النظر إلى الخلف
[wpcc-script type=”ce367f1ce347d515363a32cf-text/javascript”]

الأضواء خافتة تـميل إلى الصفرة الفاقعة وكأنها أعدت لتصوير مشهد حزين في فيلم سينمائي. درجة الحرارة تحت الصفر بقليل، والثلج ينزل نُتَفًا متفرقة مثل دقيق أوراق أو قِطَعِ صوف نفختها الريح في سماء هذا الصباح الباكر. بِعينين متعبتين وخطوات متثاقلة تسلق أدراج السلم نحو السكة رقم واحد. اعترضه رجل تبدو عليه علامات الاستعجال سائلا إياه عن السكة رقم ستة. أشار له بأصبعه إلى الوجهة التي عليه أن يتبعها، ثم أكمل طريقه نحو كرسي الانتظار على الرصيف. نظر حوله، يمينا وشمالا، إلى الأعلى ثم إلى الأسفل. انتبه إلى أنه الوحيد على الرصيف لا بشر يتحرك سوى علب بيرة فارغة تدفعها الريح ببطء شديد. اللوحة الإلكترونية المعلقة على الجدار تتحرك أرقامها من حين لآخر، ساعتها تشير إلى الخامسة وبضع دقائق فجرا. الوجهة مدينة بروج بالفلاندر.
على البشير أن ينتظر حوالي أربعين دقيقة، فقد وصل متأخرا بدقيقة واحدة عن قطاره، بل إن مراقب التذاكر كان لايزال يطل بعنقه، لكنه كان قد أعطى إشارة إغلاق الأبواب. هل يعود إلى داخل المحطة أم يلتصق بكرسيه وينكمش في جاكيته القطني الساخن، مستمتعا بالأغاني الشبابية التي تبثها إذاعة فيفاسيتي؟ لا يوجد مقهى مفتوح، ولا متجر يشتري منه شيئا يشغل به مصارينه التي تعصر الفراغ؛ فقط بعض المسافرين الآسيويين العابرين إلى وجهاتهم المجهولة بعيونهم المنهكة وحقائبهم المرصوصة مثل قطع إسمنت كبيرة يجرونها خلفهم إلى ما لا نهاية وكأنهم يكفرون عن خطيئة ارتكبوها فـي حياتهم. يشحنون هواتفهم قرب شبابيك التذاكر ويستمتعون بلحظات نوم مسروقة والدفء المنبعث من المدفأة المثبتة في بهو الشبابيك. موظف وحيد يجلس بعينين يقظتين خلف زجاج الشباك يزجي الوقت بتمرير خيط التدوينات على صفحته الفيسبوكية من أعلى إلى أسفل ثم من أسفل إلى أعلى. الأهم هو تزجية الوقت لا غير في انتظار انتهاء فترة الدوام.
عاد البشير من جديد إلى بهو المحطة اتقاء البرد الشديد. مهاجرون بسحنات بنية وسوداء وأجساد منهكة يتقاسـمون سـجائر المالبورو وجعة الجوبلير الرخيصة، يقهقهون ويضحكون وكأنهم في حفل عائلي. لا شيء يـهمهم فقد تركوا خلفهم أوطانهم وعائلاتهم وحبيباتهم ووصلوا هنا التماسا لحياة أفضل. تتردد قهقهاتهم في أرجاء المحطة مثل أغاني غـجرية. يـمر حراس السكة الحديد فيزجرونهم ويطلبون منهم الابتعاد قليلا نحو زاوية في المدخل الشمالي للمحطة. أحدهم يقلد ستروماي في أغنيته «فورميدال» وهو يشير إلى لفافة الحشيش بين شفتيه الزرقاوين.
القطار هو الآخر شبه فارغ من المسافرين. اليوم يوم أحد والفترة فترة أعياد الميلاد، تحرك من تحرك وسافر من سافر، وأغلب الناس في بيوتها الدافئة أو في وجهاتها السياحية انتظارا لعشاء ليلة الرابع والعشرين من ديسمبر/كانون الأول.
كان البشير ينظر إلى المشهد بتأمل عميق، فيما خياله يسرح بعيدا نحو مضيق جبل طارق والسواحل المحادية لتطوان حيث سبق له أن عاين أمثالهم يتجمعون قبل عبور بحر الأهوال وخوض المغامـرة الكبرى للوصول إلى هذا البرد القارص. تذكر أباه الراقد هناك في مقبرة في قرية قصية في المغرب تحت سماء زرقاء وبين أشجار زيتون بعمر آلاف السنين، تذكر إخوته وأصدقاءه وكل الوجوه التي صادفها هنا وهناك، في منعرجات الحياة الكثيرة. وقع ناظراه صدفة على الشاشة الكبرى فانقطع خيط الذكريات بعد أن انتبه إلى دنو موعد انطلاق القطار إلى لوكرين. انطلق سريعا عبر الممر الطويل المقابل لشبابيك التذاكر، ثم انعطف بخفة نحو السلم الآلي المؤدي للرصيف رقم واحد. كان القطار قد وصل والمراقب على أهبة إطلاق صافرة الانطلاق، انسل عبر الباب قبيل انغلاقه ثم جلس في المقعد الرباعي مقابلا لشاشة المعلومات وبمحاذاة المأخذ الكهربائي حيث يحلو له الجلوس دائما من أجل شحن هاتفه.
القطار هو الآخر شبه فارغ من المسافرين. اليوم يوم أحد والفترة فترة أعياد الميلاد، تحرك من تحرك وسافر من سافر، وأغلب الناس في بيوتها الدافئة أو في وجهاتها السياحية انتظارا لعشاء ليلة الرابع والعشرين من ديسمبر/كانون الأول. مسافرون قلة يستقلون القطار علِقُوا لسبب أو لآخر في طريقهم إلى وجهاتهم المرسومة لقضاء العطلة. رجل أسود بدا قادما من عمق القطار، يتمايل وكأنه سكران. قد يكون قضى ليلته في أحد بارات بروكسل. جلس غير بعيد عن البشير وارتمى على كرسي وكأنه سقط، لا يمكن التحقق من ذلك لأن القطار كان لحظتها يرتج قليلا بحكم عبوره جسرا حديديا. سقطت حقيبته فالتقطها الى حجره وشرع في تقليب محتوياتها بطريقة تشي بـبحثه عن شيء ما مهم. تذكرة القطار، هاتف، سماعات… كان قبلها قد لفت انتباه عبد الله بسرواله اللامع الضيق والهابط وببقايا لون أحمر على مناطق مختلفة من وجهه وبهاتفه ذي الغلاف الوردي. أخرج شيئا مشبَّكا يشبه لباس الراقصات، ثم حمالة صدر حمراء (ماذا يفعل رجل بحمالة صدر، لعلها لصديقته). فجأة أوقف عملية البحث ولملـم أغراضه ثم جعل من حقيبته وسادة وإن كانت غير مـريـحة، ثم غاب في نومة أعمق من بئر في صحراء. تأمله البشير جيدا، تعاطف مع حالة تعبه المعتادة لديه، لكنه غار من نومته العميقة واللذة التي يبدو أنه يستمتع بها في غفوته. خمن أنه مثلِيٌّ قضى ليلة حمراء مع خليله وقد لا يكون سوى رجل من رجالات الأرض العابريـن اضطرته ظروفه المادية والاجتماعية للعمل راقصا في حانات بروكسل الليلية والإكسسوارات ليست إلا من أجل التنكر أو… فجأة أوقف سيل الاحتمالات بعد أن أخذه لحن أغنية على حين غرة فتذكر أيامه الأولى وهو لا يزال يتحين الفرصة على الشواطئ الممتدة بين تطوان وطنجة، من أجل الفوز بفرصته في الرحيل نحو أوروبا. النقاشات العقيمة في السياسة والدين وكـرة القدم الإسبانية. لياليه البيضاء وهو يجتر مقررا غير مقتنع بالأفكار التي يحويها، اللهم إلا من أجل الامتحانات. ليس هذا هو الوضع الذي حَلِمَ به ولم يخطر بباله أن السنوات التي قضى في مدرجات الجامعة بلياليها ونهاراتها، بحلوها ومرها، بسهلها ووعرها بنجاحاتها وسقطاتـها ستنتهي به جامع قـمامة في مدينة صغيرة في بلد صغير. جامع قمامة بلباسه الأخضر وحذائه الثخين الأثقل من حجر وطاقيته التي لا تنفع في شيء سوى أنها تـحمل علامة الشركة المشغلة. تميزه بين حشد الناس العابرين في نهاراتهم المزدحمة بالمواعيد.
٭ كاتب مغربي