المشروع التغريبي إذ يحمله الصحويون ؟!
محمد جلال القصاص[1]
[email protected]
في القرآن الكريم تتكرر الأحداث، بل والألفاظ ، حتى أن القرآن الكريم يحكي عن المفسدين في كل العصور ذات الكلمات بنصها، ثم يتساءل متعجبا “أتواصوا به” ويجيب مقررا “بل هم قوم طاغون”، فالاشتراك في المفاهيم والتصورات ــ وهي هنا الظلم والطغيان ــ أدى إلى تطابق الخارج من الجوارح.
نعم تتشابه القلوب فتتكرر الكلمات والأفعال والمواقف، في الخير والشر، وفي ثنايا السيرة شواهد عديدة؛ يُشبَّه أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ بمؤمن آل فرعون، وعُروة بن مسعود الثقفي بالرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى[2] ، وأبو جهل بفرعون[3] ، وأمية بن أبي الصلت بالذي آته الله آياته فانسلخ منها[4] … وقريب من هذا ” إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ[5] “و” لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ[6] . وغير هذا كثير .
وفي الواقع المعاصر عجيبة لم أراها في التاريخ كله، وهي أن الأحداث … المشاريع … تتكرر على مسافات قريبة جدا بذات الآليات. ولا يستطيع أحد أن يوقفها، مع أن الأحداث تُنقل بالصوت والصورة من كل مكان في كل مكان. وهذا الأمر كثير جدا، وبيِّن جدا في رحيل الاستعمار وتولي القوميون . . . العلمانيون، تم الأمر بذات الطريقة تقريبا في كل الدول، وذات الشيء يحدث في ما يعرف بتغريب المجتمعات الإسلامية، وهو ما أردت الحديث عنه في هذا المقال.
أقول: بعد فشل المشروع التغريبي في مصر، وقيام الصحوة الإسلامية على أنقاده، بعد إفلاسه وانقلاب بعض كوادره وجمهوره عليه[7]، بدأ يظهر في أماكن أخرى من العالم الإسلامي المحافظ الذي تربى على التوحيد ودعا إليه في جميع أنحاء المعمورة، وبذات الآليات، وعلى ذات المحاور، وبذات الأفكار التي كانت !!
ولا يستخفنك العجب وتمهل .
سأعرض عليك الخطوط الرئيسية للمشروع التغريبي في مصر لتعلم كيف أنها اليوم تتكرر.
بدأ المشروع التغريبي في مصر على عدة محاور ــ وكل محور كان يتطور في نفسه ويتعاون مع غيره ــ ؛ كان من أهمها حسب الترتيب الزمني:
– البعثات العلمية، التي أخرجت للمجتمع المصري فئة من (المثقفين) تشبعوا بحبِّ الغرب، وراحوا يكتبون عنه بما يُحسِّن أحواله، ويطالبون من طرف خفي أولا ثم على الملأ بعد ذلك أن يتخلى المجتمع المصري عن توجهه (المحافظ) وينفتح على العالم؛ كي يتقدم ويرتقي كما تقدم القوم وارتقوا.
– المدارس الخاصة، ذات الخلفيات الدينية العلمانية في مناهجها أو مدرسيها ومديريها [8]، وهذه كانت إحدى المصائب الكبرى التي رُميت بها الأمة في مصر وتركيا وغيرهما، وكان لها أثرا كبيرا في المجتمع بعد ذلك، والكلام فيها يطول. وهو مبثوث منشور في أماكن عدة ومن شاء أن يطلع فليفتش [9] .
ويلاحظ أن أصحاب البعثات وخريجي المدارس الخاصة ، كان لهم وضع خاص في الهيكل التوظيفي في الدولة يومها ، ومازال الحال كما هو إلى اليوم .
– المجلات والصحف، كانت إحدى المحاور الرئيسية أيضا، فبعضها كان ثقافي تنظيري يتحدث عن القضايا الجديدة وينظر لها، وبعضها كان يرتدي ثوب (الأدب)، يجدد في الأدب، وتجديده كان معولا في جدار الشريعة، ولك أن تراجع ما كتبت يدُ إيليا أبو ماضي، وجبران خليل جبران. وغيرهما ممن تطاول على عقيدة القضاء والقدر، وبعض المجلات عملت على ترويض أصحاب الهمم الدنيئة من الذين في قلوبهم مرض بإظهار الكاسيات العاريات المائلات المميلات، وبث أخبار الفن والفنانين، وتلميعهم في أعين الناس ليكونوا (أبطالا) يحتذي بهم.
– الوطنية وهي القَدُوم الذي تكفل بقطع أواصل الولاء ودق وتَد البراء، فخرجت الحركات الوطنية التي عقدت الولاء على الوطن بحدوده المصطنعة، ونظرت (للآخر) على أنه محتل ذي أطماع اقتصادية وعنجهية عنصرية، وتعامت عن أنه كافر لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرم ما حرم الله ورسوله ولا يدين دين الحق، وأن المسلمون أمة واحدة .. كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .
– ومن المحاور المهمة جدا محور المرأة، الذي بدأ يتكلم عن جواز كشف الوجه، وأن الحجاب في الشريعة لا يطاله ــ وهو قول مرجوح ــ ، ثم تسلل إلى جميع أجزاء المرأة إلا ما قبح كشفه وجَمُل ستره . فقد كانت دعوة قاسم أمين لا تتعدى المطالبة بكشف الوجه، وكانت زوجته هو متسترة لا يراها الأجانب من الرجال .
وهي ذات الدغدغة التي تدور اليوم في الصحف على يد (المتنورين).
ثم تكلموا في خروج المرأة وعملها, مشروع أم غير مشروع ؟!
وما زالوا بالمرأة حتى أخرجوها من بيتها, وكانت أقل الآثار التي ترتبت على خروج المرأة من بيتها تفكيك الأسرة، وإهمال الأولاد، ونشر الرزيلة في أماكن الاختلاط، في الشارع وفي العمل، نعم كانت هذه أقل الآثار على عظمها، وكان أكبرها ــ وهو الغاية من التحرك على محور المرأة من وجهة نظري ــ هو مهاجمة العقيدة الإسلامية, فبخروج المرأة ودخولها فيما لا يتناسب مع تركيبها الجسمي والنفسي الذي فطرها الله عليه ظهرت لها قضايا تتعارض مع الشريعة الإسلامية، وتتعارض مع صريح النصوص القرآنية وصحيح الأحاديث النبوية، فقالوا: تعمل كالرجل فلم تأخذ نصف الميراث؟! وقالوا: تنفق من مالها كالرجل فلم القوامة للرجل وليست لها؟
وقالوا وقالوا وكذبوا فيما قالوا, فكانت المرأة إحدى القناطر التي عَبَرَ عليها الغرب لثوابتنا الشرعية، وبثَّ من خلالها خطابا أقل نتائجه هي القول بأن الشريعة الإسلامية لم تعد تصلح لهذا الزمان.
والآن يدغدغون بكلام حول الوجه ويستأنسون بقول الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ بأن كشف الوجه جائز, ويستدعون الغافلين من تلاميذه ليؤيدوا كلامهم. وكل نبيه ذكي يدري أن هؤلاء ليسوا كالشيخ الألباني ــ رحمه الله ــ وإن التقوا في هذه النقطة, وكل نبيه ذكي يُعرض عليه هذا النقاش عليه أن ينظر في المآلات ثم يركل القوم بكلتا قدميه.
– وكان محور الهجوم على التراث الإسلامي بالتشكيك في بعضه، وبالنبش عن النماذج السيئة في تاريخ الأمة وتقديمها للناس على أنه هذا هو ثمرة (تحكيم الشريعة)، أو تقديم نموذج من تخلوا عن الدين وكفروا بالله رب العالمين ممن أمدهم الله بظاهرٍ من الحياة الدنيا، وتشويق عامة الناس [10] إلى رقي كرقي هؤلاء وتحضر كتحضرهم.
– وانتشر الغناء وأقبل أهل الرقص والزمر ” الفن” يثبتون الأفكار والمفاهيم بأجسادهم العارية ووجوههم الجميلة.
كان في طرحهم هجوم مباشر على ثوابت الشريعة الإسلامية ، مثل تعدد الزوجات ، وترسيخ مفهوم الولاء على الوطن لا الدين . والسخرية من اللغة العربية ومن مدرسي اللغة العربية ، ومن رجال الدين ( الملتزمين ــ المطاوعة ) ، وتقديم النموذج الغربي للشباب على أنه هو النموذج المثالي . هذا بجانب نشر الرذيلة .
– ثم جاء دور ( رجال الدين ) وكانوا هم ثاني المحاور من حيث الأهمية ــ من وجهة نظري ــ وكانوا هم الفاعل الرئيسي في مشروع التغريب ، فكل ما سبق كان بالإمكان رده أو حصره في إطار الانحراف الخلقي ، إلى أن جاء بعض المنتسبين للشريعة فألبسوا التغريب ثوب (الإصلاح الديني) . وبرزوا للأمة كمصلحين … مناضلين … ثائرين على (الجمود) و (التعصب).
فقط أضع بعض الملامح للشخصيات الفاعلة في هذا المحور لترى كيف يُنتقى الشخصيات حديثا .
– من أبرز سمات الشخصيات (الإصلاحية) في المجتمع المصري يومها وخاصة (محمد عبده)و (الإيراني جمال الدين) أنها كانت شخصيات ثائرة، محسوبة على الثورة المصرية ضد الإنجليز ومن الواقفين في وجه الملك من أجل (الإصلاح) والمطالبة بالحقوق، فقد برز ــ أو بالأحرى أُبرزَ ــ اسم محمد عبده في ثورة عرابي وتم نفيه للبنان ثم أعادوه بعد أن لمَّعوه ـــ . فكان هو ( رجل ) المرحلة، كان هو التطور الطبيعي للطهطاوي و الإيراني.
– كل ما فعله ( الشيوخ ) هو أنهم تكلموا بأن ( الرقي ) و ( التحضر ) أو ( التجديد ) ــ بمفهومه المطروح من قبل الليبراليين اليوم ــ لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية ، وإقصاء ( الآخر ) ــ وهو البراء منه عندنا ــ مناطاته متعددة وليس محرما من كل وجه .
وأعرض عليك في عجالة بعض أفكارهم .
رفاعة الطهطاوي ــ وهو فَرَطُ القوم على حياض الغرب الكدرة النجسة ــ في كتابيه ( المرشد الأمين للبنات والبنين ) و ( تخليص الإبريز في تلخيص باريز ) امتدح المجتمع الغربي .. أسلوب حياته وثقافته ، وحاول أن يحصر الأمر فقط في اختلاف المسميات.
وأثنى على الدستور الفرنسي الشرطة ، ووصفها بأنها عدلاً وإنصافا ًأدى إلى تعمير الممالك وراحة العباد وارتياح القلوب حتى أنه ما عاد يسمع عندهم من يشكو ظلماً أبدا .!!
وأحسب أن موسيقى حفلات الرقص التي أطال في وصفها ، ونساء باريس الآتي يرقصن مع الرجال ، صمَّت أذن ( الشيخ ) وألهته عن البحث في ضواحي باريس وقرى فرنسا عن إخوان ( المورسكيين ) وغيرهم ممن يثير الأرض ويسقي الحرث طلبا للرزق .
ثم جاء جمال الدين الأسد أبادي المشهور بالأفغاني والذي نفي إلى مصر لفكره الاعتزالي وأرائه الغريبة ، وادعى أن الأمة هي مصدر الحكم ، وأن الاشتراكية من الإسلام . ونادى بوحدة الأديان ، والسلام العالمي ؛ ومن أراد أن يستيقن أو يستزيد فليقرأ خاطرات جمال الدين الأفغاني اختيار عبد العزيز سيد الأهل ص : 14 والاتجاهات الفكرية والسياسية والاجتماعية علي الحوافظة :102، 181،182
ثم جاء محمد عبده ــ ولا حظ التطور في الطرح ــ وتحت مسمى ( الإصلاح )[11] أباح التشبه بالخواجات في الفتوى الترنسفالية ، وأباح الربا في شكل صناديق التوفير ، وحرَّم تعدد الزوجات ، وكان ظهيراً لقاسم أمين في كتابه ” تحرير المرأة ” وكان من ( أعظم من تجرأ على مفهوم الولاء والبراء ودار الحرب ودار الإسلام من المنتسبين للعلماء بتعاونه مع الحكومة الإنجليزية الكافرة ودعوته إلى التعامل مع الإنجليز وغيرهم بحجة أن التعامل مع الكافر ليس محرماً من كل وجه ) [ العلمانية : 578] .
وقد لخص العقاد ما أريد قوله عن محمد عبده في سطرين يقول في [ أعلام العرب : 176 ] : ( وجملةً يمكن أن يقال أن ما من عملٍ من أعمال الخدمة الاجتماعية تم بعد وفاته إلا كان من مشروعاته التي هيأ لها الأذهان ومهد لها الطريق وبدأ فعلاً بالاستعداد لتنفيذها ومنها الجامعة المصرية التي كان يعني بها أن تقوم بتعليم العلوم وفقاً للمناهج الحديثة وتسهم في تجديد الحضارة العربية القديمة ) [12]
وتدبر : التعامل مع الكفار ( قبول الآخر ) ، التشبه بهم ، إباحة الربا ، تحرير المرأة ، تحريم تعدد الزوجات ، أليست هي ذات المطالب التي ينادي بها الليبراليون اليوم ؟
ــ لم يتجه محمد عبده ومن معه في نقده للمؤسسة الدينية الرسمية ( الأزهر ) إلى من يخالفونه فيها ، لم يجلس معهم يخاطبهم بما عنده ، يعرض عليهم أطروحاته ويستمع لردودهم ، وقد كان الإخلاص يقتضي ذلك ، بل إن نصوص الشريعة تأمر بذلك ففي الحديث ( الدين النصيحة … الحديث ) ، ولكنه اتجه للجماهير ، وأخذ يقلبها على المؤسسة الدينية الرسمية ، بل وينفرها منها ، بدعوى أنهم غير متفتحين ، لا يفقهون الواقع ، فتاويهم تصلح لخمسة قرون ماضية ، أما هذا اليوم فيحتاج لمفتي أوعى وأدرى بحال الناس ، وأخذ يرميهم بما ينفر الناس منهم . وكان متدنيا في كلماته يصف الأزهر بأنه ( المخروب ) و ( الأستبل ) في إشارة واضحة إلى أن ما فيه من علماء حيوانات لا يفقهون شيئا ، يتكلم بهذا ثم هو إمام ومجدد عند بعضهم !! ، وطبيعي أن يجد من يسمع له ويتحمس لفكرته .
ــ ومن أهم ما حدث أن هذا التيار الجديد أخذ يُربي مجموعة من النابهين الطامحين المتحمسين على أفكاره ، ولك أن تقرأ سير كل الشخصيات التي برزت بعد ذلك في جميع المجالات حتى السياسية لتجد أنها تأثرت مباشرة بالخطاب المنبعث من المؤسسة الدينية في شخص محمد عبده يومها ، قاسم أمين ، أحمد لطفي السيد ، سعد زغلول ، والذين جاءوا من بعدهم كابن العقاد وغيره . وكانت تربية هؤلاء الكوادر تعتمد على أسلوب الانتقاء والمتابعة . وسيأتي مزيد بيان لهذه النقطة إن شاء الله وقدر
ــ فالصورة التي انتهى إليها هؤلاء ( الإصلاحيون ) أنهم استدبروا المؤسسة الدينية ، وأخذوا يتكلمون للناس ويربون ، وأوجدوا واقعا جديدا بعيدا عن الواقع القديم ، وفرضوه على الواقع القديم . ثم حدث الاستبدال بعامل الوقت ، وبعصا السلطان .
ــ المحور الأخير وهو المنسق والمفعل لكل هذه المحاور هو عصا السلطان ، التي سمحت لهذا ومنعت هذا ، وقدمت هذا وأخرت هذا ، وولت هذا وعزلت هذا ، كانت يومها في أرض الكنانة مع المجرمين وتحارب الطيبين ، وهي اليوم غائبة بل منحازة ( للملتزمين ــ المطاوعة ) وهي نعمة من الله لا بد من شكرها .
ــ بقى أن شيء لابد من ذكره ، وهو أن سبب تقبل المجتمع المصري للطرح التغريبي هو الإرجاء جرثومة الإرجاء ، عَمَلَت جرثومة الإرجاء عملها في عقيدة الأمة ، فأخرجت العمل من مسمى الإيمان ليكون شرط كمال لا شرط صحة واقتضاء ، فانحسر الإيمان في ذهن العوام إلى نطق بالشهادتين ، وإقرار باللسان ، وانتساب في الجملة إلى الإسلام .
ولولاه ـ أعني الإرجاء ـ ما انبهر بهم الشعب ولا من ذهبوا مبعوثين عن الشعب .
لولاه ما ذهبت النخبة من أبناء الأمة بل من طلبة العلم الشرعي في الأزهر الشريف ، إلى هذه البلدان الكافرة تتلمذ على يد أبنائهم ، وتثني عليهم ، وتريد منا تقليدهم والسير في ركابهم .
لولا الخلل العقدي الذي أحدثته جرثومة الإرجاء في المفاهيم الإسلامية ، والتصورات العقدية عند هذه النخبة ، لوقفوا في ديارهم حين رأوا حالهم يقولون لهم : ” اعبدوا الله ما لكم من إله غيره .” ” قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن الإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ” ” ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحانه وتعالى عما يشركون .
ولعادوا إلينا يقولون لنا : إنهم أهل دياسة لا يغار الرجل على عرضه ، وأهل كفر لا يتحاكمون إلى شرع الله …ولكن شيئا من هذا لم يحدث . بل أُشربت قلوبهم الفسق بضلالهم وبُعدهم عن منهج الله الصحيح ، فعادوا يريدون من الأمة أن تسير في ركاب الضالين … وأن تقتفي أثر باريس وبرلين ، وأن تحمل على أعناقها الفسقة والمجرمين .
واليوم الإرجاء موجود ولكن بشكل آخر ( سلفي ) ملتزم هو بالسمت والشعائر ، ولكنه لا يرى حرجا على من ترك وبدّل أو ردَّ وعاند واستكبر ما دام ينطق بكلمة التوحيد . والموت بالزهرِ مثل الموت بالفحم . فالمحصلة واحدة بين إرجاء الأمس وإرجاء اليوم .
إرشادات لإحباط كيد المجرمين[13]
ــ غالب من يتكلم يتجه للجماهير بخطاب عام ، وهذا وحده لا يكفي .
من يتدبر في نشأة الدول ، والفرق ، يجد أن الجماهير لا تدخل مراحل الصراع الأولى ، وان الجماهير مع مَنْ غلب في الأخير ، فهي طيِّعة تُؤتى من أذنها . ولكن تنشأ الدول والأفكار بطريقة التنشئة والتربية ثم التوجه للجماهير بخطاب عام يتناسب مع مستوى وعيها وقتئذ .
مثلا الدولة العباسية ، بدأت بالدعاة المخلصين ثم مارس هؤلاء الدعوة السرية ثم اتجهوا ـ بمن أطاعهم ــ للجماهير بخطاب حماسي تحريضي وساروا إلى بني أمية في دمشق وأسسوا الدولة ، واشتُهر في التاريخ اصطفاء مجموعة من الأفراد ذوي المهارات المعينة من أجل تنفيذ مهام محددة ، وكان أكثر ذلك في القتال ، وعلى سبيل المثال المماليك البحرية[14] والفتيان العامريون[15] والانكشارية [16]
ومن هذا الكلية التي أنشأها اللورد ( كرومر ) و ( الشيخ ) محمد عبده ( 1849م ـ 1905م ) في مطلع القرن العشرين لتخريج قضاة شرع من ذوي الطابع التحرري . . . كانت بمثابة محضن تربوي لمجموعة منتقاة من الطلبة وتعتمد على برامج علمية منتقاة أيضا لتحقيق أهداف خاصة … كانت ( نظم تذود الطالب ببرامج ثقافية ذات طابع تحرري ولا تحصر الطالب في الدراسات الخاصة) و( قد كانت تجربة أثبتت نجاحها من كل والوجوه ) كما يقول ( كرومر ) في تقريره لحكومته عام 1905م[17] . وهذه المدارس هي التي خرج منها جيل كامل من الشاذين فكريا وأصحاب الطموحات الدنيوية ـ كما يصفهم الدكتور محمد محمد حسين ـ يرحمه الله ـ والذين كانوا سببا رئيسيا من أسباب تغريب الأمة [18].
وقد فطن عباد الصليب إلى هذا الأمر فعمدوا إلى إنشاء مدارس تربوية خاصة . تعتمد مناهج معينة تحقق أهدافهم ، وتقبل طلابا بصفات معينة من الذكاء أو الوضع الاجتماعي ـ أبناء الأمراء وكبراء القوم ـ ولكي تعرف خطورة هذه المدارس أنقل لك كلمة أحدهم ، يقول وقد أسس مدرسة في اسطنبول عام 1863م : « لقد أنشأ الأتراك حصناً لفتح إسطنبول ، وأنا سأنشئ هنا مدرسة لهدمهم » ، وما يعنيني هنا أن هذا المدارس قامت على نوعي الانتقاء الذي أتكلم عنه انتقاء الأفراد وانتقاء المنهج . وكانت محصلتها ما نحن فيه اليوم[19] .
ولا بد من العمل على ذات المحور ، أعني تربية كوادر علميه تتصدى للمجرمين وتتولى مسئولية توجيه الأمة . أو تفرض واقعا جديدا على الموجودين .
إن الصراع بين الحق والباطل لا يظهر على السطح إلا في المراحل الأخيرة ، ومراحل الإعداد تكون كلها في إطار ضيق خفي لا يدري بها إلا النابهون من المهتمين ، فانتظار أن يحتدم الصراع على السطح . . . أمر من السذاجة بمكان ، ويكفي ما مضى في التاريخ من دروس وعبر .
ــ طرد الإرجاء الفكري ، والتصدي للمحاولات ( الإصلاحية ) التي تنبثق من داخل الصف الإسلامي ( الصحوي ) تحديدا ، فكما رأينا في التجربة المصرية ، لا بد من الصحويين أصحاب الأيدي النظيفة ، ليتكلموا للناس بأن الذي يدعوهم إليه القوم لا يفارق الشرع في كثير ، وهذا يقتضي إشاعة فقه المآلات في الفتوى ، والنظر في الخلفيات والدوافع ، وعلينا أن نذكر هؤلاء بالله وأن ينظروا في مآل ما يتكلمون به .
________________________________________
[1] طالب علم
[2][2] الروض الأنف قصة مقتل عروة بن مسعود الثقفي . وحاء في سنن الترمذي 3582في كتاب المناقب من حديث جابر بن عبدالله _رضي الله عنه_ وهو في الإسراء والمعراج وصف عروة بن مسعود الثقفي بعيسى عليه السلام . وجاء ذلك أيضا في صحيح مسلم كتاب الإيمان حديث رقم 251 .
[3] مسند أحمد 5172
[4] والبداية والنهاية لابن كثير : جــ 2 ــ 220
[5] البخاري 2634ومسلم 4436.
[6] البخاري كتاب المغازي حديث رقم 4382
[7] يذكر مثلا أن سيد قطب ومحمد قطب ، وهم من أشهر الأسماء في الصحوة الإسلامية ، كانوا ممن تربوا ضمن منظومة التيار التغريبي ، وكذا بدأ الحجاب ــ بمفهومه الشرعي الصحيح ــ يظهر في الجامعات العلمانية وفي الشارع المصري حتى أصبح ظاهرة . وكذا اللحية وتقصير الثياب بين الشباب .
[8] خطورة المعلم كخطورة المناهج إن لم تكن أشد ، فالقدوة لها تأثيرها القوي جدا في حس الناشئة ، ويستطيع أي معلم أن يخرج على المنهج ويبث مفاهيم جيدة أو رديئة أثناء تدريس المنهج الرسمي . لذا ينبغي أن يكون الاهتمام بالمعلم من جنس الاهتمام بالمناهج .
[9] انظر ـ مثلا ــ ( التعليم الأجنبي مخاطر لا تنتهي ) لـ مهيمن عبد الجبار ..مجلة البيان العدد / 174صـ18 ، والعدد 175 صـ 8 . وهو من أفضل ما اطلعت عليه في هذا الموضوع .
[10]
[11] قلت كل يدعي الإصلاح ، وفي المنافقين نزل قول الله تعالى : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون . ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ) .
[12] [ العقاد :أعلام العرب ص : 176]
[13] لم أقصد بالمجرمين إخواننا ممن يصب كلامهم في حياض القوم ، فهؤلاء دون ذلك ، وهم أخوة لنا في كل حال . ولكن عنيت الذي يتولى كبره .
[14] وهم من المماليك الترك ويعرفون في كتب التاريخ بالمماليك البحرية نسبه لقلعتهم التي كانت بالروضة في البحر ( نهر النيل ) . جلبهم الملك الصالح نجم الدين أيوب المتوفي سنة 647 هـ واستعان بهم في حروبه الداخلية والخارجية ، ثم استولوا بعد ذلك على الحكم وقامت لهم دولة في مصر والشام سنة 650هـ ، وهم من تصدوا بعد ذلك للتتار . وخلفهم في الحكم المماليك البرجية ثم المماليك الشراكسة . واستمرت دولتهم إلى أن قضى عليها السلطان سليم الأول العثماني سنة 922هـ . أنظر البداية والنهاية لابن كثير أحداث عام 922هـ
[15] ينسبوا إلى الحاجب المنصور بن أبي عامر أمير الأندلس الشهير المتوفي عام 393 هـ ، وكانوا من العبيد البيض ( الصقالبة ) ، دربهم وأحسن تدريبهم ، واعتمد عليهم في تثبيت أركان ملكة والقضاء على خصومه . وكانوا أحد الأسباب الهامة في الفتن الداخلية التي نشأة في الأندلس وكانوا سببا في ما عرف تاريخيا بدولة الطوائف الثانية . أنظر ترجمة الحاجب المنصور في أحداث عام 392 وما تلى ذلك من أحداث . البداية والنهاية بن كثير .
[16] كلمة ( انكشارية ) كلمة عربية محرفة لكلمة تركية هي ( يني تشاري ) وتعني الجيش الجديد ، وهم مجموعة من الشبان صغار السن من أسرى الحرب أخذهم السلطان الغازي ( أورخان الأول ) ورباهم تربية إسلامية بحيث لا يعرفون أبا إلا السلطان ولا حرفة إلا الجهاد في سبيل الله ، ولعدم وجود أقارب لهم بين الأهالي لا يخشى من تحزبهم مع الأهالي على الدولة . وكانوا في البداية فرقة صغيره ثم زاد عددهم حتى صار لا يعول إلا عليهم في الحروب ن وكانوا من أهم وأكبر عوامل امتداد سلطة الدولة العثمانية ، واشتهروا بالفتك بخصومهم والغدر أحيانا ، كما أنهم خرجوا فيما بعد عن حدودهم وتعدوا واستبدوا بما جعلهم سببا في تأخر الدولة وتقهقرها . انظر ـ إن شئت ـ تاريخ الدولة العلية العثمانية ج1/ص123. محمد فريد بك . دار النفائس بيروت . بتصرف يسير .
[17] العلمانية للشيخ الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي 576 ، 577
[18] أنظر للكاتب ( حاجتنا للانتقاء في التربية ) ، موقع المسلم الركن الشرعي ، وصيد الفوائد في الصفحة الخاصة .
[19] لمزيد من التفاصيل حول التعليم الأجنبي في العالم الإسلامي ، انظر ( التعليم الأجنبي مخاطر لا تنتهي ) لـ مهيمن عبد الجبار .مجلة البيان العدد / 174صـ18 ، والعدد 175 صـ 8 .