الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.. وبعد:
فكل الخلق أفرادا ودولا وجماعات-هنا وهناك- وفى هذا العصر وكل العصور- ينشدون الأمن والطمأنينة وأن تكون بلدانهم واحة للأمان، ولكن الواقع يقول إن الكثرة من هؤلاء لم تجد سبيلاً لتحقيق هذا المطلب الغالي إلا عن طريق القوة المادية المتمثلة في الجيوش والشرطة وسائر الأجهزة، واستخدموا من أجل ذلك النصائح والتحذيرات والأعمال السرية والعلنية وأجهزة التصنت والتجسس لطمأنة النفوس وحفظ المجتمع من انتشار الجرائم ولتحقيق الأمن الاجتماعي والصناعي …. كما انتشرت شركات التأمين التي أسسها اليهود مصاصو دماء الشعوب، وكثرت المصحات النفسية لعلاج أجيال القلق والضياع الفكري.
وقد وجد هؤلاء أن الإنسان المعاصر تائه خائف، ينشد أمناً لا يجده، فالمناهج الفكرية والفلسفية الموجودة لا تلبي رغبة ولا تريح نفساً ولا تحقق هدفاً، فهو في حالة من حالات الخوف على المصير ومن المستقبل رفع من حدته وزاد من وتيرته ازدياد نسب الحوادث والجرائم، وأصبح الناس يخاف بعضهم بعضاً ويخافون الكوارث والأمراض والرياح والمطر والأعاصير، يخافون من الإيدز والسرطان، كما يخافون من انتشار أسلحة وعلوم الدمار والتخريب، ولذلك أطلقوا على هذه الحضارة المزعومة اسم حضارة القلق، وكيف يطمئن أمثال اللاأدرية؟! الذين لا يدرى أحدهم من خالقه ولا لماذا خلقه ولا إلى أين مصيره ؟
ونحن لا نستغرب هذا القلق وهذا الاضطراب، وهذا الخوف الذي يسيطر على هؤلاء!! بل نرى أن هذه نتيجة حتمية لقصور مفهوم الأمن والبعد عن حياة الإيمان، فليس كل من يتمنى الخير يدركه، ولا تكفى النوايا الطيبة، ولكن لابد من الاستقامة وصحة العمل، وأن نأتي البيوت من أبوابها.
الإيمان محور الأمانsize=3>
إن الأمن الذي تبحث عنه النفوس محوره الإيمان الذي مقره القلب وتستقيم على رأسه الجوارح، سواء كان ذلك فيما يتعلق بالنفس ومتطلباتها كالأمن الصحي والأمن النفسي والأمن الغذائي والأمن الاقتصادي والأمن الأخلاقي، أو ما يتعلق بالمجتمع وترابطه كالأمن في الأوطان والأمن على الأعراض والأمن على الأموال والممتلكات، أو ما يتعلق بالأمن على النفس من عقاب الله ونقمته بامتثال أمره وطاعة رسوله واتخاذ طريق المتقين مسلكاً واستجلاب رحمة الله، والأمن من عذابه في نار جهنم، هذه الحاجات وهذه الضرورات قد لا ندركها إلا بفقدان أو نقصان مرتبة من مراتب الأمن.. وفي حديث ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ”. رواه البخاري، وجاء في الأثر: “الصحة في الأبدان والأمن في الأوطان”.
والنفس لا تطمئن إلا إذا آمنت بقدر الله واستسلمت لقضائه سبحانه، ولا يمكن أن يسعد البشر إلا بإسلام الوجه لله عز وجل: ( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًاsize=3>) ، فالإسلام إنما هو لمصلحة النفس ولما يسعدها ويحقق لها الأمن بمفهومه الصحيح، بعكس الوعود والخيالات في الأنظمة هنا وهناك لعلمهم أن الأمن والأمان من المطالب الملحة للبشر في كل زمان ومكان، ولكنها لا تزيد على كونها شعارات وهتافات وتجارات عند هؤلاء المحترفين، يتاجرون بها على أدمغة البشر، وإلا ففاقد الشيء لا يعطيه.. وهؤلاء لم يمنعوا المعاصي ولا الفجور ولم يقيموا الدنيا على أساس من دين الله، وصدق من قال:
إذا الإيمان ضاع فلا أمان .. .. .. ولا دنيا لمن لم يحيي دينهsize=3>
يقول تعالى: ( فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَsize=3>)، ويقول سبحانه: ( وَلَو أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَsize=3> ) .
في بلاد الغرب وأمريكا وجدوا مجرمين متأصلين في الإجرام ومن أصحاب السوابق قد أسلموا داخل السجن فصلحوا ولم يعودوا للسجن بعد ما خرجوا منه، أما من خرج وهو على ديانته السابقة فإنه لا يلبث أن يعود إلى السجن مرات؛ ولذلك يوجهون الدعوات للمشرفين والدعاة المسلمين لزيارة السجون وإعطاء المحاضرات, ويقول بعض المسؤولين عن الأمن عندهم: إن الخلاص من الجريمة لا يكون إلا بالإسلام والعمل وفق منهجه. “وقد خرجت دراسات الغرب تقول: “إن المسلمين لا يعيشون الاضطرابات المتعددة التي وقع فيها أبناء الغرب”.
فالانسجام التام بين السنن الشرعية والسنن الكونية والروح والجسد وبين الظاهر والباطن والعلم والعمل والدنيا والآخرة والأرض والسماء وبين المخلوق والكون من حوله, كل هذا لا يمكن أن نجده إلا بعد الدخول في الإسلام وفهمه جيداً وتطبيقه, فلا تنافر ولا نفور بين الدين والدولة ولا بين الطاعات بعضها وبعض
الحدود راحة للنفسsize=3>
والحدود والتشريعات في الإسلام بمثابة راحة للنفس، ولا تكون إلا بالإيمان.. وإذا كان رخاء المجتمع لا يكون إلا بالأمان , فالأمان ثمرة من ثمار الإيمان, وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين, ودعوته كانت لتأصيل العقيدة والإيمان في النفوس بما يطمئنها ويريحها .
وفى الشرع سنجد الأصول الستة للإيمان عليها مدار أمن النفس وسعادتها في العاجل والآجل: فعقيدة التوحيد والخوف والرجاء … كل ذلك من شأنه أن يفترق به المسلم عن الكافر؛ يقول تعالى: ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ )size=3> ” البقرة: 155- 156- 157 ” .
فالرضا والاطمئنان يسببه الإيمان عند المؤمن بعكس صبر الكافر فهو بدون احتساب ويتشابه مع صبر البهائم لما يحمل عليها من أثقال, ثم الكافر دائم الجزع والتسخط لقضاء الله.
والإيمان لا يحقق الأمان فقط في الدنيا، وإنما تحقيقه لذلك في الآخرة أتم وأكمل؛ فالمؤمنون تطمئن قلوبهم يوم الفزع الأكبر, وهو قبل ذلك: “إن كان محسناً قال عجلونى عجلونى, وإن كان مسيئاً يصيح يا ويلتاه أين تذهبون بى فيسمعه كل شئ إلا الثقلين الإنس والجن ولوسمعوه لصعقواsize=3>”. رواه مسلم , وعندما يوضع في قبره ويرى منزلته تطمئن نفسه- كما ورد في حديث البراء بن عازب وغيره.
والأحكام الشرعية كثيرة وكلها من شأنها أن تشيع الأمن والأمان في النفس والمجتمع, ومن ذلك تحريم الإسلام للأمور التي تسبب معها الجريمة كالخمر والزنا والربا والميسر, وقد أعطى كل ذي حق حقه ومنع التعدي والظلم وقضى على كل الأمور التي تخل بالأمن, وكانت الحدود فيه بمثابة الروادع والزواجر والجوابر في نفس الوقت.
والقصاص ـ لا شك ـ من أسباب الاطمئنان في المجتمع: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)size=3> ” البقرة: 179 ” .
وقد حرم الإسلام أن يورد الإنسان نفسه موارد الهلكة أو يحملها فوق طاقتها ونهاه عن قتل نفسه: “من قتل نفسه بشيء فهو يجؤها به في نار جهنsize=3>م”. وهو في الصحيحين .
وفيما يتعلق بالمال أمر بالكتابة والإشهاد والعدالة وتحديد الأجل ومراقبة الله وتأدية الأمانة، فرأس المال جبان ولا يطمئن إلا بالأمان والقضاء على مثيري القلاقل, ولا أقوى من حكم الله ورسوله .
وتطبيق الشريعة من شانه أن يخيف من تسول له نفسه أن يعمل بمثل عملهم، ومن المعلوم أن النفس لا تنتج عملاً في جو مضطرب، وقد أمر المسلم أن يحصن ماله بالزكاة وليس بدفع أقساط التأمين .
والأحكام التفصيلية أيضاsize=3>
ولو تأملنا الأحكام التفصيلية لعلمنا كيف يتم تأمين النفوس من التأثيرات الخفية كالسحر ووساوس الشياطين بالمعوذتين وآية الكرسي وخواتيم سورة البقرة… والرضا والقناعة بما قسم الله، والأمن الأخلاقي المذكور في أحكام الاستئذان والحجاب… والأمن الصحي المتمثل في زيارة المريض والرقية والتداوي بالمباحات … وأمن العقيدة المذكور في مثل قوله سبحانه: (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)size=3>، والأمن الأسري الذي دلت عليه عشرات النصوص مثل: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًاsize=3>) و (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً)size=3>، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبى وقاص: “إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناسsize=3>” .
إن الأمن يحدث بالإيمان والتوبة ومجاهدة الكفار والتوكل على الله وبالتزام كل أوامره جل وعلا وكل آداب شرعه لأنها مبعث للأمن والراحة والاطمئنان في الحياة وبعد الممات، والإعراض عن ذكره سبحانه هو مبعث الخوف الحقيقي (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ أَو أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَsize=3>) وأمر الله سبحانه وبأسه الشديد لا يمنعه أجهزة الإنذار المبكر ولا الجيوش الجرارة، ولا كل مظاهر الأمن المادي، ومن تأمل بعين بصره أدرك حتما لا محالة أن الإيمان هو سبيل تحقيق الأمن والأمان في الدنيا والآخرة، للأفراد والدول والجماعات، فهيا نصبغ أنفسنا بصبغة الله ( وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةًsize=3>) ونطرح عن أنفسنا هذا الطغيان المادي الذي علق بقلوبنا وعقولنا .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.