صنع الرجال أعظم صنعة، وبناء الإنسان أشد من بناء ناطحات السحاب، وهناك رجال الواحد منهم بألف، كما أن هناك ألوفاً لا يساوون رجلاً واحداً.
@والناس ألفٌ منهمُ كواحدٍ.. .. ..وواحدٌ كالألفِ إنْ أمرٌ عنا@@
وفي وسط الظلام الدامس، والأيام الحالكة، والليالي المفعمة بالسواد، يتراءى للناس شعاع من نور الله، فيبعث الله لهم من يجدد لهم أمر دينهم، ويعيد ترتيب شؤون حياتهم، فيقيض الله لهذه الأمة رجالاً يحملون همَّ هذا الدين، فيتركون الدنيا وزينتها، ويجعلون زخرفها وراءهم ظهرياً.
وصلاح الدين يوسف بن الأمير نجم الدين أيوب بن شاذى الدويني، التكريتي المولد- رحمه الله – كان من هذا الطراز، رجلٌ أمة، وإذا جاز القول فهو إحدى معجزات الإسلام الباهرة، وإحدى آياته الظاهرة، ولكن.. لماذا الحديث عن صلاح الدين الآن؟ أهو تغنّى بالماضي أم بكاء على الأطلال ؟ أم أنه تحسر على الواقع المرير؟
**لماذا صلاح الدين؟!***
الحق أن الحديث عن صلاح الدين رحمه الله أمر مطلوب، أو قل هو ضرورة إسلامية وفريضة شرعية في هذا الوقت لأمور منها:
أولاً : لأن الأمة اليوم ضلت طريق الهدى، وتنكبت طرق الصلاح، فهي تحتاج إلى من يبين لها السبيل الصحيح والصراط القويم.. وفي هدي السابقين أعظم هداية.
ثانياً: لأن استقراء التاريخ أمر ضروري لتعرف الأمة كيف انتصر السلف، ليسير على الطريق الخلف، ولتعلم كيف أعيدت القدس أولاً لتعمل بنفس الطرقة على إعادتها ثانياً.
ثالثاً: لأن أمتنا في حاجة إلى من تقتدي، في عصر قلت فيه القدوات، وانعدمت فيه البطولات، وتغيرت فيه مفاهيم الرجولة والمروءة والمثل العليا.
رابعاً: لأن أمتنا تنتظر مثيلاً لصلاح الدين ليعيد لها عزتها وكرامتها.
خامساً: لأن القدس في محنة أشبه بما كانت عليه قبل مجيء صلاح الدين.
سادساً: لأن التفاؤل بالنصر أمر مطلوب، ومهما علت دولة الباطل فإنها ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة، فلا داعي لليأس، ولا حاجة إلى القنوط، بل العمل العمل، فنحن بحاجة إلى عطاء الأغنياء، وبذل العلماء، وجهاد الأتقياء، ومثابرة الدعاة، وعزائم الرجال، نعم بحاجة إلى لم الشمل، وشحذ الهمم، وتكاتف القوى، ونبذ الخلاف، وتوحيد الصف، وحسن التوكل على الله عز وجل.
**الأصل والنشأة : ***
لم يكن صلاح الدين – رحمه الله – من الأصل العربي الذي يتغنى به كثير من أدعيائه، وإنما كان رحمه الله من عائلة كردية، كريمة الأصل، عظيمة الشرف، ولد في تكريت، وهي بلدة قديمة تقع بين بغداد والموصل، وكان أبوه حاكماً لقلعتتها، والحق أن عراقة النسب لا تشفع لسوء الخلق، ورفعة الحسب لا تغني عن ضعف الدين، وهل كان أكثر عظماء هذه الأمة وبناة هذه الحضارة إلا من مسلمي غير العرب، وسل عن ذلك التاريخ يخبرك بأسماء لامعة كالبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم من أهل العلم وقادة الجيوش.
ومن غريب ما وقع، أن ولادة صلاح الدين يوسف بن نجم الدين أيوب بن شاذي، صادفت إجبار أبيه على الخروج من تكريت، فتشاءم أبوه منه فقال له أحد الحضور: فما يدريك أن يكون لهذا المولود ملكاً عظيماً له صيت ؟!.
هاجر نجم الدين أيوب بأسرته من تكريت إلى الموصل وكان نزوله على عماد الدين زنكي، فأكرمه، ونشأ الطفل صلاح الدين نشأة مباركة، درج فيها على العز، وتربى فيها على الفروسية، وتدرب فيها على السلاح، ونما فيها على حب الجهاد، فقرأ القرآن الكريم وحفظ الحديث الشريف وتعلم من اللغة ما تعلم .
**صلاح الدين وزيراً في مصر: ***
كانت مصر قبل قدوم صلاح الدين إليها مقرًّا لدولة العبيديين (أحفاد عبيد الله بن ميمون القداح اليهودي) والمسماة زورا وبهتانا بالدولة الفاطمية، وكانت مصر في هذا الوقت نهباً للثورات الداخلية بين الطوائف المختلفة، من مماليك أتراك وسودانيين ومغاربة، فطمع فيها الصليبيون، فلما رأى القائد نور الدين محمود هذه الخلافات، وبدا له طمع ملك بيت المقدس أموري الصليبي في دخول مصر، أرسل نور الدين محمود من دمشق إلى مصر جيشا بقيادة أسد الدين شيركوه، يساعده ابن أخيه صلاح الدين، فلما علم الصليبيون بقدوم أسد الدين شيركوه، تركوا مصر، ودخلها أسد الدين، ثم خلفه على وزارتها صلاح الدين .
حيكت المؤامرات من أرباب المصالح، وأصحاب المطامع، ولكن صلاح الدين تغلب عليها كما تغلب على الفتن الخارجية، وبدا لصلاح الدين ظهور الباطنية في مصر، فأسس مدرستين كبيرتين هما المدرسة الناصرية، والمدرسة الكاملية حتى يحول الناس إلى مذهب أهل السنة، تمهيداً للتغيير الذي يريده، إلى أن استتب له الأمر تماما في مصر فخطب للخليفة العباسي على المنابر في الجمع طاعة لأمر نور الدين محمود وتحقيقا لرغبة الأمة كلها .. وعادت مصر إلى حظيرة الخلافة الإسلامية مرة أخرى، وأصبح صلاح الدين سيد مصر، ليس لأحد فيها كلمة سواه.
**صلاح الدين والجهاد ***
كان” صلاح الدين “رحمه الله مفعما قلبه بحب الجهاد شغوفاً به، قد استولى على جوانحه حتى قال عنه الإمام الذهبي في السير: “كانت له همة في إقامة الجهاد وإبادة الأضداد ما سُمِع بمثلها لأحد في الدهر”.
وقد هجر رحمه الله من أجل ذلك أهله وولده وبلده، ولم يكن له ميل إلا إليه، ولا حب إلا لرجاله . يقول القاضي بهاء الدين: “كان الرجل إذا أراد أن يتقرب إليه يحثه على الجهاد، ولو حلف حالف أنه ما أنفق بعد خروجه إلى الجهاد ديناراً ولا درهماً إلا في الجهاد أو في الأرفاد لصدق وبر يمينه”.
إن لكل رجل هِمّة وهمُّة الرجل على قدر ما أهمه، وكأني بابن القيم – رحمه الله يصف صلاح الدين حين قال : “النعيم لا يدرك بالنعيم، وبحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا هم له، ولا لذة لمن لا صبر له ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له “.
@وإذا كانت النفوس كباراً.. .. ..تعبت في مرادها الأجسام@@
وهكذا كان صلاح الدين – رحمه الله – كانت حياته كلها جهاد، وكان يعود من غزو إلى غزو، ومن معركة إلى معركة، وقد استغرقت ترجمة ابن الأثير له في كتابه “الكامل في التاريخ” أكثر من 220 صفحة كلها مفعمة بالجهاد، وكانت معركة حطين من معاركه التي كتبت بأقلام من نور على صفحات من ذهب، وسطرت على جبين التاريخ شاهدة له بكل معاني الجهاد والتضحية.
**صلاح الدين والقدس***
يقول بهاء الدين شداد واصفاً حال صلاح الدين مع القدس: “كان رحمه الله عنده من القدس أمر عظيم لا تحمله إلا الجبال”. وقال أيضاً : “وهو كالوالدة الثكلى، ويجول بفرسه من طلب إلى طلب – ويحث الناس على الجهاد، ويطوف بين الأطلاب بنفسه وينادي ” يا للإسلام ” وعيناه تذرفان، بالدموع وكلما نظر إلى عكا، وما حل بها من البلاء، اشتد في الزحف والقتال، ولم يطعم طعاماً ألبتة، وإنما شرب أقداح دواء كان يشير بها الطبيب، ولقد أخبرني بعض أطبائه أنه بقي من يوم الجمعة إلى يوم الأحد لم يتناول من الغذاء إلا شيئاً يسيراً لفرط اهتمامه”.
وكان من كلامه – رحمه الله -: ” كيف يطيب لي الفرح والطعام ولذة المنام وبيت المقدس بأيدي الصليبيين؟!.
@همم تفادت الخطوب بها.. .. ..فهُرِعن من بلد إلى بلد@@
إن صلاح الدين – رحمه الله – كانت له غاية، وهو في غايته لا يرضى بدونها، إنه يتمثل قول القائل:
@ونحن أناس لا توسط عندنا.. .. ..لنا الصدر دون العالمين أو القبر
تهون علينا في المعالي نفوسنا.. .. ..ومن خطب الحسناء لم يغله المهر@@
ولقد أراد صلاح الجنة ورضي بها مقراً بدلاً عن الدنيا، وقدم لها المهر غالياً رحمه الله.
وما أن أكرم الله ” صلاح الدين ” في حطين، حتى جاءته رسالة على لسان المسجد الأقصى جاء فيها :
@يا أيهـا الملك الذي.. .. .. لمعالم الصلبان نكس
جاءت إليك ظلامة.. .. ..تسعى من البيت المُقَدَّس
كل المساجد طهرت.. .. ..وإنا على شرفي أُدنس@@
وأكرم الله بيت المقدس بصلاح الدين كما أكرم صلاح الدين ببيت المقدس ففتحه في 27 رجب عام 583هـ ، وقام القاضي محيي الدين بن زكي الدين ليخطب أول جمعة بعد قرابة مائة عام، وكان مما قال مخاطباً صلاح الدين وجيشه: ” فطوبى لكم من جيش، ظهرت على أيديكم المعجزات النبوية، والوقعات البدرية والعزمات الصديقية، والفتوحات العمرية، والجيوش العثمانية، والفتكات العلوية. جددتم للإسلام أيام القادسية، والوقعات اليرموكية، والمنازلات الخيبرية، والهجمات الخالدية، فجزاكم الله عن نبيكم صلى الله عليه وسلم أفضل الجزاء.
**أوصافه ***
لم يكن “صلاح الدين” رحمه الله ممن يبحث عن ألقاب زائفة، أو دنيا زائلة لكنه كان داعية حق، ورجل معركة، وصاحب عقيدة.. يقول واصفوه: “كان رحمه الله خاشع القلب، غزير الدمعة، إذا سمع القرآن الكريم خشع قلبه ودمعت عينه، ناصراً للتوحيد، قامعاً لأهل البدع، لا يؤخر صلاة ساعة عن ساعة، وكان إذا سمع أن العدو داهم المسلمين خر ساجداً لله قائلاً: ” إلهي، قد انقطعت أسبابي الأرضية في دينك ولم يبق إلا الإخلاد إليك والاعتصام بحبلك والاعتماد على فضلك، أنت حسبي ونعم الوكيل”.
ومن جميل ما ذكر عنه أنه كان يواظب على سماع الحديث، حتى سمع جزءاً من الحديث وهو واقف بين الصفين، وقال في ذلك – رحمه الله -: “ذا موقف لم يسمع أحد في مثله حديثاً”.
كانت أمنيته أن يسود الإسلام كل بلاد الأرض قاطبة .. اسمع إليه يقول: “إنه متى ما يسَّر الله تعالى فتح بقية الساحل، قسمت البلاد، وأوصيت، وودعت وركبت هذا البحر إلى جزائره واتبعتهم فيها، حتى لا أبقى على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت!!!”.
**موته رحمه الله ***
ومات صلاح الدين :مات “صلاح الدين” – رحمه الله – كما مات من سبقه من البشر من الأنبياء والمرسلين والدعاة والمصلحين مرض رحمه الله في 16صفر589هـ، ووافته المنية في 27صفر589هـ، ولئن كانت روحه قد فارقت جسده، وانتقل بجسده وروحه عن دنيا الناس، إلا أن أعماله الخالدة حيّة يذكره الناس بها في كل آن، ويتطلع الناس إلى مثلها في كل مكان.