(لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخر)..
هذا كلام فائق رائق ماتع رائع من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، رواه عنه الإمام مسلم في صحيحه..
وهذا الكلام هو ما يمكن أن نسميه “وصفة سحرية لاستمرار الحياة الأسرية”.. إذ لابد وأن يستخدمها كل من الزوجين في التعامل مع صاحبه ورفيق دربه في سبيل تقبل كل منهما لصاحبه، بمحاسنه ومساوئه، وتحمل مواطن النقص لمواطن الكمال والجمال.. ليكمل بناءهما وتستمر حياتهما ولا ينهدم البيت على رؤوسهما. وإلا فليس إنسان كامل.. وبدون التغاضي عن بعض العيوب وبعض ما يمكن أن يسمى نقصا، لا يمكن أن تستمر الحياة الأسرية، ولو بحث الإنسان عن الكمال في شريكه لهدمت كل البيوت؛ إذ لا يسلم أحد من خلل.
من ذا الذي ما ساء قط .. ومن له الحسنى فقط.
لماذا تنهار بيوتنا
وحول هذا الحديث وذلك المعنى كتب الدكتور محمد فرحات تحت عنوان “لماذا تنهار بيوتنا”، يقول:
“أغلب العلاقات البشرية قائمة بالأساس على التمتع بالمزايا الشخصية…
علاقة الصداقة مثلاً تنشأ وتتطور بناء على ما يتمتع به كل صديق، من صفات وخصال تتناسب مع الطرف الآخر، والعيوب المنفرة تحدث تباعداً تلقائياً بين الطرفين، وتنتهي العلاقة بشكل بيولوجي النزعة.. بغير قرار واختيار في الغالب.
قس على هذا العلاقات الأكثر سطحية مثل علاقات الزمالة في الدراسة، والعمل، ونحو ذلك.
العلاقة الوحيدة بين البشر التي تقوم بالأساس على تقبل العيوب، والتكيف والتعايش معها هي علاقة الزواج.
تلك العلاقة لها هندسة فريدة، وقوانين فيزيائية قل أن تجدها في أي علاقة أخرى.
علاقة الزواج تؤسس على تقبل العيوب، وتتجمل بالاستمتاع بالمحاسن.
وأي تغيير في ترتيب تلك المعادلة يؤدي إلى تصدع في العلاقة، وقد تتزايد الشروخ الداخلية حتى ينهار البنيان بأكمله.
هذا يفسر الكثير من حالات الفشل المعاصر في الحياة الزوجية، وسرعة تصدع وانهيار البناء للأسرة، رغم توفر الكثير من عوامل النجاح الظاهرية، على عكس الواقع الذي عاشه أباؤنا و أجدادنا.
لقد كانت حياتهم أكثر مشقة، وشظفاً بلا ريب، وكانوا يقاتلون حرفياً للحصول على أدنى متطلبات الحياة الآدمية.
رغم ذلك الشقاء الظاهري إلا أن حياتهم الزوجية كانت أكثر استقراراً بلا نزاع.
والسر في ذلك: هو استقامة البناء الهندسي لديهم، فلم تكن الحياة الزوجية عندهم مبنية على الاستمتاع بقدر ما هي مبنية على التكيف و التعايش.
حياتهم لم تكن بالضرورة أجمل.. ولا هي الشكل الأكمل.. لكنها كانت عملية، وواقعية، وكانت أكثر نضجاً وحكمة، وأكثر عقلاً.
ربما كانوا أقل منا تعليماً وثقافة، لكن شتان بيننا و بينهم في العقل !!!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ)[مسلم، ويفرك: يعني يبغض]
قال الإمام النووي: “أَيْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُبْغِضَهَا؛ لِأَنَّهُ إِنْ وَجَدَ فِيهَا خُلُقًا يُكْرَهُ وَجَدَ فِيهَا خُلُقًا مَرْضِيًّا، بِأَنْ تَكُونَ شَرِسَةَ الْخُلُقِ لَكِنَّهَا دَيِّنَةٌ أَوْ جَمِيلَةٌ أَوْ عَفِيفَةٌ أَوْ رَفِيقَةٌ بِهِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ” [شرح صحيح مسلم: 10/58]
قال ابن الجوزي: “وَالْمرَاد من الحَدِيث أَن المؤمنة يحملهَا الْإِيمَان على اسْتِعْمَال خِصَال محمودة يُحِبهَا الْمُؤمن، فَيحمل مَا لَا يُحِبهُ لما يُحِبهُ” [كشف المشكل: 3/591].
هي هكذا…
يتحمل ما لا يحبه… لما يحبه.
ويحتمل ما ينغصه… لأجل ما يسره.
يغض الطرف عن النقص البشري، الذي لا مفر منه.. ويعلم أن تلك العيوب شيء لا بد منه.. وأن علاقة الزواج ليس لها نظير في القرب، وكلما قربت الشيء من عينيك أكثر.. ستراه أكبر وأكبر.
لذا يرى كل من الزوجين في صاحبه من العيوب ما لا يراه غيرهما.. ويتعرضان لدواخل النفوس كما لا يفعل غيرهما.
فمن بنى تصوره عن الزواج بغير اعتبار لتلك الحقائق.. مهما كانت مرة.
فليعلم أنه سيطارد السراب طوال عمره”!!!