اليمن.. وطن يهوي في براثن الأوهام

 

عبد الرحمن الآنسي

أتعرف، عندما تصل إلى مرحلة تتسامح فيها مع نفسك، حينها فقط تعرف ما يجري من حولك بكل وضوح. تعرف أن كل ما تسمعه مجرد شعارات وأوهام تُغرس في عقلك لتؤمن بها وتصبح رصاصة جاهزة للانطلاق متى ما قيل لك لا أكثر.

مرة رأيت عجوزًا فقد أحد أبناءه في الحرب، كان أمام الكاميرا يقول والألم يكتنف مقلتاه: “لقد مات ولدي شهيدًا .. فهنيئا له” غادرته الكاميرا وأنا على يقين أن ذلك الحزن العميق الذي استفحل به لن يغادره، أنا على يقين أيضًا أنه عاد إلى بيته ينتحب ويلعن تلك اللحظة التي غادر فيها ابنه المنزل.

سيقول لي الطرفان: “إنك خائن.. تحرّض على خيانة الوطن الذين سالت دماء غزيرة في سبيله”. لا أرتدي قبعة لأرفعها أمام كل شخص مات في سبيل ذلك الوطن الذي أراده أن يكون ولكني سأخلع كبريائي وأبكي وطنًا يموت أبناءه يوما بعد آخر ولا أحد يعزّيه.

عندما يتقاتل أبناء الشعب الواحد ليس هناك منتصر وخاسر، ليس هناك شهيد وقاتل، ليس هناك وطني وخائن بل هناك طرفان اختلفا ولم يجدا من يصلح بينهما فُأُشعلت الفتائل ليكون ذلك المواطن المسكين هو الحطب والوقود وبقت بعده أم مكلومة وزوجة أرملة يدارين دموع مآقيهن.

هل رأيتم حربًا  بها منتصر؟ أعيدوا النظر جيدًا في كل تلك الحروب التي تعرفونها وانظروا حال المنتصر وستجدون أنه لم يكسب سوى الوهن وحقد الطرف الآخر.

الطرفان في كل مواقع التواصل وفي القنوات يخبرونكم عن الانتصارات والغنائم، ولكن اسمحوا لي أخبركم عن الخسائر التي يخفونها عنكم. شعب واحد أصبح شعبان كانا حبيبان ذات يوم فجأة أصبحا خصمان لا يطيقان بعضهما وأصبح الشعار والكلمة هي الدليل على الولاء.

في كل مرة ترون فيها خبرًا عن الانتصارات التي تُحقق اسألوا أنفسكم كم إنسان قُتل من الطرفين، كم أسرة تيّتمت وكم دماء أُرهقت، ليس هذا فحسب بل ومن أبناء الشعب الواحد والأسرة الواحدة، ثم أسألوا إن بقي لكم مزاج للسؤال عن ذلك الوطن الذي يُدمّر كل يوم بيد أبناءه.

أرأيتم لو اقتتل أخوان وقتل أحدهما الآخر، من المنتصر؟ لا أحد، الأهل ينتحبون لموت الابن المقتول، والقاتل خاسرٌ  لأخٍ كان سندا له ذات يوم، ولم يبق له سوى ضمير يؤنبه ليل نهار.

ليكن في الحسبان أن إشعال فتيل الحرب أسهل من لمس الأذن لكن الصعب إطفاءها. غابة بأكملها يحرقها عود ثقاب ولكن ليس بوسع آلاف اللترات إخماده. بالمقدور كتابة منشورات وتغريدات حماسية ومعنوية ولكن ليس بالمقدور إطفاء تلك القلوب التي تحترق ألمًا وحزنًا على موت قريب أو اختفاء حبيب.

يريدون منكم اجتثاث الفساد، الحروب لا تنهي الفساد  لأنها فساد في الأصل، إنها تهيئ بيئة خصبة للصوص وتبني سجنًا شنيعًا للشعوب، لا تنهي الشر لكنها تنهي الخير المتبقي في القلوب.

صدّقوني، الحروب لا تُصلح، أرأيتم مهندسًا يكسّر آلة بالمعول ليصلحها؟ الوطن هو تلك الآلة والمهندس ليس متضررًا من خراب الآلة، ولست أيها المواطن المسكين سوى ذلك المعول الذي يسقط بعنف ليكسر شيئًا كان سليمًا ذات يوم ويستفيد منه الآخرون، لتكتشف يوما أنك كنت تفلّ بعد كل ضربة تظنك وجهتها إلى العدو.

الجميع الآن يتساءل: كيف وصلنا إلى هذا الحال؟ ما الحل؟

من أوصلنا إلى هذا الحال هما التشدد الديني ونظام القبيلة اللذان لا يؤمنا بالمدنية والحرية والتعايش، وهما  من تسببا في جعل الأفراد اليوم تتزاحم للمشاركة في جبهات القتال.

يجب دراسة علم الاجتماع لفهم سلوكيات الفرد والجماعة بما يسهم في كبح جماح التسلط الديني والقبلي حيث سيسهم في تخفيف النزعة الاجتماعية ودافع الاقتتال، كما أن ترسيخ مبادئ المدنية وحرية الفكر وتخفيف القيود الدينية والانفتاح على العالم وفتح المجال أمام الاستثمار في الترفية وإلغاء الحظر على ما يعتبره الدين والقبيلة محرما أو عيبًا سيسهم في تعزيز المدنية وحلّ القانون محل القبلية، كما أن دعم قوة الترفية ستضعف قدرة تأثير القات على المجتمع  وسيوجه الطاقات الشبابية إلى الاستمتاع بالحياة بدلًا من رمي أنفسها إلى مقابر الضياع.

للأسف، اليمنيون حاليًا يدرّسون في الكتب المدرسية أسس الجهاد والقتال ورفض السلام، كيف تريدون لفرد يتم تعبئته منذ نعومة أظافره على القتل وعدم تقبل الآخر؟

يجب إعادة هيكلة النظام التعليمي، فهو البذرة الأولى لإنتاج مجتمع يؤمن بالاختلاف والسلام وتقبل الآخر.  تأه‍يل المدرس وفق مباديء عالمية وأسس دولية وثقافية سيسهم في صنع جيل منزوع من الطائفية والعرقية والنظرة الاستعلائية.

إني أتسائل اليوم ككاتب أين هي مخرجات كليات علم الاجتماع التي لم نر لها بحثا أو رأيًا في كيفية تغيير سلوك المجتمع اليمني الذي لم يتغير منذ آلآف السنين. في الدول الأخرى علم الاجتماع من أهم العلوم، من خلاله تستطيع الدولة فهم الفرد وتغيير المعتقدات الخاطئة واستبدالها بمفاهيم تنفع الفرد والمجتمع.

للأسف، تم تجهيل الشعب اليمني بطرق مختلفة، وهذا هي النتائج، والآن لا يُجهّل الشعب فحسب، بل يُغرس في عقول أفراده مفاهيم ومعتقدات ستتسبب في زعزعة  المنطقة بأكملها إن لم يتم تداركها.

 

مؤلف روائي ومدون حر يمني

Source: Raialyoum.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *