيرا من الزمن لينسجم مع هذا النظام؛ فهو يعرف عادة الوقت الذي يقرأ فيه، وله أيضا أن يتربص حتى يجد الفرصة لسؤال الشيخ عما أشكل عليه في مراجعة درسه.
كان رحمه الله منكبا على المطالعة، شديد الحرص على ملازمة الكتب، فحياته كلها تعلم وتعليم، وعبادة ، وقراءة وإقراء
وقد ورد فى التقرير السنوي (500 شخصية مؤثرة فى العالم) أن لمرابط الحاج بن فحفو قد نذر حياته للعلم والتعليم، وأنه خرج المئات وربما الآلاف من العلماء من محضرته.
قيل له يوما: لم لا تتحرك فإن الجلوس يضر بصحتك فرد قائلا: إن رياضتي في تدريس العلم.

مؤلفات الشيخ :
– باب النقول في متشابه القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم .
– تلخيص منظومة الشرنوبي.
– إفادة القارئ والسامع على الدرر اللوامع في مقرأ نافع.
-تنوير الحوالك على ألفية ابن مالك .
– دليل الطلاب: شرح نظم الآجرومية (عبيد ربه) في النحو الابتدائي.
– شرح قصيدة كعب بن زهير “بانت سعاد”.
– شرح المقصور والممدود.
بالإضافة إلى بعض النوازل الفقهية.

تخرجت من محظرة لمرابط الحاج ولد فحفو في منتبذها القصي حول وادي “ﮔـلاﮔـه” أجيال من طلبة العلم، بلغ منهم كثيرون درجة التصدر للتدريس، ومنهم شيوخ محاظر أجلاء وأساتذة نابهون وموظفون سامون ورجال أعمال ناجحون…
وممن لازمه حتى تخرج على سبيل المثال : العلامة محمد الأمين بن عبد الرحمن ، والعلامة أحمد فال بن أحمدنا، وممن أخذ عنه :العلامة الأصولي الفقيه محمد يحي بن الشيخ الحسين : وهم يفوقون العد والحصر لله الحمد.

يقول محمد فال ولد الدين : ليست ميزة المرابط الحاج ولد فحفو في أنه يُدرس الناس العلم، فالعلماء كثر ومنتشرون في كل صقع، وليست ميزته في ورع داخلي فحسب، ففي مسارب الدنيا متقون ورعون وصلحاء.
ميزة الشيخ أنه جمع كل ذلك وأكثر وزاد عليه، مع استقامة تتعالى على العادات والأعراف والمحيط الاجتماعي، وورع واستقامة عز تخيلهما، تميز باستقامة لم تعرف لحظةَ هبوط أو تغير أو ملل أو كلل، كان رجلا أخروياً، كأنما رُفع له الحشر ينظر إليه منذ ولد فلا يفتر ولا ينسى.

Source: islamweb.net
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!