دخل الفصل مبادرًا بإلقاء التحية على طلابه الذين يُحبهم جميعًا، كما يحب ابنه محمد الجالس معهم. استدار جهة السبورة، وكتب في منتصفها الأعلى (بسم الله الرحمن الرحيم)، ثم كتب في الركن الأعلى من الزاوية اليمنى: “السبت 23/5/1421هـ.. المادة: تعبير.. الموضوع: الأم”.
واجه طلابه من جديد، وبدأ يتحدث إليهم: سنتحدث اليوم عن أهم وأحب إنسانة في الوجود، من يقول لي: من هي أهم وأحب إنسانة في الوجود؟
ـ . . . (لم يجب أحد)
استدار جهة السبورة ووضع خطين باللون الأحمر تحت كلمة (الأم) وأعاد السؤال مرة أخرى، فارتفعت أصابع الطلاب وأصواتهم: أنا يا أستاذ.. أنا.. أنا يا أستاذ.. أنا.. أنا..
تفضل يا أحمد: الأم .. ممتاز. أحسنت يا أحمد.. نعم الأم.
قالها واسترسل في الحديث: لا يوجد في هذه الدنيا يا أبنائي من يحب إنسانًا ويخاف عليه كما تحب الأم ابنها وتخاف عليه، ولعلكم لمستم ذلك بأنفسكم، فمن الذي يحبكم ويحنوا عليكم ويرعاكم؟ ومن الذي يخاف عليكم إذا مرضتم، ويتمنى لو يفديكم بروحه ويبيت الليل كله مستيقظًا؟ أليست الأم؟ ولذلك حينما جاء رجل إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وسأله: من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال له: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك”.
– من يقول لي: كم مرة ذكرت الأم في الحديث؟
– أنا يا أستاذ.. أنا.. أنا..
– تفضل يا خالد.
– ثلاث مرات يا أستاذ.
– ممتاز.. طيب من يقول لي لماذا ذكرت ثلاث مرات؟
– …. ( لا إجابة )
_ أنا أقول لكم..
نبتت على لسانه باقة ملأى بالكلمات العذبة، وفرد طائر الشعر جناحيه في صدره. ودّ أن يعطر جو الفصل بكل الآيات والأحاديث والآثار التي يحفظها عن الأم. وتمنى أن يغني معهم كل الأبيات الشعرية التي تجري في شرايينه نهرًا دافقًا يلهج بفضل الأم.
وفكر في أن يحدثهم عن أمه هو، كم سهرت وكافحت وتعبت حتى ربته بعد موت والده، وكم من القيم النبيلة غرست في نفسه. لكنه رأى أن يتحدث إليهم من خلالهم، عن الأشياء الملموسة، الأشياء التي يعيشونها ويفهمونها، ولذلك قال لهم:
– لأنها أكثر حبًّا وشفقة ورعاية وعطفًا على الابن، ولأنها تعبت فيه، ومعه أكثر من غيرها، فهي إذن أحق من غيرها بحسن رعايته وصحبته.
– انظروا إلى أمهاتكم في البيوت، من التي تعدّ الطعام وتغسل الثياب وتنظف البيت، وتعلمكم، وتسقيكم، وتنظفكم، وتغطيكم في الليل إذا نمتم؟ من التي تخاف عليكم إذا مرضتم، وتفديكم بنفسها، وتعطيكم الدواء في موعده، تبيت الليل ساهرة؟ .. إنها الأم.
أحسَّ أنه تحدث كثيرًا ولم يقل كل ما في نفسه.. توقف فجأة عن الحديث بعد أن ختم كعادته بكلمة: مفهوم.. ورددوا وراءه بصوت واحد: مفهوم.
تحرك باتجاه حقيبته في الزاوية اليسرى من الفصل، أخرج منها ورقة صغيرة ومجموعة من ظروف الرسائل بعدد طلاب الفصل.. واجه طلابه من جديد والظروف في يده، ثم قال لهم بعد طول تفكير:
– كل واحد منكم يخرج ورقة ويكتب عليها اسمه. سأملي عليكم رسالة، وبعد أن أصححها لكم سأعيدها إليكم لتكتبوها من جديد خالية من الأخطاء، ثم سأعطي كل واحدٍ منكم ظرفًا يضع فيه الرسالة ليوصلها..
– إلى من نوصلها يا أستاذ؟
– سأقول لكم فيما بعد..
شدّتهم الفكرة، فبادروا بإخراج أوراقهم، وكتابة أسمائهم، وحين لمس الأستاذ تهيؤهم، بدأ يملي عليهم:
(إلى الإنسانة التي تحبني وترعاني، وتتعب وتسهر من أجلي.. إلى الإنسانة التي تعتني بطعامي، وتغسل ثيابي، وتحرص على نظافتي، وتسهر على راحتي، وتربيني أحسن تربية، وتحبني أكثر من أي إنسان في هذه الدنيا، وتقضي كل وقتها معي، إلى….. ).
أكملوا الفراغ وسلموا أوراقكم لأتأكد من سلامة كتابتكم بعدها سأقول لكم إلى من توصلونها..
جمع المعلم أوراق طلابه وبدأ يقرأ:
وجد في الورقة الأولى بعض الأخطاء الإملائية، وضع تحتها خطًا أحمر، وكتب فوقها الكلمة الصحيحة، وحين وصل إلى الفراغ الذي تركه لهم ليملؤوه أذهله الاسم المكتوب “روكميني”.
انتقل بسرعة إلى الورقة الثانية فهالته “ماما شاندي” المتربعة في آخر الرسالة.
أخذ يقلب الأوراق باحثًا بعينيه المذهولتين عن الأسماء التي في الفراغ، تدلي فكه الأسفل، وحزت الدهشة حلقه، وغرست الأسماء في عينيه الجاحظتين أصابعها الغريبة: سارتيما، هيرلينا، براندي، سقيارتي، جيجي، سابرتينا..
بدأ قلبه يدق بعنف وهو يبحث عن ورقة ابنه محمد..
صُعق حين رأى اسم خادمته الأندونوسية “سوامي” يملأ الفراغ بكل وضوح .
ــــــــــــــ
بقلم/حسن بن حجاج الحازمي