مما لا شك فيه أن قناعة المرء بالشيء ليست أمارة على صحته. قال _تعالى_: “الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً” (الكهف:104)، وقال _تعالى_: “وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ” (البقرة:11، 12)، وقال _تعالى_: “إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ” (الأعراف: من الآية30).
ومما لا شك فيه أيضا أن عُلُوَّ الصوتِ وغلبته لا يعني أبداً أنه صوت حق، بل وكثرة المعتنقين لا تعني أبداً صحة ما يعتنقون، وفي التنزيل “إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ” (صّ: من الآية24).
والحاصل أن كل ذي منهج ـ فكر ـ يدَّعي أنه على الجادة، وأنه على الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه ولا أمتا، ويٌمْناه يقف المتطرفون المتشددون، وأيسر منه تراجع المفرطون المنهزمون. وهو بينهم، يدعوا كلا إلى طريقته.
وكأدعياء الوسطية أهل اليمين وأهل الشمال، يدَّعون كما يدَّعون، وينادون القوم إلى طريقتهم كما ينادون.
فلا أحد يقول(1) بعدم القبول لشرع الله.. ولا أحد يجاهر برَد الشرع.. بل الكل يتأول، ولهذا أردت في هذا المقال بيان أن التأويل ينقسم من حيث ما يتعلق به من الصواب والخطأ إلى أربعة أقسام:
1ـ نطاق الصواب وفيه يتكلم المجتهد بعلم وعدل وبكلام راجح؛ وفي هذه الحالة له أجران.. أجر لاجتهاده وآخر لصوابه.
2- يتكلم المجتهد بعلم وعدل وبكلام مرجوح؛ وفي هذه الحالة يكون له أجر واحد.. لاجتهاده.
3- نطاق العفو وفيه: يتكلم المجتهد بعلم وعدل وبكلام باطل وهو ذلة العالم.
4ـ نطاق الوزر وفيه: يكون الكلام بلا علم ولا عدل وصاحبه موزور غير مأجور، وهم أهل البدعة إذ أن كل بدعة لها دليل فاسد، وغالب هذا من فاسد التأويل.
ولكن هل كل مَن دَخَل في نطاق الذم والعقاب دَخَل في نطاق الكفر؟
لا.ليس كل من دخل في نطاق الذم والعقاب دخل في نطاق الكفر؛ وذلك لأن البدعة درجات فمنها ما يخرج من الملة باتفاق، ومنها مالا يخرج من الملة باتفاق, ومنها ما هو متردد بين ذلك لذا يجب التفريق.
ما أريد قوله هو أن: ليس كل تأويل يُقبل، أو أن ليس كل متأول صاحب أجر أو أجرين أو معفو عنه في أسوأ الحالات، فهناك من يحمل وزراً على تأويله.
أقول: وقضية عدم قبول تأويل كل متأول قضية يقينية لا يجهلها من له أدنى دراية بالدين. وتدبر هذه الأدلة:
– أراد قوم ـ يزعمون الإيمان ـ أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به متأولين: إن أردنا إلا إ حساناً وتوفيقاً، فرُدّ عليهم زعمهم، ولم يلتفت إلى صدق تأويلهم أو كذبه؛ بل جاء الحكم بنفي الإيمان عنهم حتى يحكِّموا بصدور منشرحة ونفوس مستسلمة، ولم يلتفت إلى تأويلهم. قال الله_تعالى_: “أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً” (النساء:60-62)….إلى قوله _تعالى_: “فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً” (النساء:65).
يقول ابن كثير – بعد أن أورد ما ذكر من سبب في نزول هذه الآيات -: والآية أعم من ذلك كله فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت هنا. ولشمس الدين ابن القيم في كتابه القيم زاد المهاجر إلى ربه (الرسالة التبوكية) على هذه الآية كلام قيم مذكور في أول الرسالة فليرجع إليه من شاء.
– ويوم بدر… يوم الفرقان يوم التقى الجمعان خرج العباس بن عبد المطلب ـ رضي الله عنه ـ مع جند الشيطان يقاتل أولياء الرحمن فعامله الرسول معاملة الكفار في المال والأسر، ولم يقبل منه دعوى الإكراه وقال له- صلى الله عليه وسلم -: “أما ظاهرك فكان علينا، وأما سريرتك فإلى الله”، فحكم عليه بظاهرة.
– وكالعباس أولئك النفر- من المسلمين – الذين قاتلوا تحت لواء الشيطان بدعوى الاستضعاف فقتلوا ونزل فيهم قول الرحيم المنان: “إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً” (النساء:97).
– وشهد الصحابة _رضوان الله عليهم_ على قتلى المرتدين – جملة أو على العموم – بأنهم في النار(2)،مع علمهم بأن بعضهم شارك حمية وليس بغضاً في الإسلام ولا من أجل مسيلمة بل حمية ونخوة.
وظاهر المنافقون اليهودَ متأويلين: “نخشى أن تصيبنا دائرة”. وما تقبل منهم، وما التفت إلى تأويلهم.
ونذر قوم وذبحوا متأولين “ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى”. فردّ عليهم تأويلهم ودعوا إلى الإسلام، وقوتلوا حين أبوا.
فليس كل متأول يقبل تأويله بل لا بد من مناقشة التأويل لنرى أيقبل أم يرد.
____________
(1) أتكلم عن المنتسبين للدين. و إلا فهناك الملا حدة يجهرون بالكفر.
(2) لا ينبغي أن يفهم من رفض دعوى الإكراه عند العباس بن عبد المطلب – رضى الله عنه – وعند أولئك النفر من (المسلمين).الذين قتلوا تحت راية الكفر ونزلت فيهم الآية. أن دعوى الإكراه غير مقبولة بالكلية إذ أن الإكراه منه ما هو معتبر شرعاً كمن استثنت الآية التي بعد هذه ” إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً “، ومنه- أي الإكراه – ما ليس بمعتبر شرعاً كالعباس وهؤلاء النفر. فقد كانوا يستطيعون حيلة ويهتدون سبيلاً، وفرق بين أن ينزل الإكراه بك من دون إرادتك.. وبين أن ينزل بك الإكراه بإرادتك واستشراف منك.
كما لا ينبغي أن يفهم أن قتال الصحابة للمرتدين، وشهودهم على قتلاهم جميعهم بأنهم في النار أن الصحابة قد أجمعوا على تكفير أعيانهم بما في ذلك المكره والجاهل، فهذا غير معروف ومن يدعي الإجماع فليأتي به.