بابا نويل وانكشاف الحكاية

منذ أن بلغتْ سنّ الخامسة، ولأسباب شتى تتصل بأكثر من محيط تربوي ومدرسي واجتماعي، فضلاً عن وسائل الميديا المختلفة؛ كفّت حفيدتي عن تصديق حكاية البابا نويل ومروره الليلي لتكديس الهدايا تحت شجرة عيد الميلاد. كنت، قبل ارتدادها عن اليقين ذاك، مكلفاً بمشاغلتها خارج غرفة الاحتفال ريثما تُوزّع الهدايا تحت الشجرة، إلى أن حانت تلك البرهة […]

بابا نويل وانكشاف الحكاية

[wpcc-script type=”3ab3f2d0686a716e832e7db7-text/javascript”]

منذ أن بلغتْ سنّ الخامسة، ولأسباب شتى تتصل بأكثر من محيط تربوي ومدرسي واجتماعي، فضلاً عن وسائل الميديا المختلفة؛ كفّت حفيدتي عن تصديق حكاية البابا نويل ومروره الليلي لتكديس الهدايا تحت شجرة عيد الميلاد. كنت، قبل ارتدادها عن اليقين ذاك، مكلفاً بمشاغلتها خارج غرفة الاحتفال ريثما تُوزّع الهدايا تحت الشجرة، إلى أن حانت تلك البرهة الفريدة، الأثيرة تماماً إلى نفسي؛ حين همست في أذني ألا أكلّف نفسي عناء اصطحابها بعيداً عن الشجرة، لأنّ البابا نويل مجرد اختراع (وقد أشفقتُ، يومذاك، أن تستخدم مفردات أخرى مثل «خرافة» أو «لعبة»!).
وهذه السنة ابتدأت الليلة والهدايا متكدسة تحت الشجرة، فلا الأطفال سألوا إنْ كان البابا نويل هو الذي أحضرها، ولا الكبار اكترثوا بإدامة الحكاية حتى على سبيل التسلية أو المزاح أو اختبار مخيّلة الصغار وبعض الكبار. وذاك مآل طبيعي في نهاية المطاف، إذْ أنّ أطفالاً أصغر سنّاً سوف يعنيهم التقليد، وسيسعدهم على أكثر من نحو، حتى بلوغهم تلك الدرجة من وعي يجرّ الحكاية من ألعاب التخييل إلى أرض الواقع. قد يكون مفيداً، عند هذه النقطة من تطوير الفكرة المركزية خلف هذه السطور، التأكيد بأنّ موقفي من عيد الميلاد علماني محض لا صلة تجمعه بالدين، أيّ دين؛ وأنه، غنيّ عن القول، لا يجرّد المناسبة من الاحتفاء بشخص يسوع المسيح.

صحيح أنّ الإيمان بالبابا نويل أمر مبهج، ولا ضرر فيه لأحد، لكننا بهذا نهرب من السؤال، في الحقيقة، بدل أن نطرحه، لأنّ المطلوب ليس تسويغ الأسباب التي تجعل البابا نويل محبوباً من الأطفال، وإنما تلك الأسباب التي دفعت الكبار إلى اختراعه

أعود، كلما ساقني التفكير بعيد الميلاد وبابا نويل، إلى مقالة نشرها الأنثروبولوجي الفرنسي الكبير كلود ليفي ــ ستروس في سنة 1952 بعنوان «توسّل بابا نويل»؛ وأعدّها، شخصياً، بين أعمق تأملاته حول حال الاشتباك بين الاحتفال الشعبي والطقس الجَمْعي من جهة، وإحياء المقدّس أو تكريس الديني من جهة ثانية. سجال ليفي ــ ستروس يبدأ من واقعة فعلية، لم تكن عادية في بلد كاثوليكي مثل فرنسا: في 23 كانون الأول (ديسمبر) 1951 «تمّ شنق نموذج البابا نويل أمام سياج كاتدرائية ديجون، ثم أُحرق على الملأ. وتمّ تنفيذ هذا الإعدام الاستعراضي بحضور مئات من الأطفال رعايا الكنيسة، وبقرار من رجال الدين، الذين أدانوا البابا نويل بوصفه غاصباً وزنديقاً. ولقد وُجّهت إليه تهمة إضفاء الصفة الوثنية على عيد الميلاد، والاستيلاء عليه مثل طائر وقواق. كذلك يُلام البابا نويل لأنه اقتحم المدارس الحكومية، التي اُبعدت منها مغارة الميلاد». وهذا هو النصّ الحرفي كما نشرته صحيفة «فرانس سوار» في اليوم التالي.
خلاصة ليفي ــ ستروس هي التالية: صحيح أنّ الإيمان بالبابا نويل أمر مبهج، ولا ضرر فيه لأحد، ويمكن للأطفال أن يستمدّوا من شخصيته الكثير من السعادة والذكريات الجميلة التي سترافقهم حتى سنّ النضج؛ لكننا بهذا «نهرب من السؤال، في الحقيقة، بدل أن نطرحه، لأنّ المطلوب ليس تسويغ الأسباب التي تجعل البابا نويل محبوباً من الأطفال، وإنما تلك الأسباب التي دفعت الكبار إلى اختراعه». ذلك لأنّ الشخصية اختراع دنيوي، على نقيض من اليقين الشعبي الذي أسبغ عليه صفات دينية، وأنه في التراث الأنكلو ــ سكسوني ليس «البابا» الشائع، بابتسامته العريضة ولحيته البيضاء الطويلة، حامل كيس الهدايا، الهابط من المدخنة… فحسب؛ بل هو أيضاً «سانتا كلوز» أو «سانت نيكولاس» وكلا التسميتين تحيل على صفة القدّيس.
والحال أنّ سمات البابا نويل القياسية، التي انقلبت إلى أيقونة كونية، ليست تمثيلاً غربياً أو شرقياً لرموز وثنية أو لادينية، كما رسخ في يقين قساوسة ديجون حين نظموا الإحراق الشعائري؛ بل هي ببساطة تلك السمات التي ابتكرها، في سنة 1881، رسام الكاريكاتير الأمريكي الشهير توماس ناست (صاحب التوقيع الكاريكاتوري الأشهر على شخصية العمّ سام). وهذا هو التمثيل الذي سوف تتلقفه الذاكرة البصرية العالمية ويُعاد إنتاجه في آلاف الرسوم والصور والأفلام؛ وهذه، وهنا الأخطر والأهمّ، هي السانحة التي سوف تنقضّ عليها شركة كوكا كولا، فتنقلب ألوان ثياب البابا نويل ــ أو سانتا كلوز، سانت نيكولاس، كريس كرينغل، فادر كيرسفيس… لا تهمّ التسمية ــ إلى الأبيض والأحمر، ألوان الزجاجة دون سواها. ولا يُنسى ذلك الإعلان التجاري الاستثنائي الذي يصوّر سانتا كلوز وقد خلع قبعته، رافعاً كوباً من الكوكا كولا، ولسان حاله يردّد: «أرفع قبّعتي لاستراحة منعشة»!
جديرة بالتأمل، في المقابل، حكاية صمود شجرة عيد الميلاد ضمن الملابسات ذاتها من اشتباك المقدّس بالدنيوي؛ وذلك رغم الكثير من المعطيات الثقافية والتاريخية والأنثروبولوجية والدينية التي تقول إنّ تقليد نصب الشجرة في فترة عيد الميلاد له جذوره الوثنية أو الرومانية، ولم يكن دائماً محطّ إجماع في النصوص المقدّسة. ففي «العهد القديم» يعيب إرميا، الإصحاح 01: 24، الاقتداء بـ«فرائض» الأمم الأخرى، وبينها تزيين الشجرة: «لأنّ فرائض الأمم باطلة. لأنها شجرة يقطعونها من الوعر. صنعة يدَيْ نجّار بالقدّوم. بالفضة والذهب يزينونها وبالمسامير والمطارق يشدّدونها فلا تتحرّك. هي كاللعين في مقثاة فلا تتكلّم…».
ولعلّ خلاصة مشروعة تساجل بأنّ حفيدتي، وغالبية غير ضئيلة من أطفال العالم أغلب الظنّ، ليسوا بصدد إسقاط العلاقة الوثيقة بين الشجرة والهدايا تحتها؛ ويستوي أن يأتي بها لابس الثياب الحمراء والبيضاء، أم يكدّسها الأهل والزوّار، خفية أو علانية!

كلمات مفتاحية

Source: alghad.com

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *