عبدالسلام بنعيسي
بعد إعلان وزارة الخارجية الجزائرية قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب، تحاشت الدولة المغربية اللجوء إلى لغة التصعيد والتوتير، ويجوز القول بأن اللهجة التي اعتمدها المغرب في ردِّه على البلاغ الصادر عن الخارجية الجزائرية كانت لهجة هادئة وخالية من الحدة والانفعال. فتعليقا على ما وقع، أعرب رئيس الحكومة المغربية سعد الدين العثماني عن الأسف البالغ لقرار قطع العلاقات بين البلدين، متمنيا تجاوزه في القريب، وأكد على أن عودة العلاقات مع الجزائر إلى طبيعتها، قدر محتوم وضروري..
وذكَّرَ العثماني بالخطاب الذي ألقاه الملك المغربي والذي أكد فيه على أن المغرب يعتبر علاقاته مع جارته الجزائر مهمة جدا، وأن استقرار الجزائر وأمنها من استقرار المغرب وأمنه، واستقرار المغرب وأمنه من استقرار الجزائر وأمنها، وأن الملك محمد السادس مستعد لإقامة حوار من دون شروط مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، بغرض عودة العلاقات إلى طبيعتها بين الجارين المغرب والجزائر، ولبناء الاتحاد المغاربي بما تمليه المصالح المشتركة للشعبين الشقيقين، وتستدعيه ضرورة مواجهة التحديات الكبرى التي يعيشها عالم اليوم، والتي تقتضي إنشاء تجمعات إقليمية قوية ذات مصالح مشتركة، ومنافع متبادلة..
إذا تأمل المرء جيدا هذه اللغة المعتمدة من الرباط في ردِّها على قرار قطع العلاقات معها من طرف الجزائر يتضح له أن المغرب لم يكن يرغب في أن الخارجية الجزائرية ستبادر إلى اتخاذ هذا القرار، ولم يكن ينتظره، فرغم أن البلاغ الصادر عن الخارجية المغربية أفاد بأن المغرب كان يتوقع قرار قطع العلاقات معه، فإن ردود المغرب تشير إلى أن المسؤولين المغاربة ربما فوجئوا بهذا القرار، أو بالسرعة التي وقع اتخاذها به، لأن كل شيء جرى، بغثةً، وحتى من دون وقوع أحداث ومقدمات بين البلدين تمهد لاتخاذه.
واضحٌ من خلال ردِّ الرباط الهادئ والمنضبط على أن المغرب لا يريد إحداث قطيعة نهائية مع الجزائر، تقول اللغة المصاغة بها الردود الرسمية الصادرة عن المغرب بأنه يسعى للحفاظ على شعرة معاوية قائمة بين البلدين، بل يستشف من اللهجة التي يتكلم بها المغرب أنه يتطلع إلى تجاوز هذه الحالة من التوتر التي توجد عليها العلاقات، لاستبدالها بحالة أخرى تصبح فيها الصلات بين البلدين أفضل وأحسن، وعلى الشكل الذي يتمناه ويطمح إليه الشعبان الجاران.
إذا كان المغرب قد دعا إلى حق تقرير مصير القبائل الجزائرية، وإذا كانت هذه الدعوة هي الشعرة التي قسمت ظهر بعير العلاقات المغربية الجزائرية، فيستشف من الردود المغربية المشار إليها أن هذه الدعوة تم إطلاقها من باب المماحكة السياسية، وأنها لم تكن قرارا يمضي فيه المغرب بعزمٍ وتصميمٍ إلى النهاية، ويجند طاقاته للدعاية له والسعي لتنفيذه، فيظهر أننا أمام دعوة أُطلقت كردّ فعلٍ على ما صدر عن وزير خارجية الجزائر رمطان لعمامرة في مؤتمر عدم الانحياز حين أقحم ملف الصحراء في اجتماع كان مخصصا لكيفية مواجهة وباء كورونا، وأن المغرب مستعدٌّ للتراجع عن تلكم الدعوة، إن كان تراجعه عنها يشكل مدخلا لتنقية الأجواء المتوترة بين البلدين..
وحتى حكاية التطبيع مع الكيان الصهيوني الذي تتذرع به الجزائر وتعتبره خطرا عليها، وسببا من أسباب قطع علاقاتها مع الرباط، فإن الجزائر تعلم أنه قرارٌ اتخذه المغرب وهو مكرهٌ على ذلك، فحين كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يعرض على المغرب التطبيع مقابل الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على أقاليمه الصحراوية، فإن هذا العرض كان يتضمن في الواقع تهديدا مبطنا للمغرب في أقاليمه الصحراوية..
فإذا رفضَ المغرب حينئذ العرض الأمريكي المقترح عليه، لم يكن يعلم ماذا ينتج عن هذا الرفض، وماذا قد تتخذه الإدارة الأمريكية في عهد ذلك الرئيس الأحمق من إجراءات وتدابير قد تمسُّ الوحدة الترابية المغربية التي يعتبرها كل المغاربة قضيتهم المقدسة، ولا يملكون ترف التخلي عنها، خصوصا وأن دولا عربية أخرى أقبلت، قبل المغرب، على التطبيع بالرغم من أن بعضها ليست لديها مشاكل مثل قضية الصحراء المغربية..
وعلى هذا الأساس، فإن التطبيع ليس قرارا اتخذه المغرب من تلقاء ذاته، وهو راضٍ به ومرتاحٌ إليه، لقد أُجبر عليه لتحاشي الأضرار التي قد تلحق بوحدته الترابية، ولابد من الإقرار أن الدولة الجزائرية، في معاكستها لمغربية الصحراء، وسعيها لفصلها عن الوطن الأم، تتحمل جزءا من المسؤولية في دفع المغرب للإقدام على التطبيع مع الكيان الصهيوني، التطبيع الذي ترفضه الغالبية المطلقة من أفراد الشعب المغربي، وتناضل من أجل إسقاطه، كما جرى سنة 2000 حين تمكنت المظاهرات المليونية في الشوارع المغربية من إغلاق مكتب الاتصال الإسرائيلي بالرباط.
وإذا كان التطبيع يمثل حاليا مشكلا كبيرا للدولة الجزائرية، فإن بانفتاحها على المغرب، وإقامتها علاقات طبيعية وجيدة معه، وببناء تعاون اقتصادي، وتجاري، ومالي، وصناعي، وفلاحي بين البلدين، ستتأسس البنية التحتية المغاربية التي تؤدي أوتوماتيكيا إلى ضمور التطبيع، واندثاره، خصوصا وأنه لا يملك حاضنة شعبية مغربية ترحب به وترعاه. فالمغرب هو الجار للجزائر ويجمعهما معا المصير المشترك، أما الكيان الصهيوني، فهو بعيد جدا عن المغرب، وما يفرّق بينهما أكثر بكثير مما يجمعهما..
لقد التزم ملك المغرب في خطاب رسمي أمام الشعبين المغربي والجزائري وأمام الأمة العربية والإسلامية وأمام العالم أجمع بأن المغرب لا يمكن له أن يكون مصدرا للمشاكل للجزائر، وأنه لن يسمح بأي تصرفٍ فوق أرضه قد يسبب لها الأذى، وعبّر عن استعداده للحوار معها حول جميع القضايا الخلافية، وأنه مستعد ليقدم لها كافة الضمانات التي تطلبها لطمأنتها وإشعارها بأنه جارها الشقيق والمسالم والراغب في التعاون معها.. ونتمنى أن تقابل الجزائر هذه اليد المغربية الممدودة إليها، تقابلها بالمصافحة والمصالحة وطي الخلافات القائمة بين الدولتين..
ولنا أملٌ في ذلك، فالخارجية الجزائرية، بعد قرار قطع العلاقات مع المغرب تركت الباب مواربا حول احتمالية التراجع عنه، عندما عبرت عن نيتها في ترك قنصليات الدولتين مفتوحة، وأكدت على عدم المسِّ بمصالح المواطنين المغاربة المقيمين في الجزائر والمواطنين الجزائريين المقيمين في المغرب. بهذا الإجراء، يبدو أن الخارجية الجزائرية تحاشت لعن المستقبل، وفضلت بقاء المجال مباحا أمام إمكانية عودة العلاقات بين الدولتين إلى حالتها الطبيعية، ونودُّ أن يحدث ذلك في أقرب الآجال، وأن تُشكِّلَ القطيعة الحالية بين الدولتين فرصة لمراجعة علاقاتهما بما يؤدي إلى تنقيتها من الخلافات والشوائب، والصراعات، وإلى تقويتها وتمتينها. فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا…
كاتب مغربي
Source: Raialyoum.com