د. حرزالله محمد لخضر
إن القراءة الواعية والسليمة لخريطة الصراع الدولي والفواعل المؤثرة فيه، وفق منظورات العلاقات الدولية ومقارباتها التحليلية كفيلة بمساعدتنا في وضع تصور شامل ومنطقي للنسق الدولي وترابطاته وكيفية إدارة الأزمات ومآلاتها، والإستثمار في الصراعات وتناقضاتها.
لقد مضت قرابة 20 عاما على احتلال أفغانستان والعراق بدعوى نشر الديمقراطية والقضاء على الإرهاب، وقد ادعت الولايات المتحدة ومعها حلف الناتو خلال كل هذه الفترة إعادة بناء الجيش وتدريبه وفق قواعد عصرية، ولم يكن لها من هدف أساسي سوى تدمير جيوش هذه الدول كمدخل لإسقاط الدولة والنظام معا، ولهذا لا نستغرب من سهولة سيطرة داعش على أجزاء من العراق وسوريا بتفويض أمريكي، أو سيطرة طالبان على أفغانستان بهذا السيناريو الدراماتيكي بعد خروج الولايات المتحدة وحلف الناتو منها، وهذا السيناريو الذي تم في ليبيا واليمن واستعصى في سوريا بعد الاستعانة بالروس.
فعملية تفكيك الجيوش التي تمثل رقما صعبا في معادلة الحكم بدول العالم الثالث، تعتبر أهم خطوة لتقويض دعائم الدولة وإقحام الشعوب في دوامة الفراغ والتحكم في مصائرها، لأن أغلب الأنظمة في العالم الثالث –للأسف- هي أنظمة غير شرعية تستند إما على الولاء الخارجي، أو الشرعية العسكرية في الحكم وإدارة الدولة، وهناك ارتباط وثيق بين النظام والدولة بنيويا ووظيفيا، لهذا فإن سقوط النظام في هذه الدول يعني بالضرورة سقوط الدولة وليس النظام فحسب، بخلاف الدول الراسخة في التقاليد السياسية والحكم الراشد والتداول على السلطة، فذهاب نظام ومجيء آخر يعتبر حالة صحية بامتياز مع بقاء أجهزة الدولة ومؤسساتها وولائها للشعب ولاستمرارية الدولة وليس للحاكم، كما وقع مع ذهاب ترامب وسياساته ومجيء بايدن وإدارته، أو في تداول الحكم بين حزبي المحافظين و العمال في بريطانيا.
لهذا يعتبر التغيير في دول العالم الثالث مسألة بالغة الحساسية وذات خطورة كبيرة في ظل مجالها الجيوسياسي المتعددِ الأقطاب والمتضاربِ المصالح، وهي تتطلب شروطا موضوعية ومعطيات واقعية وموازين قوى مؤثرة وفعالة وقادرة على تفكيك بنية النظام وإعادة بناء موازين القوى وصياغة معادلة جديدة للحكم، تنسجم مع التحديات الداخلية والخارجية، وقد يكون النموذج التركي أقرب إلى هذه المقاربة في الإنتقال الديمقراطي غير العنيف.
والدول الغربية تدرك جيدا هذه المعادلة في دول العالم الثالث لذا فهي تعمد إلى تسليح المعارضات وتكوين الميليشيات وزرع بؤر التوتر والإنشراخ، لتفكيك بنية النظام عبر إسقاط الجيوش أولا كتوطئة لازمة لإسقاط الدولة والدخول في مرحلة الفراغ، ومن ثم إعادة ترتيب التوازنات والمصالح من خلال فرض أنظمة موالية لها وتجنيد العملاء والمعارضة الوظيفية، كما هو الحال في ليبيا والعراق.
وبالرجوع إلى نماذج الإنتقال الديمقراطي الأربع نجد أن النموذج القائم على التحالف بين النخبة العسكرية وقوى التغيير على اقتسام السلطة أو انتقالها عبر مرحلة إنتقالية متفق عليها يمثل النموذج الأسلم الذي تفرضه الواقعية السياسية وموازين القوى الدولية وتجارب دول ما سمي بالربيع العربي، التي لابد أن نكتسب منها ” حكمة سياسية” و” رشادة في التدبير” تتأسس من خلالها رؤى ومقاربات جديدة للتنظير السياسي المنطلق من واقع هذه الدول وتعقيداتها وتوازناتها، وليس من تجارب الآخرين أو بمقايستها وإخضاعها للنظريات والأفكار المثالية غير المتجانسة مع بيئة هذه الدول ذات الخصوصيات الديمغرافية والتاريخية والسياسية والجيوستراتيجية، فلا بد من إدراكٍ حقيقي وعميق لمتغيرات ومسارات البناء والتغيير بعيدا عن لغة العاطفة أو الشعارات البراقة وحسن النوايا.
أكاديمي جزائري
Source: Raialyoum.com