تأمّلاتٌ إيمانيةٌ في الحجِّ وشعائره (1/2)

لقد نزل الإسلام العظيم لتحرير الإنسان من كل عبوديةٍ وإذلالٍ لغير الله _عز وجل_، ولتحرير الإنسانية من المظالم التي تقع بين أممها وأفرادها، نتيجة الخروج عن المنهج الربانيّ العادل الصالح لكل زمانٍ ومكان...
د. محمد بسام يوسف

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا محمدٍ سيّد المرسَلين، وزعيمِ المجاهدين، وإمام المتّقين .. وعلى آله وصحبه الكرام أجمعين.. ورضوان الله على مَن سار على دربه واتقى تُقاه وجاهد جهاده.. إلى يوم الدين، وبعد :
مدخَل:
لقد نزل الإسلام العظيم لتحرير الإنسان من كل عبوديةٍ وإذلالٍ لغير الله _عز وجل_، ولتحرير الإنسانية من المظالم التي تقع بين أممها وأفرادها، نتيجة الخروج عن المنهج الربانيّ العادل الصالح لكل زمانٍ ومكان.. وقد أصّل ديننا هذا كله عبر أصولٍ ثلاثةٍ تحدثنا عنها في أبحاثٍ سابقة، نذكرها هنا للبناء عليها:

1- الأصل الأول أو الهدف الذي ينبغي تحقيقه، لتحقيق العدل والسعادة والرخاء للإنسان، وهو: (لا إله إلا الله محمد رسول الله).. الذي يعني بإيجازٍ شديد: لا واضع لمنهج الحياة إلا الله، ولا مشرّع لدستور الحياة وقوانينها إلا الله، فهو الإله والربّ الذي ينبغي على الإنسان أن يطيعَه ويعبدَه وينفّذ أوامرَه ومنهجَه. وإن لم يفعل الإنسان ذلك، فإنه سيحوّل نفسه إلى عبدٍ لغير الله عز وجل، الذي سيكون في هذه الحالة.. الربّ المزيّف الذي يضع للناس من عنده منهج الحياة ودستورها وقوانينها المليئة بالأخطاء، وبالتالي المليئة بالظلم، فيحلّ الشقاء والتعاسة والظلم.. بدل السعادة والرخاء والعدل.

2- الأصل الثاني أو وسيلة تحقيق الهدف، وهو: الجهاد في سبيل الله، بكل أنواعه وأقسامه.. التي تتراوح من الجهاد بالقلب إلى الجهاد باليد.. وما بينهما من جهاد النفس والقلم وأساليب الدعوة المختلفة إلى الله ودينه القويم ومنهجه الصحيح الوحيد الشامل.

3- الأصل الثالث أو المحرّك الدائم الذي يحرّك الإنسان المؤمن للسعي باستمرار إلى هدف الإسلام في الأرض.. وهو: اليوم الآخر.. الذي فيه يكافَأ مَن يؤدي الأمانة على خير وجه، ويُعاقَبُ الذي يقصّر في تأديتها ويتقاعس عن تحرير نفسه وشعبه وأخيه الإنسان.. من كل أنواع العبودية لغير الله _عز وجل_.

تلكَ إذن.. كانت أصول الإسلام الثلاثة، التي ينبغي أن ينطلق منها المسلم المؤمن.. لكنّ الله عز وجل وضع لنا إلى جانبها أركاناً خمسة، هي: الشهادة، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج.. هذه الأركان الخمسة تهدف إلى ما يلي:
1- توفير التربة الصالحة للمؤمن بشكلٍ مستمر.. لتغذيته بالزاد المهم الضروري، للسعي باستمرارٍ إلى تحقيق الأصول الثلاثة المذكورة آنفاً.. في نفسه، وفي كل مكانٍ يستطيع الوصول إليه.. لنجده يتذكّر دائماً بأن لا إله إلا الله، ولا وسيلة لتحقيق ذلك إلا الجهاد في سبيله، ولا شيء يحرّك النفس البشرية للسعي في سبيل الله لتحرير البشرية إلا التذكّر بأن هناك يوماً آخر، فيه يُثاب الناس على التزامهم بتأدية الأمانة الموكلة إليهم من ربهم عز وجل.. أو يعاقَبون على تفريطهم وتقاعسهم عن ذلك!..

2- وحمل الإنسان المؤمن على تبني منهج الله عز وجل، وبشكلٍ دائمٍ، وبأفضل صورةٍ ممكنة.. وتنفيذ ذلك المنهج الرباني في شؤون الحياة كلها!..
قد نتحدّث عن الأركان كلها في مناسباتٍ أخرى.. لكننا هنا سنتحدّث عن ركن واحدٍ فقط، هو ركن: الحج، لمناسبته التي تبدأ خلال أيامٍ قليلةٍ _بإذن الله سبحانه وتعالى_.

الحج.. ذلك المؤتمر الإسلاميّ العالميّ الذي يهدر فيه المسلمون من كل بقاع الأرض، وفيه يعاهِد المسلم ربَّه على السير لتحقيق هدف الإسلام في الأرض.. وعلى الجهاد الدؤوب بشتى أنواعه.. لنشر الإسلام، وتحرير المسلمين بل البشرية كلها.. من ربقة الظلم والاضطهاد والإذلال!

خلال الحديث عن الحج وشعائره.. لن نتعرّض للأحكام الفقهية والفوائد الثقافية والسياسية والأخلاقية من الحج.. فقد أبدع فقهاء الأمة ومفكّروها -مشكورين- في الحديث عن تلكم الأمور.. لكننا سنقدّم حلقاتنا بأسلوبٍ تحليليٍ تأملّيٍّ لكل شعيرةٍ من شعائر الحج.. فنكشف كنهها وهدفها.. ولنربط بينها جميعاً.. ونخلص إلى نتائج مهمةٍ.. كانت هي الهدف الذي فرض الله لأجله الحج على المسلمين، ركناً من أركان دينهم العظيم القويم!

إذن، لنقف معاً عند نفحاتٍ وتأملاتٍ إيمانية.. فنـزيل الستار عن عظمة ديننا وشعائرنا الإسلامية.. التي تسبر أغوار النفس الإنسانية للمسلم.. فتجعله يجيب على السؤال الكبير:
لماذا كانت هذه الشعائر، وما حقيقتها وحقيقة أهدافها.. ثم ما الهدف الكبير من ركن الحج كله؟!..
إذا صنّفنا شعائر الحج.. فسنجد أنه يتكوّن من الشعائر الأساسية التالية:
1- الإحرام.
2- التلبية.
3- الطواف.
4- السعي.
5- الوقوف بعرفة.
6- النحر.
7- رمي الجمرات.
8- الإقامة بمِنـى.

لنلقي نظرةً تأمّليةً تحليليةً على كل شعيرةٍ من الشعائر المذكورة آنفاً :
أولاً : الإحرام خطوة تجهيزية:
في بداية الحج، يجد الحاج المسلم نفسَه أمام أول شعيرةٍ من شعائره، هي الإحرام، فيتحلّل من الثياب المخيطة، وينظّف جسده نظافةً تامةً، ويكشف رأسه، ثم يضع على بدنه -ليستره- قطعتي قماشٍ بسيطتين غير مخيطتين!..

لا يجوز للمُحرِمِ أن يخاصمَ أحداً من الناس.. كما لا يجوز له قصّ شعره أو ظفراً من أظافره، ويُحَرَّم عليه الصيد في الحَرَم، أو اقتراف أيٍ من السيئات، كما يحرم عليه التطيّب بالعطر، أو ممارسة الحياة الزوجية العادية!..
نحن إذن أمام شعيرةٍ يبدأ فيها الموسم التعبّدي للحج، وحتى يكون تنفيذها صحيحاً وكاملاً، وحسب ما تقتضيه أوامر الله _عز وجل_.. ينبغي أن يقوم الحاج المحرِم بما يلي:
1- الإقبال على الله _عز وجل_ بنفسٍ نظيفةٍ، وجسمٍ نظيفٍ، وروحٍ نقيةٍ طاهرةٍ محسِنة غير مذنبة!..

2- التجرّد الكامل من مفاتن الدنيا، ومن التمايز بين الناس الموجود عادةً في الحياة العادية، ومن الانشغال عن هدف الحج والعبادة والتذلّل إلى الله _عز وجل_ خالق الخَلقِ وحده.. بأي عملٍ أو تصرفٍ مهما كان صغيراً، حتى لو كان قصّ شعرٍ أو تقليم ظفر!.

هناك إذن.. توجّه كامل بكل الجوارح، وتركيز كامل بكل المظاهر الداخلية والخارجية للنفس البشرية، وتهيئة للروح الإنسانية.. للإقبال على عبادة الله _عز وجل_ وحده، بلا حواجز ولا مراسم ولا أي أمرٍ شاغلٍ للنفس عن هذا الإقبال النقي الصافي باتجاهه _سبحانه وتعالى_.. فهي الخطوة الأولى التمهيدية لما سيتبعها ويؤازرها من خطوات!..

ثانياً : التلبية تأكيد على أنّ الحج لله _عز وجل_ وحده لا شريكَ له:
منذ الإحرام ودخوله الحرم الشريف.. يبدأ الحاج بالتلبية ويبقى يلبي حتى آخر مدة الحج تقريباً (حتى رمي الجمرة الأولى).. فيرفع صوته بالنداء حتى يبحّ صوته، كما كان يفعل صحابة رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، وكما كان يأمرهم رسولنا وحبيبنا _عليه أفضل الصلاة والسلام_:
لبيكَ اللهم لبيك
لبيكَ لا شريكَ لكَ لبيك
إنّ الحمدَ والنعمةَ لكَ والمُلك
لا شريكَ لك

لنتخيّل المشهد العظيم:
كل المؤمنين المتوجّهين إلى بيت الله الحرام، من كل أصقاع الأرض وأركانها.. يهتفون بذلك الهتاف الخالد، فيقولون ويعلنون :
جئناكَ ياربَّ الأرباب، ويا خالق الخلق كلهم، جئناكَ نلبي نداءكَ، فأنتَ ربُّنا وحدكَ لا نعبدُ إلهاً ولا ربّاً سواك، ولا نستمدّ منهج حياتنا إلا منك، ونعاهدكَ على المضي قدماً لتحقيق حكمكَ وتنفيذ شرعكَ.. ونحمدكَ يا ربّ العزة على كرمكَ معنا ومنحكَ إيانا منهجكَ العظيم.. فهي نعمتكَ التي لا تُقَدَّر بثمن.. ونحن يا ربِّ طوعُ أمركَ، ورَهنُ إشارتكَ، ننفّذ ما تأمرنا به من غير تلكؤٍ أو كللٍ أو مللٍ أو تقصير.. فأعنّا يا ربنا على ذلك، فأنتَ خير معين!..

فالتلبية هتاف المسلم الخالد، الذي يعلن فيه المؤمن أنه ما أتى إلا لتنفيذ أمر إله السماوات والأرضين وحده.. وأنه قادم ليعلن عبوديته له وحده، في كل أمرٍ من أمور دنياه، فهو الخالق، وهو الحاكم وحده.. ويعاهده على الجهاد في سبيله وحده، بكل الأساليب الممكنة، حتى يتحقق هدف الإسلام في الأرض.. فتتحقق العبودية التامة في الأرض كلها لربّ الأرباب، الإله الواحد الأحد، الفرد الصمد!
 

Source: www.almoslim.net

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *