المكان يحط الرحال في القيروان

تونس ـ «القدس العربي» (خاص) في وسط تونس ارتحلت قافلة القيروان الفنية لتستقر في مدينة القيروان العتيقة، هذه المدينة الضاربة في القدم، ما زالت تحتضن الماضي السحيق بين أسوارها، تخبئ أسرار المسلمين والعرب الأوائل الذين فتحوا شمال إفريقيا. خليط سحري بين ضوء السماء واحمرار الأسوار وخضرة الأشجار وبياض المنازل والمقابر، مزيج مبهر من الألوان يسر […]

المكان يحط الرحال في القيروان

[wpcc-script type=”7a7a4e99e1d757cc2bf94a84-text/javascript”]

تونس ـ «القدس العربي» (خاص) في وسط تونس ارتحلت قافلة القيروان الفنية لتستقر في مدينة القيروان العتيقة، هذه المدينة الضاربة في القدم، ما زالت تحتضن الماضي السحيق بين أسوارها، تخبئ أسرار المسلمين والعرب الأوائل الذين فتحوا شمال إفريقيا.
خليط سحري بين ضوء السماء واحمرار الأسوار وخضرة الأشجار وبياض المنازل والمقابر، مزيج مبهر من الألوان يسر الزائرين. إنها مدينة القيروان، حيث حلت ركائب قافلة «لقاء المكان الدولي للفن الحاضر»، الذي استمر من يوم 3 إلى غاية 13 من شهر أكتوبر/تشرين الأول 2018، في دورته الرابعة. بعدما عرف نجاحا في سابق الدورات الأخرى التي حطت تباعا في كل من المدن التونسية: سيدي بوعيد وقفسة وجرجيس. ولم تكن تظاهرة المكان وليدة العبث، بل إنها وليدة الرغبة في مكافحة العنف والتطرف الذي يمس الفنون، إذ بتاريخ 10 يوليو/تموز 2012 قامت جماعات تكفيرية بالاعتداء على معرض ربيع الفنون في قصر العبدلية في ضاحية المرسي، وبهذا توقفت التظاهرات بعد حدث فني مستقل في تونس (العاصمة). وبعد سنوات من الرجات والصراعات الحادة على أساس الهوية، تبلورت فكرة بعث تظاهر فنية عالمية تؤصل التنوع واللامركزية الثقافية، قصد الخروج بالفن من المركز إلى «الهامش». فكانت أولى الدورات في سيدي بوسعيد في أغسطس/آب 2015.


القيروان التي زارها ذات سنة من القرن الماضي بول كلي، ليغرم بألوانها وأضوائها ويقول عنها «أسرني اللون. لا أحتاج إلى البحث عنه. لقد تملّكني إلى الأبد، أعرف ذلك المعنى السعيد لهذه اللحظة: أنا واللون بتنا شيئا واحداً. أنا رسام»، وهي بالفعل مدينة الألوان وبهجة الضوء، وما اختيار القيروان إلا بحثا عن دمج اللون والأشكال الفنية داخل عوالم الغموض والسحر الذين جذبا كبار الرحالة والكتاب والفنانين، أمثال كلي وماكة وأندري جيد ودي موباسان ونزار القباني… وغيرهم. هذا بالإضافة لإحياء ذكرى الشاعر والروائي التونسي الراحل حسين القهواجي، وتكريما للفنان حمادي سكيك (1941-2011) الذي كان معلما لأجيال عدة في القيروان. يقول الفنان التشكيلي والكاتب العام للجمعية المنظمة عمر الغدامسي، عن اختيار القيروان بالتحديد في هذه الدورة: «نحن في تظاهرة «المكان» ننتقل ونرتحل في كل دورة، بعد سيدي بوسعيد وجفسة وجرجيس، جاء الدور على القيروان لما تتمتع به من تاريخ وحضارة، فهذه المدينة ذات ثقل إسلامي وتراثي كبير، فكان لابد أن نأتي للقيروان، لأن نطبع علاقة القيروان بالحاضر وفن اليوم». ويضيف قائلا «اكتشفنا درجة اللاتوازن بين المدينة والمدن الداخلية والجهات الداخلية، ونعلم أن العمق التونسي هو الذي وقف في مواجهة النظام، ما يستلزم لفت الانتباه للعمل واللامركز، والجمعية من هذا المنطلق قررت الخروج من المركز والذهاب إلى عمق تونس، قد تكون هناك انزلاقات، وهذا ليس عيبا، لكن تبين لنا أن هناك إمكانيات ومؤهلات ثقافية وفنية تونسية بعيدة عن المدن الكبرى ظلت مهمشة بسبب «التصحير» الذي نهجه النظام السابق. ما منع وجود حراك يشابه ما يقع في المدن المركزية، بالإضافة لما نهجه النظام السابق، فالمجتمع المدني لم يكن قادرا على إبراز تلك المؤهلات وإحداث حراك فني وثقافي بعيدا عما تدعمه الدولة فقط. ودورنا في الجمعية هو الخروج بالفن إلى مستويات مختلفة، لهذا فنحن نشتغل مع أطفال وفنانين من الجهات التي ننتقل إليها وفنانين خارج الوطن من بلدان عدة عربية وغير عربية، بالإضافة لإحداث ندوات تصب في مواضيع عدة متعلقة بالفن وحيثياته».


فتحت هذه المدينة أسوارها العتيقة للفنانين القادمين من مختلف ربوع العالم، من تونس والسنغال والمغرب والدنمارك ومصر ولبنان الكويت والأردن وفلسطين والعراق والأراضي المنبسطة وإسبانيا… في خليط بين مختلف التيارات الفنية من صباغة على القماش والبرفورمانس والنحت والأنستلايشن… بالإضافة إلى الشعر.
هذا المزج هو ما منح هذه التظاهرة الفنية رونقها ومحصلتها الإبداعية. ولم تقتصر الأنشطة التي عرفها هذا الحدث الفني، على عوالم الفن وخباياه، بل عرف «المكان» أنشطة موازية، أخرجته من رتابة باقي التظاهرات الأخرى المشابهة، إذ عرف تقديم ورشت للأطفال الصغار، تقريبا للفن إليهم. وعقد لقاء مداخلة تاريخية، لعبد الجليل بوقرة، التي سلط الضوء فيها الضوء على تاريخ مدينة القيروان، وحيث تناول أهمية المدينة في التاريخ الإسلامي، خاصة في شمال إفريقيا، باعتبارها أول مدينة إسلامية تم تشييدها في المنطقة، ومن ثم تناولت المداخلة أيضا الدور الثقافي والإبداعي لهذه المدينة في العصر الحديث. وكان الجمهور والحاضرون على موعد مع محاضرة عن علاقة الحوْكمة الرشيدة في الحفاظ على التراث المادي، والتي ساهمت فيها الهيئة الوطنية لمقاومة الفساد.
من هذا التنوع برزت أهمية «المكان» كتظاهرة فنية لا يقتصر دورها على إنجاز حدث فني عابر، بقدر ما تصبو إلى إحداث تفاعل بين الجمهور والفن وباقي الأمور التاريخية والسوسيولوجية والسياسية التي ترتبط به. وفي هذا الصدد أعرب التشكيلي المغربي عبد السلام أزدام لـ»القدس العربي» قائلا: «هذا الملتقى ـ بالنسبة لي- هو اكتشاف لجزء من بلد عربي شقيق. أما المكان للفن الحاضر، استطاع أن يكون مكانا لتقاسم المعارف الفنية بين مختلف الفنانين القادمين من عدة دول عربية وأجنبية. بالإضافة لكون أغلب الأعمال المنجزة في هذه التظاهرة في دورتها الرابعة، هي أعمال ممتازة جدا، كانت نتاج تقاسم المعارف بين مختلف الفنانين، الذين تركوا محترفهم لبرهة من الزمن، ليشاطروا محترفا واحدا وفضاء/مكانا واحدا، في مدينة عريقة ملأى بالألوان والعتاقة».
وقد تخلل المهرجان لقاء شعري، في ضريح سيدي عبيد الغرياني، في ذكرى الراحل حسين القهواجي، واحتفالا بتجربة شاعر تونسي بصمة على مسار شعري بديع، بحضور كل من الشاعر البشير القهواجي والشاعر أرتورو ديسيمون من جزيرة أروبا الأمريكية والشاعر المغربي عزالدين بوركة، الذي أعرب في هذا الصدد عن أهمية هذه التظاهرة في كونها تعد تقاربا بين مختلف الفنون والتيارات، غايتها إلغاء الحدود والحواجز بين تيارات الفن، إنها ثقافة عابرة للحدود، كما جاء على لسانه.
بهذا يكون لقاء المكان للفن الحاضر، قد خطى خطوة مهمة نحول تقارب الفنون في ما بينها، كما ربط المركز بالهامش وإزالة كل الحدود الفاصلة بين الجهات.

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *