بابا الفاتيكان والمغرب.. المفتاح والباب المسدود

لا أدري هل كان مقصودا أن تكون الزيارة التي قام بها بابا الفاتيكان في نفس اليوم الذي فرضت فيه فرنسا حمايتها على المغرب، وهو 30 من مارس، الذي يمثل تاريخ الانطلاقة الكبرى لعمل الفاتيكان التنصيري في المغرب، والذي اتحد فيه الصليب مع المدفع لاحتلال البلاد، هذا الاحتلال الذي لاتزال مخلفاته تشكل العوائق الحقيقية دون تحقيق نهوض وتنمية وتقدم يليق بتاريخ هذا البلد العظيم، وحضارته التي ملأت سمع الزمان، وشعبه الذي بنى الحضارة الإسلامية في الغرب الإسلامي.

Share your love

بابا الفاتيكان والمغرب.. المفتاح والباب المسدود

لا أدري هل كان مقصودا أن تكون الزيارة التي قام بها بابا الفاتيكان في نفس اليوم الذي فرضت فيه فرنسا حمايتها على المغرب، وهو 30 من مارس، الذي يمثل تاريخ الانطلاقة الكبرى لعمل الفاتيكان التنصيري في المغرب، والذي اتحد فيه الصليب مع المدفع لاحتلال البلاد، هذا الاحتلال الذي لاتزال مخلفاته تشكل العوائق الحقيقية دون تحقيق نهوض وتنمية وتقدم يليق بتاريخ هذا البلد العظيم، وحضارته التي ملأت سمع الزمان، وشعبه الذي بنى الحضارة الإسلامية في الغرب الإسلامي.

ربما يكون هذا التوافق في التاريخ أمرا عاديا غير مقصود، وإن كان التاريخ لا يبرئ الساسة من تَقَصُّد الدلالات السيميائية للتواريخ والصور والأشياء ذات الحمولة التدافعية الحضارية.

فإن كان القائمون على تنظيم الزيارة لم يراعوها فهي مصيبة، وإن كان أحد الأطراف تقصَّدها فالمصيبة أعظم.

لا علينا من هذا الأمر، فهو يبدو يسيرا بالمقارنة مع ما تمخضت عنه الزيارة البابوية، من إعادة صياغة لمنهجية اشتغال دولة الفاتيكان في بلادنا، وإعطاء الانطلاقة الجديدة لمسيرة ما أسماه فرانسيس: “الجماعة المسيحية”.

ونحب في هذه المقالة العجلى أن نسجل ملاحظات مهمة نفصلها في محورين:

المحور الأول: بابا الفاتيكان والباب المسدود

يُعتبر بابا الفاتيكان فرنسيس أول بابا ينصَّب من خارج القارة الأوربية، ويصنف من أقطاب الجناح الإصلاحي في الكنيسة الكاثوليكية، فله منهجيته الخاصة في تدبير دولة الفاتيكان بل كانت آراؤه محل انتقادات شديدة داخل العالم الكاثوليكي ورجال دينه. ومعلوم أن قوة البابا تكمن في ميزانية الفاتيكان وسلطته بوصفه رئيس دولة يدير عشرات المئات من المؤسسات التابعة له في دول العالم، فهو يميل إلى نزع الصبغة التقليدية المحافظة التي وسمت الفاتيكان، ويحرص على تجديد أساليب العمل الكنسي في العالم، ومن تجديداته الشكلية على سبيل المثال إقامته بعد توليته في القديسة مرثا بدل الإقامة في المقر الرسمي في القصر الرسولي، ويعد أكثر الباباوات تعرضا للانتقاد، حيث يشن أقطاب التيار المحافظ حملة قوية منتقدة لآرائه التي يعتبرونها تشجع على الهرطقة، وقد وصفه المتابعون للشأن الكنسي بكونه “البابا القادر على إحداث تغييرات”.

ما يهمنا نحن هو تلمس منهجيته الجديدة، في تجاوز الباب المسدود الذي يشكله المنع القانوني للتنصير وعدم الاعتراف بأتباعه من المغاربة المرتدين، وصعوبة ممارسة الحملات التنصيرية بشكل مكشوف، وكذا تسليط الضوء على جديد أفكاره.

لقد حَرص بابا النصارى أن يظهر منهجيته الجديدة في العمل من خلال الدعوة المبالغ فيها إلى إذابة الفوارق بين الأديان وأكد على تعزيز الحوار بينها، وطالب بإحداث “التعارف المتبادل بين مؤمني ديانتينا”، وتبني “التعاون المشترك كسلوك، والتعارف المتبادل كنهج ومعيار”، واعتبر أن “هذا هو الدرب الذي نحن مدعوون لاتخاذه دون كلل، كي يساعد بعضنا بعضا على تخطي التوترات وسوء الفهم، والأقنعة والصور النمطية التي تقود دوما إلى الخوف والتصادم، وهكذا نفتح الطريق أمام روح من التعاون المثمر والمتسم بالاحترام”.

فالبابا الكاثوليكي مدفوعا بالنظرة الواقعية للظروف التنصيرية في المغرب، ولأخذه بعين الاعتبار المرجعية الشرعية لإمارة المؤمنين، وللموقف العلمي الذي لا زال يدرس في الكثير من المدارس العلمية والذي يعتبر أن النصارى ضالون بنص القرآن، وكافرون في باب العقيدة لإيمانهم بعقيدة التثليث، التي يصرح العلماء المغاربة المالكية سواء الأشاعرة أو غيرهم، بكفر أتباعها لقول الله سبحانه المحكم: “لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة”، فالبابا مدفوعا بكل ما سبق حاول في زيارته أن يرسي المنهجية الجديدة للعمل الكنسي في المغرب نتلمسها من تصريحاته التالية أمام الرهبان والقساوسة وكبار رجال دينه في عِظته لهم داخل كاتدرائية بطرس بالرباط موجها لهم: “بمعنى آخر، إنَّ دروب الرسالة لا تمرُّ من خلال أنشطة التبشير، تذكروا كلمات بندكتس السادس عشر: “إن الكنيسة لا تنمو من خلال أنشطة التبشير، بل بواقع الجذب والشهادة”…لا تمرُّ من خلال أنشطة التبشير التي تقود دومًا إلى طريق مسدود، وإنما من خلال أسلوبنا في التعاطي مع يسوع ومع الآخرين”.

هذا الانقلاب في المنهجية وكذا الاعتبارات التي قدمنا بها، منَعا البابا أيضا من أن يدافع عن المغاربة المرتدين عن الإسلام إلى النصرانية رغم مطالبهم المتكررة بالاعتراف بهم، بعد خروجهم إلى العلن، بل ارتأى أن حل مشكلتهم ربما تكمن في إدماجهم في “الجماعة المسيحية” بالمغرب للعمل في الميادين الاجتماعية والمدرسية والطبية وغيرها.

وهذا جزء من المفتاح الخاص بالباب المسدود في وجه الحملات التنصيرية وهو يحيلنا على المحور الثاني.

 

المحور الثاني: بابا الفاتيكان ومفتاح الباب المسدود أو المنهجية الجديدة في الاختراق والعمل.

تتكون المنهجية الجديدة لبابا الفاتيكان من ثلاث رافعات مهمة نستشفها من خطبه وتصريحاته التي أدلى بها في زيارته للمغرب وهي كالتالي:

الرافعة الأولى: الاستغلال لثمار الحرب العالمية على التطرّف والإرهاب، والتي تُمارس سلطة قهرية على تراث الأمة وخصوصا ما تعلق منها بتفسير وشرح كتب العقيدة والفقه، بحيث يعيش العالم الإسلامي اليوم محاولة لخلق دين جديد، لا يمتح من تراثه إلا بالقدر الذي لا يتعارض مع دعاوى التعايش والمحبة بالمفهوم الغربي، وبالتالي يتعامل مع النصوص التي تكفر اليهود والنصارى بالبتر أو التحريف لمعناها.

والبابا صرح بالإشادة بهذا التوجه، ويعتبر أن فيه إزالة للعقبة الكؤود التاريخيةالتي واجهتها الحملات التنصيرية، والمتمثلة في الخطاب الشرعي والفتاوى المالكية في المغرب، والتي تعتبر النصارى كفارا نظرا لاعتقادهم الوثنية المتعلقة بالتثليث كما أسلفنا.

كما أنها تمحو وصمة العار التي لحقت نشاط الفاتيكان من جراء ارتباط المنصرين بالاحتلال الفرنسي العسكري وجرائمه.

لهذا نراه يشيد ويثمن منهاج معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين، والذي يُعدُّ أطرا ستحدث قطيعة إبستيمولوجية وعقدية مع كل تراث المغاربة العقدي والفقهي المؤطر للموقف من النصارى وعقائدهم.

ولنتلمس هذا العنصر الخطير في تصريحه التالي:

“وهكذا نفتح الطريق أمام روح من التعاون المثمر والمتسم بالاحترام. فمن الضروري أن نجابه التعصب والأصولية عبر تضامن جميع المؤمنين، جاعلين من قيمنا المشتركة مرجعا ثمينا لتصرفاتنا. في هذا السياق، يسرني أن أزور بعد قليل معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات، إننا ندرك في الواقع مدى أهمية توفير تنشئة ملائمة للقادة الدينيين في المستقبل، إذا ما أردنا أن نعيد إحياء المعاني الدينية الحقيقية في قلوب الأجيال الصاعدة”.

ثم بعد تعداده لنقاط القوة التي يمكن أن يستفيد منها النشاط الكنسي، والناتجة عن المسارات المنجزة في السنوات الأخيرة والمتمثلة في بعض المؤتمرات التي احتضنها المغرب مثل مؤتمر الهجرة، صرح مبتهجا: “كلها مسارات ستوقف استخدام الأديان في تأجيج الكراهية والعنف والتطرف والتعصب الأعمى، والكف عن استخدام اسم الله لتبرير أعمال القتل والتشريد والإرهاب والبطش”.

الرافعة الثانية: الاستفادة من التحول الذي عرفته سياسة المغرب في مجال الهجرة؛ واستغلال الجاليات النصرانية المهاجرة إلى المغرب في خلق أقلية دينية نصرانية بدأت تتشكل بقوة، الأمر الذي دفعه لتخصيص زيارة خاصة لمركز إيواء وخدمة المهاجرين، جعلها محورا أساسيا في جولته المغربية، ما يوضح لنا أن استغلال معضلة الهجرة يندرج في سياسة دولة الفاتيكان لفتح الأبواب المسدودة، ويظهر ذلك جليا في إقدام الكنيسة الكاثوليكية المحلية على إنشاء مراكز استقبال المهاجرين في عدد كبير من المدن المغربية.

فلا غرابة إذن أن نرى رئيس دولة الفاتيكان يعطى الأهمية البالغة في خطابه في ساحة مسجد حسان، لموضوع المهاجرين، مشيدا بالمؤتمر الحكومي الدولي الذي عقد هنا في المغرب، في شهر دجنبر المنصرم، مثمنا اعتماده للاتفاق العالمي من أجل الهجرة الآمنة والمنظمة والنظامية، ومُنوِّها بتبنيه لوثيقة في غاية الأهمية، جعلت البابا يطالب بأن تكون نقطة مرجعية للمجتمع الدولي بأسره.

فرح البابا بهذا المؤتمر ونتائجه جعله يعرب عن إحدى أمانيه التي يمكن اعتبارها أهم أجزاء “مفتاح” الباب المسدود في قوله: “آمل أن يبقى المغرب، الذي استضاف هذا المؤتمر بجهوزية كبيرة وحسن ضيافة، نموذجا للإنسانية -وسط الجماعة الدولية- بالنسبة للمهاجرين واللاجئين كي ينالواهنا، كما في أماكن أخرى، الضيافة الإنسانية والحماية، وكي تحسن أوضاعهم ويتم دمجهم بكرامة”.

فكيف يا ترى يرى كبير النصارى إدماج هذا السيل من المهاجرين؟؟

يمكن الإجابة عن السؤال من كلام البابا نفسه الذي صرح به أمام المهاجرين عند زيارته أمس لمقر هيئة “كاريتاس” في الرباط:

“إن الإدماج يتطلّب إذًا ألّا نسمح للخوف والجهل بأن يؤثِّرا علينا.

هنا نجد مسيرة نقوم بها معًا، كرفاق سفر حقيقيّين، سفر يُلزم الجميعَ، مهاجرين ومحليّين في بناء مدن مضيافة، تعدُّديّة ومتنبِّهة لعمليّات تجمع الثقافات، مدن قادرة على تقييم غنى الاختلافات في اللقاء مع الآخر. وفي هذه الحالة أيضًا يمكن لكثيرين منكم أن يشهدوا شخصيًا لمدى أهميّة التزام كهذا.

أيّها الأصدقاء المهاجرون الأعزاء، إن الكنيسة تعترف بالآلام التي تطبع مسيرتكم وتتألّم معكم. وتريد أن تذكّر، فيما تنضمّ إليكم في أوضاعكم المتعدّدة، أنَّ الله يريد أن يجعل منّا جميعًا أشخاصًا أحياء. هي ترغب في أن تقف إلى جانبكم لتبني معكم ما هو أفضل لحياتكم. لأن كلَّ إنسان له الحقُّ بالحياة وله الحقّ بأن يحلم وبأن يجد مكانه الصحيح في “بيتنا المشترك”! كلُّ شخص له الحقّ بالمستقبل”.

أليست هذه خارطة طريق لخلق مجتمع نصراني بالمغرب داخل المجتمع المغربي المسلم؟؟

وهل يمكننا الحديث عن وحدة عقدية في المغرب مستقبلا؟؟

الرافعة الثالثة: اختراق المجتمع المدني المغربي، وذلك بتأسيس عدد غير محدود من الهيئات لتأطير المغاربة والمهاجرين قصد توسيع قاعدة “الجماعة المسيحية” بالمغرب، وهذا واضح من التحريض المتكرر لبابا الفاتيكان في كل خطبه واجتماعاته وقُداساته التي أقامها في المغرب؛ مستثمرا لوضع المغرب المنفتح.

ومن جملة ما صرح به إشادته التالية: “المسيحيون يفرحون بالمكانة التي خصصت لهم داخل المجتمع المغربي، إنهم يريدون أن يقوموا بدورهم في عملية بناء أمة متضامنة ومزدهرة، وهم حريصون على الخير العام للشعب.

من هذا المنطلق، أرى أن التزام الكنيسة الكاثوليكية في المغرب عبر نشاطاتها الاجتماعية، وفي مجال التربية، من خلال مدارسها المفتوحة أمام الطلاب من كل طائفة ودين وعرق، هو أمر ذو دلالة.

لذا، وفيما أرفع الشكر لله على المسيرة التي تم إنجازها، اسمحوا لي أن أشجع الكاثوليك والمسيحيين على أن يكونوا هنا، في المغرب، خداما للأخوة الإنسانية، ومروجين لها ومدافعين عنها”.

فهذا التحريض سيغرق الشعب المغرب بالجمعيات والمنظمات الكنسية التي ستجعل من أبنائهم أتباعا “للجماعة المسيحية” بالمغرب.

خاتمـة:

إن بابا دولة النصارى علم يقينا أن التنصير المباشر هو مضيعة للوقت والمال، وبالتالي دعا موظفيه والساهرين على العمل الكنسي أن يشتغلوا وفق المنهجية الجديدة، حتى يكتسبوا القوة من خلال العمل التعليمي والمساعدات الاجتماعية للمغاربة وللمهاجرين، موجها لهم قائلا: “المشكلة ليست في أن يكون عددنا قليلًا”، مقتبسا من إنجيل متى محذرا من أن المشكلة تكمن في أن: “نكون سخيفين ونصبح ملحًا لا طعم للإنجيل فيه، أو نورًا لا ينير شيئًا أبدًا” إنجيل مَتَّى.

صحيح أن بابا الفاتيكان غادر المغرب ورجع، لكن بقي جنوده محبو السلام ناشرو قيم التعايش والمحبة، ليربوا أبناءنا في جمعياتهم، وقد زار بعضها لتشجيعهم في مسيرتهم، إنهم يعطون أبناء المغاربة الدواء مخلوطا بالعقيدة والسلوك، واللقمة محشوة بالتربية والقدوة، فينشأون على حب دين مَن أحسن إليهم ورباهم، إنهم يعيدون صياغة نفوسهم وفق منهجهم.

وهل العقيدة سوى صياغة للنفس وفق منظور معين ينطلق من مرجعية معينة؟؟

إننا نضحك على أنفسنا عندما نتبنى خطابا يقر بالانحرافات العقدية الوثنية بدعوى الانتصار لقيم التعايش والمحبة، رغم أننا على يقين من أن صاحبها يعتبر عقيدته هي الأساس في ما يبذله من محبة وخدمة للفقراء والمساكين.

إننا إن لم نتدارك الأمر حكومة وشعبا سنشارك في خلق مجتمع نصراني في المغرب سرعان ما سترون نخبته -لا قدر الله- في الرتب العليا في الجيش المغربي والوظائف السامية والمؤسسات الدستورية، وهكذا وقع في دولة آل عثمان بعد معاهدة برلين وسياسة الانفتاح.

فإذا كنّا اليوم قد خلطنا الآذان بالوثنيات والموسيقى، فربما غدا سنصلي معهم في الكنائس ويصلون معنا في المساجد نقرأ بدل الفاتحة جزءا من إنجيل متى أو يوحنا؟؟

فإنما هي خطوات، فالله الله في الإسلام وعقائد المسلمين وهويتهم.

وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

Source: howiyapress.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!