علي الزعتري
أشعر بالتطفل عند الحديث عن سوريا، و كأن الحديث عنها صارَ مشاعاً لمن يريد. و أقول لنفسي أن تهدأَ، فما لي و حديثُ سوريا. لولا ما انغرز في الوجدانِ لها و منها ما كتبت.
أولويات السوريين، بين مُعارضٍ و مُوالٍ و ساكنٍ بينهما، والحكومة وفي المعارضة، واضحةٌ ومتعددة. لكن توفيقها في بوتقةِ الصهر الوطني المتحد مع وجود مؤثراتٍ مختلفة يجعلها غايةً في الصعوبة. قُرِأَت مراراً؛ بيد أن الدخولَ العربي على الساحة السورية بالتهادن و إعادة العلاقات يجعلُ من القراءة مسألةً ذات أهمية لنتكهن بالقادم من فيضِ واقعِ الحاضر.
من الطبيعي قبول أن المطلب الرئيسي للسوريين اليوم هو مطلبٌ معاشيٌ لاستعادة الخدمات الأساسية اللازمة لحياتهم اليومية. ولا يختلف هذا المطلب بين من يعيش تحت ظل الحكومة و من هو خارجه. الكل من السوريين أصابه الإرهاق و اليأس من قلق مداراة و تدبير الحال للحصول على الاحتياجات الأساسية. المأكل و المشرب و الكهرباء والوقود و العلاج و الدواء و المدرسة والإتصال بالإنترنت، و به جانب من الترفيه، عدا عن أهميته وصل الأهل و الأصدقاء، و العمل الذي يدرأ الفقر، و كرامةٌ مصانةٌ و مستقبلاً للجيل القادم. سنضيف لهذه القائمة التمتع بالأمن العام والقدرة على السفر الداخلي والخارجي من دون تضييق. هي مطالب طبيعية لكل شعب و قد اختبرها السوريون لسنواتٍ قبل الحرب.
السوريون كذلك لهم مطالبهم المتعلقة بنوعية التعاملات بين الشعب والسلطة التي تحكمهم. بالدرجةِ الأولى، التخلص من الفساد و من الاستقواء الذي يمارسه من هو بالسلطة و من يستطيع أن يستجر قوة طائفةٍ أو حزب. لا يختلف هذا المطلب بين سوري يعيش تحت كنف الدولة أو تحت سلطة الأكراد و سلطة الحركات المسلحة المعارضة. و كثيرٌ من السوريين، من هم خارج نطاق الولاء للدولة، من يطالب بتغيير جوهر الحكم السوري الحالي بمعنىً يقترب مما حصل في العراق و يطالب بتفكيك مفاصل الدولة والأجهزة الأمنية وإعادة تشكيلها على مبادئ ديمقراطية أمينةً عليه. ومنهم من يطالب بحكم ذو مبادئ دينية لا دخل للديمقراطية الانتخابية بها. ومنهم الأكراد الذين يطالبون بالحكم الذاتي بعيداً عن دمشق و يشترطونَ حصةً مفروضةً و محميةً و وافيةً من مدخولِ الدولةِ من النفطِ و الغازِ و الزراعةِ، و لو قاموا هم بالبيع و الشراء من دون حكومةٍ مركزيةٍ لكان أفضل! مع العلم أنهم اليوم يتحكمون، بحمايةٍ أميركية، بهذه الثروات في أجزاء من محافظة دير الزور ومحافظة الحسكة. و من السوريين الأكثرية التي لا تريد تغييراً ببلدهم مما تقوله المعارضة السلمية كانت أم الهمجية.
الأرقام، وهي متغايرةٌ حسب المصدر، تصفُ سوريٍا ديموغرافيٍاً بأنه بلدٌ منقسمٌ. تعداد سكان سوريا بالتقريب يتراوح بين 17.5 إلى 18.5 مليون نسمة حسب مصادر الأمم المتحدة و إلى 24 مليون نسمة حسب مصادر أخرى. لم يجر تعداد رسمي منذ ما قبل الأزمة والأرقام الحالية جُهدٌ استقرائي للتعداد السابق مع إسقاطات الواقع من معدلات ولادة و وفيات و قتلى و مخطوفين و مهاجرين. وهناك 5.6 مليون لاجئ سوري ببلدان مختلفة، و حوالي 6.7 مليون نازح داخل سوريا و من هؤلاء 3 مليون بمناطق لا تسيطر عليها الحكومة، تحديداً في محافظة إدلب و شمال محافظة حلب وجزئياً محافظة اللاذقية. إن قبلنا رقم الأمم المتحدة سيعني هذا أن أكثر من ثلثي السوريين نازحين ولاجئين و هو عددٌ صادمٌ مهول. والأمم المتحدة تُقَدِّرُ أن 13 مليون سوري داخل سوريا بحاجة للمعونات الإنسانية وأن جهات المعونات الإنسانية ترغب بالوصول ل 10.5 مليون محتاج منهم. وهو كذلك عددٌ مهولٌ يقترب من ثلثي السكان. هذه المعونات أساسية و يتم توفيرها حسب تصنيف المنظومة الدولية للمعونات الإنسانية لشؤون الحماية وإدارة مخيمات اللجوء و التعافي المبكر و التعليم و الصحة و التغذية والإيواء و الماء و الصرف الصحي و مهام التنسيق و منظومة الاتصالات والإمدادات اللوجستية. كل واحدٍ من هذه القطاعات يتفرع بالتفاصيل و الحسابات المعقدة و يمكن الاطلاع عليها بأدبيات الأمم المتحدة. و يبلغ مجمل ما قُدِّم من التمويل للمعونات الإنسانية داخل سوريا ولكل مناطقها سواء كانت تحت العلم السوري أو خارجه ضمن الخطة الإنسانية لعام 2021 حوالي 1.4 بليون دولار من المجمل المطلوب للخطة وهو 4.2 بليون دولار. هذا المبلغ الذي دُفِعَ هو ثلثً المطلوب و قد يقترب من الخمسين بالمائة بنهاية العام. و لا تشمل هذه الخطة المساعدات المقدمة للاجئين السوريين بالأردن ولبنان و العراق و تركيا و هم لهم خطتهم الإقليمية الخاصة. ولا خِلاف أن هذه المعونات تَسُدُ حاجةً مُلِّحةً تلبي متطلبات المحتاج من الغذاء و الصحة و التعليم لكنها لا توفر الاحتياجات الثقيلة داخل سوريا الحكومية لقطاعات البنى التحتية والتشغيل، وهي القطاعات التي تُؤَسسُ لعودةِ الدورة الاقتصادية المطلوبة.
نتيجةً للحرب هاجر السوري عُنوةً و اختياراً، خوفاً و رغبةً، فهو لاجئ بمخيماتٍ في الأردن ولبنان وتركيا، مع بعض المرونة للعمل و وفرةٍ معقولةٍ من الخدمات المقدمة من البلاد المضيفة والمجتمع الدولي. و كثيرٌ وصل لأوروپا و كندا وأمريكا وبعض البلدان العربية و استقر هناك قانعا بما حصل عليه إما عاملاً مقيماً أو لاجئاً رسمياً أو مقيماً بدون صفة اللجوء و هي صفةٌ ينتظرها على أحر من الجمر. من بينهم مجاميع لا تود العودة لبلادها إلا بعد تغيير يقبلونه في الحكم و في القوانين و بعد فترة اختبارٍ لها، لكي يطمئن القلب. و لذلك، وما لم تتغير التوجهات في بلدهم حسب ما يتمنون، أو في البلدان المضيفة، حيث ترتفع بين وقت وآخر دعوة إعادتهم لسوريا، فسيبقون متمتعين بصفة اللاجئ أو المقيم مهما طالت فترة لجوئهم و إقامتهم إلى أن يستطيعوا العودة لسوريا لكن بشروطهم و مطالبهم التي قد لا تكون لأغلبيتهم سياسيةً بقدرِ ما هي إدارية قانونية مثل رغبتهم أن لا يُجَنَدُوا إلزامياً أو أن يُتجاوزُ عن مخالفاتٍ ارتكبوها عمداً أو جهلاً. و منهم على العموم من لا يثق بالحكومة و يفضل اللجوء على العودة للأوضاع السابقة و كثيرٌ منهم يتأقلم في غربةٍ صارت وطناً بما لا يشجعه على العودة إلا زائراً و قِلَّةٌ فقط تعود راضيةً بالوضع القائم. و كثيرٌ جداً من السوريين من سيبقى ببلاده و سيعود لها راضياً بها و بأحوالها.
إذاً، السوريون منقسمون مسكناً و حاجةً حياتيةً وإيماناً بمستقبلِ نظامٍ سياسيٍ. هي ليست حالةً استثنائيةً في العالم لكنها في سوريا هي موغلةٌ في التعقيد بسبب الحرب التي حفرت في النفوس و قتلت و شرَّدت و عَوَّقت و أخْفَتْ و هدَمتْ. الإصلاحُ يتطلب إراداتٍ داخليةٍ وخارجيةٍ لا تستحوذُ على قواسم مشتركة كما رأينا. فَلِحَلِّ الأزمة الإنسانية و تحويل الإهتمام للتنمية، بمساعداتٍ دوليةٍ سواء من الأمم المتحدة أو المانحين، و هذا بندٌ شائكٌ ليس مجالَ شرحه الآن، يجب الوصول لحلٍ سياسي يرضاه المانح، و هو تغيير النظام الحاكم، و هو ما لن تقبله سوريا. لكن التنمية، كيفما تم تمويلها، تحتاج بيئةٍ آمنةٍ تسمح بالعمل و انسياب الخدمات و البنية المساعدة دون معوقاتٍ و اشتراطات، وهذا للآن متعذرٌ أو صعبٌ بمناطق عدة في سوريا. وعودة اللاجئين والنازحين مواطنينَ راضينَ و قوةَ عملٍ تحتاج نفس الحل السياسي وزيادةً عليه أماكن سكنٍ كريمةٍ لهم و مجتمعاتٍ مرحبة في حين بات هذين المطلبين في كثير من سوريا خارج نطاق الممكن للتهدم الذي نالهما مجتمعيا و إنشائيا. الحضن السوري اليوم غير قادرٍ باكتمال على احتضان كثير من السوريين لأسباب تتعلق بالاختلافات السياسية والظروف المعيشية التي تُفاقم من حدتها الأهداف الدولية لسوريا. و كما يبدو أيضا فإن حلولها عند السوريين بأطيافهم هي كذلك بعيدةَ المنال و تنزعُ لإقصاءِ الآخر بل ومقتنعةً عند البعض بضرورةِ إرضاخهِ لقبولِ حجتها على أي جانب من الموالاة أو المعارضة كان المواطن.
أما بميزان الحاكم والسلطة، فالحكومة السورية معترفٌ بها و شرعيةٌ قانوناً لكنها ليست على هوىً من المعارضين السوريين و كثيرٍ من الحكومات. و هناك حكومةٌ كردية بمبدأ شئتم أم أبيتم، و تلافيفَ عشوائية تخضع بالتوجيه في إدلب و شمال حلب. و هناك احتلالٌ أمريكيٌ مع حلفاء في التنف و الشمال الشرقي؛ و احتلالٌ تركيٌ، يبرره، في القول التركي الرسمي، الإرهاب الكردي و حماية الأقلية التركمانية، و الاحتياجات الإنسانية والمدنية لسكان إدلب وشمال حلب. و بالطبع هناك الجولان المحتل. هذه السداسية من السلطات وهي الحكومة بشرعيتها الإشكالية للبعض، و بوضع اليد للباقي، هي من مفارقات الأزمة السورية. المنطق و القانون الدولي يقول بسيادة الدولة و الشرعية و بخروج الاحتلال وعودة المواطن و الأرض، والواقع يطرد المنطق. كل من ليس حكومةً شرعيةً يريد زوال الشرعية الحالية والإتيان ببديلٍ شرعي مناسب يُفَصِّلُهُ حسب عقيدته. والحكومة تعمل لإنهاء الاحتلالين الأمريكي التحالفي والتركي و لا تعترف بشرعيةٍ غير ما تحمل و تضغط و تناور لقصقصة و لتهذيب النوايا الكردية و تطويق جموحها و تضغط عسكرياً بالتعاون الروسي لطرد الخوارج من إدلب و شمال حلب و تعمل لاستمالة مواطنيها الرافضين لها في جلسات حوار طويلة برعاية دولية. وهي أهدافٌ لا تلتقي ولن تلتقي إلا بتحولٍّ يَهُزُ القوى المختلفة فيقوي بعضها و يضعف غريمها و لا مجال لمعرفة كيف انتهائه. استنتاج هذا الموقف يؤكد أن الحضن السوري لن يتسعَ لهذه القوى على قاعدة التعايش لوجود احتلالٍ واضحٍ لا يمكن و لا يجوز قبوله و لوجود معارضة مسلحة منها ما هو إرهابي بالتوصيف الدولي. وأن أي حلٍ سياسيٍ للخلاف مع المعارضات القابلة للحوار لم يتم الوصول له لليوم، وأن أي توجه لاستخدام القوة لا يضمن الثقة بالانتصار.
أولوية سوريا الدولة تحرير أراضيها من المحتلين دولاً كانوا أم جماعات، وعودة سيادة القانون السوري لهذه الأراضي، وهو القانون الذي يريد المعارض السوري تعديله بدءً بالدستور. تتضارب الأهداف عند الدول المحتلة و الجماعات المتمردة و فيما بينها كذلك. التحالف بقيادة أمريكا يريد أن تتحول سوريا لديمقراطيةٍ بدستورٍ جديدٍ لكن بشرطِ أن تكون مِطواعةً من دون كثير جدال وأن تقبل دون مماطلةٍ نبذ مبادئ المقاومة وترضى القبول بالصهيونية و أن تقبل منح الحرية للأكراد وهي الحرية التي تقترب من الاستقلال. بهذا ترتاح واشنطن. تركيا تريد أن يمتد نفوذها لأراضٍ سورية شرعاً أم تفاهماً مع دمشق، لأنه فيها كما تقول تاريخ لها. و تريد كسر شوكة الأكراد و تتمنى حكومةً سوريةً بدمشق لا تُعاندها في ما تخطط له من توسع. الأكراد و اللفائف المستترة بالدين تسعى لسلطتها العشوائية هي دون غيرها. و المعارضة السورية تتحدث عن تغيير الدستور و ديمقراطيةٍ سوريةٍ تأتي بها للحكم وهي باتت لا تملك زخما للتغيير. هي استراتيجيات متنافرة في خضم حقارٍ مستحكم و كلها ترمي بالبلاء الوجودي و المعيشي في البلد المستباح بما لا يمكنه من استعادة ما ضاع. وهي تُعَمِّقُ من مأساة الإنسان السوري أينما كان. سوريا واقعيا تحت الاحتلال و الأسوأ أنها ترى مع مرور الزمن السعي الضاغط في مسار تثبيتِ أركانهِ و سيستمر هذا الوضع ما لم تتغير موازين القوى و هو أمرٌ ليس مستحيلاً لكنه ليس منظورا و يتساوى في الحُرْقةِ الوطنيةِ مع مقولة متكررة عن الرد الذي سيأتي بالوقت والمكان المناسبين، ولا يأتي.
هنا يدخل العربي سوريا بعد عقدٍ من الحرب والقطيعة. هو دخولٌ اقتصاديٌ بالدرجةِ الأولى لاستخدام المعبر السوري و بحذرٍ شديدٍ خوفا من تجاوز حتى حدود الاقتصاد، لا الانفتاح الأكبر . هو يتناول سوريا الرسمية بمبدأِ أن لا مفر منها لكنه لن يحبها لدرجة إغضاب واشنطن أو إرباك استراتيجيتها. العرب كذلك يريدون شَدَّ سوريا بعيداً عن إيران وهذا هدفٌ له جذور دينية لكبح جماح “فارس” المستقوي بالسلاح المتطور و توسعها الشيعي كما يقال. لكن الدخول العربي ليس بوسعه تقديم وصفةٍ بديلةٍ لتعالج أمراض سوريا المزمنة جراء الحرب و الحصار و الاحتلالات المختلفة. بل يأمل العرب من سوريا أن تنتقي لنفسها هي طواعيةً الدواء المُلَوَّحَ به فإن هي فعلت لاختفى وجع الرأس السوري و العربي، أو هكذا يتخيلون. كما لن يستطيع العرب أن يقدموا حلاً إنسانياً بقيمة خمسة مليار دولار سنوياً على الأقل للسوريين داخل و خارج سوريا يعادل ما يقدمه المانحون و يخفف أو يزيل تأثيرهم في هذه الأزمة و لن يستطيعوا الضغط على أمريكا وتركيا للخروج من سوريا وهم ليسوا بقدرة التعامل مع الأكراد الساعين للحكم الذاتي دون انحسار الحماية الأمريكية، و لننس كذلك مرغمين بالواقع المؤلم استحالة تحرير الجولان و وقف الهجمات الصهيونية. و لن يقوم العرب بالطبع بإعمار سوريا من دون إذنٍ أميركي. كل المطلوب الآن هو اقتصاد العبور السريع لحل بعض المشكلة، في لبنان تحديداً. والأمل غير المعلن أن تكون هذه التجارة هي الوسيلة التي ستقنع سوريا بفائدةِ التحلل من التزاماتها بمبادئ تعلنها و حلفائها في المسائل القومية و المقاومة. واشنطن، التي سمحت بالانفتاح العربي، سارعت لكبحِ أي تخيلٍ بتوسيعه، بالمناسبة. فما بال سوريا ترحب بالعرب؟
و هل لديها بديلٌ غير الترحيب؟ و هل لدى أية بلد بهذا الوضع إلا أن ترحب؟ لكن ترحيباً عن ترحيبٍ يختلف.
بعد عقدٍ من القتال والانقطاع المفروض لا تملك سوريا أن ترفض تقرب العرب أو غير العرب طالما، حسبما يقول المسؤول السوري، أن التقرب لن يكون شرطاً مسبقاً لتنازلاتٍ سوريةٍ لم ينجح العقد الفائت من المصاعب أن يجبر سوريا على قبولها. سوريا ترى في التقارب ثغراتٍ بدت ملامحها في جدارِ الحصار ستستفيد منها بكل وسيلةٍ ممكنةٍ بما يمكنها من تخفيفِ بعض الأعباء و تدعيم استراتيجية البقاء و السعي في التحرير والوصول لإعادة محافظاتها لكنف الدولة. و ربما هي كذلك ممتنةٌ لتصريحات واشنطن التي تعفيها من تطوير علاقاتٍ عربيةٍ قد تحمل في طياتها شروطاً.
لكن على أي مُستندٍ اقتصاديٍّ و سياسيٍّ و عسكريٍ ستكون هذه الاستفادة السورية؟ بلا شك بعض الفوائد من الاتصالات العربية في التصدير والاستيراد. و في سواها سيستمر المستند روسياً و إيرانياً و الحلفاء المخلصين. فمن الصعب أن نتخيل أن العرب سيوفرون لسوريا غطاءً عسكرياً مثلما تفعل روسيا و إيران بل أن الأولوية للعرب هي لإخراج سوريا من ارتباطها بإيران. هذا في وقتٍ تنشط فيه الاتصالات العربية مع إيران. و إن أراد البعض استخدام سوريا للضغط على تركيا من نواح دينية سنية و إقليمية فلتركيا مزاجُ تفكيرٍ لا يؤخذُ بالضغوط بسهولة فيما يتعلق بالبعدين السوري و السني. عند أنقرة سوريا ليست ليبيا. سوريا كما نقرأ سترحب بمن يطرق باب دمشق بشرطها لا بشرطه وكل ما يفيدها بالتصور السوري يُضْعِفُ غريمها في كل ساحة سلم أم معركة. صلاتٌ قد لا يرى أثرها المواطن السوري مباشرةً ولكنها ستساهم في إعادة خلق بعض الثقة بدولته، و لو بعدت عن يديه حُزمةَ المطالب التي يتبناها و يتمناها لانفكاك عسرة الحياة اليومية. سوريا ليست اليوم بواردِ التنازلِ لا للدولِ و لا للمعارضة المستقوية بدولٍ لا تريد الحكم السوري، وفي الوقت نفسه لا تستطيع سوريا تلبية الاحتياجات الأساسية لمواطنيها كلها دون معوناتِ الدول و لا هي كذلك قادرةٌ إخراج الاحتلال دون دعمٍ لا يمكن منحه روسياً في ظل التوازنات الدولية. لا فرقَ كبير في الواقع السوري المعاشي للمواطن سيأتي من التدخل العربي المتأخر ولن يكون هناك تحولٌ لكي تُعلنَ سوريا النصر. الأمور على حالها ستبقى تراوح مكانها إلا من تجارة العبور طالما تسمح واشنطن.
سأنتقل لنوعٍ مختلفٍ من الترحيب و هو ما مارسهُ السودان الذي كما نعلم يمر بسنواتٍ عجافٍ طويلة منذ استيلاء العسكر على السلطة في أوائل الستينات. الخلاص الذي أتى مؤخراً على يد إصرار و تضحيات السودانيين أتى كذلك بحكومةٍ عسكرية مدنيةٍ خليط ورثت حكم البشير و طهرته من الفلول لكنها رحبت فوراً بالتطبيع الصهيوني مقابل المساعدات الدولية. و لكن السودان لا يزال يعاني بمخاضه الأليم و هناك من يقنعه أن التطبيع هو العلاج. هل أن نفس الأسلوب سيُمارس مع سوريا؟ سؤالٌ بديهي و جوابه سهل. إن فعلت سوريا ذلك فلن تختفي المشاكل. التطبيع لا يحل الأزمات بل يُجَمِّلُ الانغماس التدريجي في الوحل.
الحضنُ السوريُ فيه مُتسعٌ للعرب مع حدودٍ قد لا يمكن تجاوزها وفيه ضيقٌ من قصورهم جَبْرَ خاطرها و لو بزيارةٍ من أمين عام جامعة الدول العربية. أما للسوريين فهذا الحضن يبقى رحباً كما ضيقاً حتى تُحَلَّ بينهم العقد المجتمعية و السياسية و العسكرية و ينتهي الاحتلال و الحصار ليسمح ببناءٍ سوريٍ متجدد.
كاتب ودبلوماسي اردني
Source: Raialyoum.com