الوثائقي «ظلال»: حكايات متناثرة ترصد «جنون الواقع» في مصر

القاهرة ـ «القدس العربي»: عالم المرضى النفسيين «المجانين»- كما يُطلق عليهم- هؤلاء الذين لم تحتمل عقولهم ونفسياتهم تصرفات المخاليق، فاعتصموا بحجراتهم خلف الأبواب والمزاليج، خشية مواجهة الواقع. منهم مَن جاء بإرادته وظل ولا يريد العودة إلى ما يسمونها الحياة، ومنهم مَن يحيا على أمل مخفوت/ ظِل يكاد يتلاشى، حالماً بالعودة، وهو يُخفي رعبه من الخارج. ودن أن نرى الأمر أو نفرض رؤيته في هالة من الرومانسية، إلا أن أحداث فيلم «ظلال» تحاول جعلنا كذلك .. أي جنون هو؟ عالم المصحات العقلية، أم العالم الحقيقي والمجتمع الذي فاقه جنونا؟ الفيلم من سيناريو وإخراج «ماريان خوري ومصطفى الحسناوي». إنتاج العام 2010، وتم عرضه مؤخراً في قاعة (زاوية) بسينما (أوديون) بالقاهرة.

الوثائقي «ظلال»: حكايات متناثرة ترصد «جنون الواقع» في مصر

[wpcc-script type=”8cc63d4d17f2e2370478d8ce-text/javascript”]

القاهرة ـ «القدس العربي»: عالم المرضى النفسيين «المجانين»- كما يُطلق عليهم- هؤلاء الذين لم تحتمل عقولهم ونفسياتهم تصرفات المخاليق، فاعتصموا بحجراتهم خلف الأبواب والمزاليج، خشية مواجهة الواقع. منهم مَن جاء بإرادته وظل ولا يريد العودة إلى ما يسمونها الحياة، ومنهم مَن يحيا على أمل مخفوت/ ظِل يكاد يتلاشى، حالماً بالعودة، وهو يُخفي رعبه من الخارج. ودن أن نرى الأمر أو نفرض رؤيته في هالة من الرومانسية، إلا أن أحداث فيلم «ظلال» تحاول جعلنا كذلك .. أي جنون هو؟ عالم المصحات العقلية، أم العالم الحقيقي والمجتمع الذي فاقه جنونا؟ الفيلم من سيناريو وإخراج «ماريان خوري ومصطفى الحسناوي». إنتاج العام 2010، وتم عرضه مؤخراً في قاعة (زاوية) بسينما (أوديون) بالقاهرة.

ظلال

يبدأ الفيلم بلقطة عامة لبعض النزلاء من الرجال في المصحة- استعرض الفيلم كل من مستشفى العباسية والخانكة للأمراض النفسية- وهم في رواح وجيئة على غير هدى، لا تظهر وجوههم بوضوح في بادئ الأمر، مما جعلهم كالأشباح، هذه الصورة أو الحالة التي أراد أن يحققها الفيلم ويوحي بها تتردد كنغمة ضابطة للإيقاع طوال الفيلم، خاصة وأن حكايات الشخصيات متناثرة، ولا تُكمل بعضها البعض، إضافة إلى عدم ترابط بعض الحكايات، نظراً لحالة المرضى. الأمر أيضاً يبدو من الداخل- بخلاف اللقطات القليلة خارج عنابر المرضى- وكأنهم في أقبية العصور الوسطى، حيث الممرات الضيقة، والأبواب وأصوات غلقها وصريرها المزعج في أسى، والأقفال المقفلة والجنازير الضخمة، حتى انعكاس ضوء الشمس فوق وجوه النزلاء عند وقوفهم عند عتبات الأبواب، وعيونهم التي لا تستطيع تحمّل ضوء النهار.

العزلة

ولتجسيد حالة العزلة التي يُعانيها الجميع، تأتي المفارقة بين توترهم المزمن، سواء في الحكي والحركة، مع لقطات المتابعة وهم في مساحات شحيحية الضوء، إضافة إلى اللقطات القريبة، وكأنهم محبوسين داخل الكادر/ الإطار، وبالتالي اصطياد أي تعبيرات وتوترات ملامحهم، ليصبحون للمُشاهِد أقرب، خاصة وأننا نصفهم دوماً دون أن نجرؤ على الاقتراب منهم، وفي النهاية للدلالة على حالة العقاب الاجتماعي الذي يتحملونه، وكأنهم في سجن حقيقي، لا على سبيل كونهم مرضى يتلقون العلاج. خاصة وأن بعد السير في تفاصيل حيوات البعض منهم، نجد أن المجتمع بالخارج يحيا في سجن أكبر، حيث العلاقات والأفعال المشوهة، والتي من الممكن أن يوصف أصحابها بالمجانين، رغم أنهم خارج أسوار عالية، ويستقبلون لون النهار كل صباح دون أن تخجل عيونهم.

الشخصيات

تتجول الكاميرا بين العديد من النزلاء، مُستعرضة وجوههم وأفعالهم، إلا أنها تنتقي عدة حالات، ليتم البناء السردي من خلال حكاياتهم، سواء مختلفي الأعمار أو الجنس أو الديانة.
بداية من شاب مكتوف الأيدي، أتى به والده ليودعه المستشفى، بعدما أصبحت أفعاله لا تطاق، من الاحتكاك بالجيران، حتى إشعال النار في أثاث شقيقته التي اقترب ميعاد زواجها، إلا أن الشاب يصف الأب بأنه سبب المشكلة، نظراً لقسوته الشديدة. وأخرى قهرها زوجها، وسخر من أفعالها كونها امرأةـ التزيّن والماكياج والحياة الحميمية- حتى كرهت نفسها، وتحولت إلى حالة من الهوس الجنسي كرد فعل على سلوك الزوج، حتى أنها تتحدث حديثاً يبدو غير مترابط، لكنه أكثر سبباً ونتيجة من أحاديث مَن يصفون ويصفهم المجتمع بالعقلاء. وآخر يرى نفسه نبياً مُرسلا- خليط ما بين المسيح ويوسف- ودائماً ما يردد عبارات من الكتاب المقدس، إلا انه أكثر جرأة في انتقاده للأوضاع المزرية داخل المستشفى، فيعلق ساخراً على ما يحيطه، وأحياناً في غضب، خاصة وان مَن ساقوه إلى مقبرة خيالاته منهم احد الأقرباء الذين يعملون في جهاز الشرطة- أمين شرطة- ويوصيه الطبيب بألا يتحدث عن أفكاره أمام أحد، حتى يستطيع الخروج من المستشفى.
ثم شاب يسمع أصواتاً توحي له بافتعال المشكلات، وبعدما كره سماع القرآن، تذهب به والدته إلى أحد القساوسة، الذي يضع الصليب حول عنقه، فتغضب الأم، قائلة «إحنا مسلمين ما ينفعش»، ويرى جارته على أنها إحدى الجنيات المسيحيات، وأنها تصعد إلى سطح البيت لتغويه- الشاب يسكن سطح أحد البيوت مع والدته- وشقيقان تم إحضارهما منذ زمن من قِبل عمهما طمعاً في الميراث، واخيراً امرأة عجوز جاءت في سِن الشباب، بعدما توفى عنها زوجها- المرأة مسيحية من جنوب مصر، وتحفظ بعض سور القرآن، وتمزج بين تراتيل المسيحية والقرآن في وعي تام- لأن شقيق الزوج أراد تزويجها، فصفعته، فلم يجد حلاً لحفظ كرامته إلا بالادعاء عليها بالجنون، وإيداعها المستشفى.

أفعال المجتمع وانعكاساتها

وباستعراض الحالات السابقة يبدو التساؤل الذي يفرض نفسه- بغض النظر عن المرض النفسي- أين يقع المصح الكبير، إنه مجتمع مَن في الخارج من المرضى النفسيين، وما المجتمع الصغير- مستشفيات الصحة النفسية- إلا انعكاساً لأفعال هؤلاء، الذي اكتفى المرضى الرسميون- المُجمَع على مرضهم- بألا يُغادروا المستشفى، فأي عالم سيذهبون إليه، خاصة وان أعمارهم فنيت وراء مؤسسات العقاب النفسية، حتى أن بعضهم أصبح يعمل داخل المستشفى، بأن يكون مسؤولاً عن مفتاح باب العنبر وجمع النزلاء في نهاية اليوم، لقد وجد له عملاً، وتم التواطؤ بين الجميع أن يقوم الرجل بذلك، حياة يحياها هكذا.
سِمة أخرى لافتة أشار إليها الفيلم، وهو ما يكشف الخلل الذي مَس بنية المجتمع الأولى (الأسرة) فالأسرة المصرية كما كانت مثال الترابط منذ زمن بعيد، لم تكن أبداً تذهب بأولادها طواعية إلى المصحات- حالة شاب جاء وهو في الرابعة عشر من عمره، والحالة الأولى التي تم افتتاح الفيلم بها كما سبق ذكرها- وهنا نجد أن الأسرة نفسها أصبحت لا تتحمل وجود مريض نفسي بينها، وتبحث عن الطريقة التي تتخلص بها منه- ليست كل الحالات من الشِدة حتى تودع المصح- فهناك خلل ما، تمت ملاحظته والإشارة إليه عبر عدة حالات مرضية.

البعد الديني والخرافات

الحِس الديني يكاد يتساوى مع الإيقاع الشبحي للشخصيات، هناك حالة مزمنة من الأدعية والخطب الدينية الوعظية، وقراءة القرآن، وتراتيل الكتاب المقدس، وصولاً إلى ادعاء النبوة، هذا في ما يخص المرضى، ومن ناحية أخرى تحرص المؤسسة العلاجية على القيام بالشعائر الدينية للمرضى، والمتمثلة في صلاة الجماعة (الجُمعة) وقدّاس الأحد، نظراً لدور العامل الإيماني في تحسن حالة المرضى، الذين دوماً وكأنهم في ابتهال دائم لا ينقطع نحو السماء. أما الخرافة فتبدو على الجانب الآخر، والمتمثل في أهالي المرضى، الذين يؤمنون بعوالم الجن والعفاريت وفك الأعمال السحرية- أم الشاب التي ذهبت به إلى القِس- ويبدو أن هذا الأمر يرتبط في جزء منه بالفئة الاجتماعية التي تؤمن به، فمعظمها فئات مُعدَمة تواصل حياتها اليومية بمعجزة، فلاذت بحياة الغيبيّات كطوق نجاة. ليبدو السؤال نفسه مُجددا … أين عالم المرضى الفعلي وسط كل هذا الهراء؟!

محمد عبد الرحيم

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *