بورتريه لأمّي منى بنت أحمد بن صالح
[wpcc-script type=”81a46635abb00ef63608ef4c-text/javascript”]

هو كانَ يعرفُ أنّها حُبلى به طولَ الحياةِ.. حياتِها
متسلّقًا في الماءِ ظلمتَه السحيقةَ.. والترابُ يسيلُ..حيث له أصابعُ في شَفِيفِ هوائِها،
شيءٌ كنبْتةِ قنّبٍ كانت تَكُرُّ خيوطَها.. أوْ وَهْيَ تزكو في مياهِ نواتِها
٭ ٭ ٭
من أيِّ ضوءٍ؟ أيِّ ظلٍّ؟ من كتابٍ لا غلاف له؟ أطلُّ عليكِ منّي أو أطلُّ عليَّ منكِ؟
وهلْ أصدّقُ ذكرياتي إذ أغنّي كلَّ شيءٍ ضاع منّي؟
تِلْكُمُ البنتُ التي أحببتُ في العشرينَ.. هل أحبَبتُها حقّاً؟ ولَمْ أخبرْكِ؟
كنتُ أسيرُ في حُلْمِي إليها.. غيرَ أنّ صياحَ ديكٍ كان يُوقظنِي؛ وطيفُكِ واقفٌ في بابِها
٭ ٭ ٭
لَوْ ألْتقِيها صدْفةً.. بقميصِها الساتانِ أملسَ ناعمًا.. تلكَ الصبيّةُ بنتُ حارتِنا؟
في أيِّ مقهى في محطّاتِ القطاراتِ السريعةِ.. والبطيئةِ.. هل أكونُ كما أنا؟
ويفوتُنا إمَّا تنادَى للرحيلِ قطارُنا.. وننامُ ـــ أنَّى شاءتِ الطرقاتُ حيث نَخبُّ نحنُ على يواقيتٍ وأحجارٍ بها فضيّةٍ خمريّةٍ، وعلى فُصوصٍ من عقيقٍ ـــ في حدائقَ كالقرى.. لكنّ صوتكِ أنتِ سوف يرنّ في رأسي كما هو دائما، بلسان ناقوس تدلّى:
«أنتَ تتركُنا؟ أتفعلُ ذا؟»
ـ ولو أبحرتُ شرقًا؟
ـ ثمَّ جُدْرانُ السفائنِ والمراسي.. حوضُها.. وأنا.. أَأَنتَ نسيتَني؟
حقّا نسيتُ.. وكنتُ حرفًا في الكتابِ كتابِها
٭ ٭ ٭
من أين هذا الأبيضُ المصفرُّ.. هذا الأبيض المزرقُّ؟
لونكِ ذاهبًا أم قادمًا؟ أم سُوسُ ملْحِ غيابِها؟
٭ ٭ ٭
تلكَ المدينةُ.. وهي صانعةُ المهاميزِ.. السروجِ.. القيروانُ.. تنامُ في محرابِها
وننامُ نحنُ أجنّةً فيها مُكوّرةً.. ذيولَ سُنونُواتٍ.. أوْ قطيعًا من جِراءٍ وهي تَنطحُ للخروجِ.. (صياحُ أترابٍ «تعال الآن نلعبْ».. كانَ يأتي من خلالِ نوافذي الصمّاءِ..
«هذا اليومَ تمطرُ.. والأزقّة كلّها مَلأى بماءِ الليل.. تأتي؟»
كدت أقفز مثل كلبِ الماءِ يومئذٍ.. وكدتُ أطيرُ.. لولا الصوتُ «قِفْ».. من داخلٍ.. أو خارجٍ.. يأتي كرنّةِ معولٍ.. أو من وراء حجابِها
«تأتي؟» وكنتُ أنا بمقلاعِ العصا.. مُتوهّجًا.. ومُتوَّجًا.. أجري وحيدًا في شعابِ جبالها.. الأفراسُ في خَببٍ على الطرقاتِ.. والفرسانُ فوق سروجهمْ يثبونَ..
أذكرُ.. كنتُ منتعلاً حشائشَها.. وأهجسُ..ربّما لَبَدَتْ تناديني بصوتي..
ربّما هيَ عند ناصيةِ الشعابِ.. بقوسِها ونِشَابِها)
القيروان؟ أنا الذي غنّيتُها
وأدرتُ أغنيتي لهَا.. بيتًا.. فبيتًا.. في بحورِ خليلِها.. حينًا..
وحينًا في ندًى ما زالَ يهبطُ من ندَى سيّابِها
٭ ٭ ٭
ـ الثوبُ يلبسُنا.. ويصنعُنا.. وهذي حلّةٌ صوفيّةٌ.. أنا خطتُها زرقاءَ.. لكْ
وأقول لي.. يومًا أعلّقها بنجمِ الجدْيِ.. مِسْمارِ الفلكْ
ـ هلَ أنتَ تحلمُ في النهارِ؟
ـ أنا؟ وكيفَ سمعتِني؟
ـ أَنَسِيتَ أنّكَ أنتَ نَجْمٌ آخَرٌ جاثٍ على قدميّ؟
كيفَ نسيتَ أنّي مَنْ يقودُ طريقَكَ اللبنيَّ.. عبرَ مجرّةِ الحلزونِ؟
ـ أنتِ؟
ـ أنا.. وعطرُ نجومِها عندي، وماءُ ترابِها
٭ ٭ ٭
في برشلونةَ مرّةً .. بحّارةٌ غنّوا لنا في الليلِ.. طولَ الليلِ.. في حانِ المحارةِ.. هكذا سمّيتهُ.. والموجُ يعلُو وهو يهبطُ؛ ثمّ يهبطٌ وهو يعلُو..
كُشْتبانٌ من نبيذٍ.. كانَ يكفيني لأثمُلَ..
كِدتُ أرقصُ.. كِدتُ أنشرُ بهجتي.. لكنّ طيفَك واقفٌ سبّابةً بيضاءَ تومئُ لي..
وكان الفجرُ ينشرُ في نواقيسِ الكنائسِ عطرَ أنجمهِ، بقفّازِ البنفسج؛
والمحارةُ وهْي تطوي حاجبيْنِ على عُرى أكوابِها
٭ ٭ ٭
والآنَ لا خوفٌ ولا ندمٌ.. فلا «سُوتْرا» لهذا الطفلِ..هذا الجوهرِ الفرْدِ الذي تبغينَ..
بِي ما بِي.. إذنْ
حسنًا فعلتِ
وقد رحلتِ، تحرّرتْ منّي يدُ
حسنًا فعلتِ
وقد رحلتِ الآنَ وحديَ أُولدُ
٭ شاعر من تونس
ـ سوترا: مجموعة حكم وتعاليم هنديّة في الدين والأخلاق والحياة اليوميّة