تعدد الرؤى الشعرية في ديوان ‘القمر البعيد من حريتي’
[wpcc-script type=”5933092bddc42aedf2a37fa1-text/javascript”]
[wpcc-script src=”https://ajax.cloudflare.com/cdn-cgi/scripts/7089c43e/cloudflare-static/rocket-loader.min.js” data-cf-settings=”5933092bddc42aedf2a37fa1-|49″]
ينمو الشعري ويتشكل وينبني في نصوص ‘القمر البعيد من حريتي*’ للشاعر لقمان محمود في تعقبّ الأثر الاولي للمادة الكونية الحياتية التي تترسخ في لعبة انعكاسية يتوازن فيها الجذب والانجذاب وهي ترادف الذات في الذات الأخرى وذوبانها الحميمي بضوء الفكر والتخييل.
حتى تجسيد العلاقة الثنائية هذه وتجسيدها الكهرومغناطيسي الشعري في مرآة متناهية الذرات في الطاقة الاضائية للكلمة، إذ يستدعي الشاعر علامات التوحّد والريبة معاً في المجال الشعري الكوني الذي يدور في فلكه الشاعر الرائي الذي يكتشف في كل قوس من اقواس الكتابة ملاذا لاستنبات الروح والجسد فيها، يجد حجم المساحة والمادة والكتلة بين طاقة الروح وافتراضات الجسد المقيم فيها وبالعكس، إذ يتحول الشعر إلى حلم قرائن يتبادلها محرار التأثير الانفعالي ولحظات صيرورة الصورة الشعرية وبثها الفكري والوجداني بقدر استعداد الذات أو النفس المنفعلة بمراجعة فواعلها في النهل من مدارات المركز اللوغوس وتخصيبات الرؤيا وتحسس نبض المفردة الشعرية في منعطفات مركز الجذب الرؤيوي حول مدارات يرتكز عليها الشعري بروح ادبية عالية.
يقودنا الشاعر إلى مجرات تتبادل انساق الرؤى الكبيرة في جاذبيتها الأسلوبية، جاذبية العلامة الغرائبية والواقعية معاً، وينقطع إلى بذرات المدار الشعري الجاذب والمحموم بقوى التجاذب والتنافر والتفاعل والمقابسة والتناسخ والتسارع إلى الانوجاد في مركز المدار وعالم النص وفواعله اللغوية وتأطير العلاقة مع الاخر في حلقة أو دائرة جذب واحدة والتي يرمز لها بـ الاسم الموسوم (دلشا) التي هي حياته كلها في هذا الكتاب الشعري النوعي في مواقعة الحكاية الشعرية وتموضع الذات الشاعرة في بؤرتها النصيّة:
(لقد بكيتُ كثيراً/ لكنّ دموعي الان يابسة / وقلبي عصفور يعلو أكثر منك / واكثر من حقيقة الشجرة / لا أجامل فيك المستحيل / بل اجامل حياتي المقيدّة / ساعديني / ساعديني دلشا كي أتحرر منك ومني / ومن أشواقي المحاربة..ص5 اشواق محاربة) يغامر الشاعر في كشوفاته الشعرية واكتشافاته في الامتدادات الاسلوبية التي تدفع المؤثر الفكري والفلسفي في تصوراته إلى عقد علاقة ايقونية بين الرؤية البصرية والرؤيا الحلمية في تعيين جاذبية المفردة الحامل لشعرية الصورة والحلم معاً، ويبني وفق هذا التصور بلاغة الإشباع النفسي والإعلان بصيغة نبرية رمزية تفترض عالما متخيلا من عوالم البرزخ الذاتي الصوري والأركيولوجي والانطولوجي بين موجات وجودية وسوريالية يهدر بها المتخيل النصي الضاج بانعكاسات العقل الشعري الشخصي:
(واقفٌ بأعوامي الأخيرة / أسوّر الأغنيات كبستاني / لأمرأة من الفاكهة / لكن الهواء مرَّ أخيرا مرَّ كسؤال ازرق / فصرتُ أمشي…أمشي/ وما زلتُ أمشي على الماء / ولم أتعلم الغرق..ص7 الذي لم يتعلم الغرق).
تتقاذف الذات رؤى الآخر في منطقتين من الحياة، في الظّل الذي يزوغ في بالمكان لانتباهة حياته الداخلية، حياة الشاعر وحياة الذات الرائية معاً رائية المكان والحياة بطولها وعرضها، والمنطقة الثانية الغرفة التي تسكن فيها القبلة التي تنام على جدار، الجدار الذي تتكئ عليه- دلشا- دائماً، يفترض الشاعر هنا الانوجاد في المؤثر البصري التشكيلي إضافة إلى المؤثر المعرفي الاتصالي الذي ينقطع إلى برزخ الشاعر الرائي، الشاعر الحالم ‘اليسوعي’ الذي مشى فوق الماء، بالاشارة الى يسوع المسيح الذي مشى فوق الماء.. وتتبادل الإشارة اللفظية بين تموضعات الفكرة في مجرةّ الشعرية الضاجة بالرموز والاشارات الحاذقة التي تشتغل على مراكز الجذب الاشاري، والتمركز في قعر المجرة الشعرية: (هكذا أنت أيها الواقف، تدرِّب وقوفك على اصطياد ظّل لقامتِكَ فسهوتَ عن شجرة اصطادت المكان من ظلك، لتنتبه إلى دلشا وهي تعلم كلامك النعاس، كي تنام القبلة على الأرض… ص8) تمثلت شعرية هذا النص برؤيا التركيب الأيقوني البصري منطلقا الشاعر من رؤية سوسيوشعرية بوصفها بنية دالة مركبة تنتج مكوّناً شعريا تتلاقح في مجرته الرؤى المتداخلة للخطاب الشعري في مبنى التداخل والتخارج والبوح واستدعاء الاخر (هذا الذي لم يتعلم الغرق/ مازال يقول:/ تزورني دلشا كلّ نوم / لتسهر في احلامي / هي خرساء / وانا اعمى…ص8) يستعرض الشاعر ما يشبه بهجة الخسارة في تأثيث جوانية النص بمعامل المفارقة الشعرية في حركة تكاد تكون مركز التناسخ النصي داخل محيط النص وفي بؤره النصيّة وامتداداته الرؤيوية والدلالية ودوران العقل الشعري في الرؤى الشعرية التي يحاكيها بقوة التخييل وتأخذ الصور هنا تعاقدها وتآلفها ودورانها الغرائبي والعجائبي الذي يتسمّ بتمثيل عنصر المفارقة: ( تكاسل الحبُّ كمجدٍ سكران / في يأسه الأخير …ص10) (مجد سكران) إلى أن يفرْغ الشاعر مخزونه اللاشعور في معادل موضوعي ليقيم بنية تتعدد في منحنياتها التركيبية ويستدل منها على العنونة الرئيسية للديوان …(وسط ثرثرة ٍ خجولة / في سهرٍ خجول يؤاخي الفاجع / ويمتحن الذهول/ لكنني أُمهِّدُ كلَّ كذلك / وما يزاحمه من عزلة / متفكرا بالعدم / كي ارى القمر، البعيد حريتي / التي اساءت إلى طيشها / في لمعان الابد) يستهدف الشاعر الفكرة الكلية لعلاقة الزمن والوجود في أكثر من نصّ وتستدل ذاكرته إلى كشوفات الماضي وقراءة المستقبل إذ يمارس لعبة الرؤيا البرهانية والعرفانية في سطوع الإشارة اللفظية وتناثر ذراتها الاشعاعية وسط عالم من البنى المتضادة، وتحيل الصورة الترائية الاتية إلى تثبيت نداء بذبذبة خافتة تارة وصارخة تارة أخرى لخلق كيان صوري لرسالة النص أو فكرة الشاعر المفترضة المبطنة، إلى أن ينتهي العقل الشعري من معترك صياغة الفكرة الشعرية أو شعرنة الرسالة بروح ملسوعة: (عودي ايتها الجريحة / عودي، لتشلحي الحرب قليلا / هيّأت لكل جرح شفتين من فمي./ عودي، قبل أن يتسرب حنيني أكثر / جمَعتُ لكِ النجوم / نجمةً…. نجمةً/ حتى وقعت عليَّ السماء / غسلت الحرب / بسلام اسود / حتى اصبحت الرعشة بينها وبين السلّم ….ص11 حريق قلق).
تتبادل علاقات الغياب والحضور هنا في كشف المقموع والمسكوت عنه، ويكشف التحليل اللساني طبقات الغياب في افتراضها للغته الجارحة والنزوع نحو فكّ شفرة الناقص أو ‘الراسب التحتي’ حسب دريدا وتتعاظم صيغة النداء في استدعاء المعني بهذه المكاشفة التي تؤول إلى هذا الشعر الذي هو الاتصال الجدير بالحياة، في هذه المغامرة بهذا التصريح الوجودي الحاد والتعالي عليه، وهو فعل الحرية المسفوحة فوق الكون وفيه بالذهاب إلى مجاهيل وسبر الابعاد المجهولة للذات الاخرى، هو هذا القبض العنيد بقوة الأيروس على المصير والاعتراف الشخصي بوجود الاخر في حياة الشعر والشاعر معاً: (عودي / كي تقولي رغم هذه الحرب انا جميلة / لأقول: لأنني أُحبكِ / ع و د ي / كي أُقبلَّ الوطن في قدميكِ…. ص13) يميل الشاعر إلى فتح مجرته الشعرية إلى الدخول في منعطفات عديدة يؤول بالأسلوب إلى كشف المستويات الدلالية عبر مشهديات متسلسلة تتخذ لها أبعاداً فيزيقية وميتافيزيقية، وترى قراءتنا لهذه المشهديات بنى نصوصية تقرأ بشكل مشاهد، في أبراز عوالم حياتية متعددة، منها عالم المكان الخفي (زنزانات في مساماتي / تهتف للجسد : الله أبرتنا ايتها الدماء / وما من خيط سوى التراب ص17 دلشاستان) تبدو ظهورات العلامات النصيّة في هذه الصورة وكأنها حالة صمت، أو ما يسميه الناقد السوفيتي بوريس أوسبنسكي ‘المشهد الصامت’ فالشاعر يمعن في تبني رؤى الاختلاف في النسيج النصي من تمثله الحثيث لحدود التفلسف في الوجود وتعدد الموجودات (زنزانات في مساماتي) والجسد الوجود الواحد الذي يجتمع على أعضائه في الزمان والمكان وتعاضدهما وتواصل الجسد بحرية أعضائه وحركتها واحيانا في انفلاتها وإمساكها الشديد بالحرية، والقبض على الذكريات في صورة الآخر وإعلان النازع الشعوري العارم في طموح اللغة وتشظّي محمولاتها الاشارية في شذرات إيحائية ناطقة بقوة العاطفة والفكر والتخييل: (اربعةٌ…..خمسةُ……ستةٌ/ وأنا جيشٌ من الانتظار/ لأشمَّ الذكريات / حرامٌ يا دلشاستانتي / حرامٌ….حرام …ص18) تمتد الشذرات بجماليات بناها الاشارية إلى مفاصل شعرية يتابع عقد حلقاتها الشاعر في تثوير الحادثة النصية، وتشي النصوص في لغتها الإيحائية إلى بلوّرات نصيّة تتداخل فيما بينها في الرؤى والتركيب اللفظي والفكرة فكرة الشاعر اللحوحة على استنبات الحرية ومتابعته للنظرة المتعالية على الزمان الموضوعي، لأنّ الأشياء في تحوّل وتغيرّ، لأننا لا نستطيع عبور النهر مرتين حسب هيراقليطس- لكنّ الشاعر هنا يغامر بفكرته الكلية ويعبر الاف المرات إلى الضفة الأخرى، فهو موجود في كل زمان شعرا وفكرا يقظا، يتابع حريته في امتحانها الحياتي الحادّ: (أتابع حياتي / أنا النهر الجريح / في الأرض الميتة / لي رسالة الماء / اينما ذهبتُ ./ لي اثري … تمردتُ على سلالتي / لأحقق حسرة المياه / قلت لسلالتي: حسرةُ المياه هي اليابسة …ص21 امتحان الحرية).
تنضوي نصوص الشاعر إلى نواة الداخل الشخصي وقيمة الحياة وتموقع الذات داخل بنية اللغة إلى ما اسماه جورج باتاي بـ (التجربة الباطنية) التي يعني فيها عدم الانفصال عن الآخر بل التواصل معه وهي تتوجه الى الحياة بكل صورها وفضاءاتها، وتسعى الذات الشاعرة هنا إلى استعادة ذكرياتها وتاثيث حضورها الدائم والتجلي الكبير وسط مشهد الانفصال عن الاخر، أن الشاعر يختار قاموسه اللفظي في مشهديه الحالة الكلية التي تتلبسها ذاته وأناه في بودقة الشعر الذي يتحول فيه إلى وجود أو معنى من معاني الوجود: ‘كل ما أريده / ياسلالتي المياه: أن اموت وحيدا / ولا أكون معكم سجينا أبديا في البحر .. ص23 ‘
يخرج الشاعر إلى رؤية الحياة في وثوقيتها ومرجعية الأشياء فيها وحتى الاصوات، إلى تداعيات الإشارة اللغوية وكشف الدال عبر المدلول في توقد المخيال الشخصي وسحريته المفتوحة، بقدر تلبس اللغة لحظة التكوين والعودة إلى الذاكرة وتشكل الرؤى فيها ومتاهة الخيال مقابل انتعاش الذاكرة الشخصية للذات الشاعرة، وتتجلى في هذه المتاهة اسئلة المعنى وأنساق الحلم وأطياف المكان والزمان والألم ونزعة النداء والاستدعاء الدلالي، أي تحرير الوجع من سكونيته إلى تمرده ومرجعيته الجوهرية في ارتباطه الوجودي بكيان الشاعر واقامته على الأرض وتحديه للموت في مشهد فجائعي: ‘محتشدا بالموت / أصعد سلالم الغيبوبة / لأخبر أمي / كي لا تنتظر سنابلها : أمي لا تنتظري / فحنطتك ضدك / لكني محتشد بالموت …………
إلى أن يختم نصه السردي هذا بهذه الأيقونة الشعرية الرائعة: ‘ناديت بأعلى صوتي: أمي المطر ينزل بالمظلات والمظلة التي لم تفتح / ستكون النقطة التي أنتظرها …ص30 (سلالم لصعود الموتى) ..’ يتمثل الشاعر امتدادات النص السردي في تناوب الحلم والأسطورة والتاريخ واستبطان طوبوغرافية الحدث النصي في الشخوص التي يتراكب بها الفاعل اللغوي المتأمل عبر رؤى الذات الشاعرة التي تسرد بقواها الأيروسية كل التأملات والمواقف الفكرية والحكائية، إذ يستطيل السرد في بناه، حين يوغل الشاعر في مشاهده الكابوسية وتدوين حركة التشكيل الميتافيزيقي، وكأنها ‘ولائم محرّمة’ حسب تعبير الشاعر أوكتافيو باث بقوله ‘القصائد عبارة عن ولائم محرّمة .. ينقلها الشاعر في هذا النص إلى متاهة شعرية فيها الملفوظات الدلالية عبر التقابلات التركيبية والزمنية والسردية وفضاء الرؤيا والذاكرة والتاريخ والمكان الذي يتبين في صورته كأيقونة تحقق فضاء النص في شعريته الطافية والغاطسة معا، إذ ينفتح الفضاء الشعري على كل الأنساق والبنى الدلالية والصوتية والوظيفة الشعرية عبر التوتر الشديد بين قواه المتنافرة والمتعارضة والتي بوساطتها يلتقط الشاعر نقاط البنى العميقة للنص وتفجر المعاني فيه وتشكلاته: ‘فبدل أن أرى نفسي كنت أرى أبي، فتذكرت أطفال طفولتي طفلا طفلا، حتى أني سمعت نفسي أردد أغنية الطفولة والخاصة برؤية الآباء، فرددت طفولتي حرفا،حرفا، على أبٍ يقلدُني في المرآة، فصرت أغني: أبي أسرِق الماء، لأكون نهراً، ثم اِلتفتٌّ حولي، لم أجد أمي، فصرتٌ أخبط يدي في المرآة، ثم رأسي، حتى ظننتُ أن جسمي أيادٍ لا تحصى، فصرتُ أخبط أخبط حتى سال مني ماء ُ كثيرُ ص27.
يحرص الشاعر على تعبئة النص بمنحنيات سينمية تتعدد فيها بنى التضاد برشاقة السرد الذي ينفتح على وحدات متعددة..
يدفع الشاعر بأوجه النصوص إلى الايحاء والمشاكسة والانتقال بهذين المستويين إلى جوانية النصوص، حيث تتعدد المستويات التشاكلية التي يستمر في تعددها أنساقا شعرية يشتغل في تنويرها في الحياة ومن الحياة، ‘أن كل شي لدى الشاعر يبدأ من الحياة حسب تعبير الناقد حاتم الصكر’، وهذا ما ينطبق كليا على الشاعر لقمان محمود في نصوصه هذه وهذه السمة الغالبة هي ما تمنح للنص انفتاحه على الأجناس الفنية والأدبية الأخرى وتنافذها في فضائه الدلالي والبصري والنصي في تجليات البنى الشعرية العميقة فيه، أن شفرات الجهاز اللغوي مبتدعة بقوة التخييل، فالشاعر يمتلك هذه الخاصية بشساعة الرؤيا وتتمظهر هذه المتسعة في مجرة النص عبر تجليات بناه الشعرية الكثيفة في تحولاتها ومتواليتها الجوهرية الذهنية، بحيث يحيل النص كله إلى متن، أو متون تتجاور في علاقاتها الحسية والأدائية والتركيبية والدلالية:
‘تبقى الفراشة أُمية ً / حتى تتعلم قراءة النار / دون أن تحترق.. ص 31- جسارة السر’ في هذه المدونة ثمة بيان شعري ينحو منحى الإعلان في بناه اللفظية، من هنا أرى تطابق قول فيلسوف اللسان – رولان بارت – ‘ لايوجد لسان مكتوب دون اعلان – فللغة هنا اعلان شديد التكثيف ‘لغة أشتقت الكتابة لتكون لساناً’: ‘تذكرّ العصفور آثامه / وهو يعددّ / ثمار الشجرة’. تتعدد بنى التشكل النصي لتتعدد المعاني وتتفجر في مساحة الملفوظة وشعريتها التي يضخها الشاعر في شكل موجات كهرومغناطيسية شعرية في تبادل البنى الاستعارية، يتوجه الشاعر بخطابه الشعري بقوة اللغة وميكانزيم الانزياح فيها لينتج بنى بلاغية تحوّل الملفوظات إلى تركيبات بنيوية تتضاد في تشكلاتها الرؤيوية والدلالية والبصرية، فالشاعر هنا راءٍ من طراز معرفي وعرفاني حاذق يتشظى نصه في فاعلية الوظيفة الشعرية حتى على مستوى التجريد الذي ينبني أو يتمظهر في فاعلية حركة الجهاز اللغوي وميكانزيم الازاحة أو منظومة الأشارات المزاحة فيه: ‘ما أتذكره أيها الليل :/ تنساه دائما- على طاولتي – / ماأكتبه من نهار / تمحوه دائما- بنجومك./ فماذا بوسعي أيها الليل: الطاولة تنطقُ/ ومكتبتي تبكي كتاباً.. كتاباً.. ص35 سيرة الليل’. هكذا يظل الشعر متفوقاً بعافية التخييل، ولأنهُ استعارة، وتخييل على التخييل (حسب تعبير الشاعر محمود درويش)، يتوغل الشاعر لقمان محمود في استجلاء شعرية النص وحفرياته بقوة المخيلة وأسئلة الحياة، وأسئلة الشعر المفتوحة، كأننا نقرأ سيرة شعرية كاملة لحياة الشاعر التي قد صنعها وأبتدعها بالتخييل الشديد الذي يصنع الأحداث، الحياة السيرة ‘الحياة سيرة مروية بلسان مخبول مملوءة بالصخب والعنف وهي لاتعني شيئاً’ هذه الابيات مستعارة من ‘ماكبث شكسبير’ ففي معترك هذا الوجود اللغز، لكنها في الوجود الشعري للشاعر لقمان محمود تساوي الدنيا كلها وهي مقابل دلشا كيان درامي كوني شعري ميتاجمالي حين يتماهى الشاعر مع لسانه المحتدم فهو وريث المكان الذات الشخصي الذي يتشظى ذوات وحكايات وشخصيات في نصوصه المشبعة بلغته المشهدية، هي المكان الحميمي وحياته الضاجة في كل نصوص الكتاب وبخاصة ‘ قالت دلشا ومنها: ‘الحجلُ، ألم كردي متنقل / في القفص الصدري / لعظام كردستان ص39 ‘ ومن نصه ‘أسرار الشتاء، بعض أسراري ‘ [ أراقب الثلج/ لأحسسّ بألمه وهو يذوب ص45 وتتجاور وتأتلف بنيات النصوص المتلاحقة في الديوان في بؤرها النصية بهذه المستويات الدلالية المفتوحة التي تُنبئ عنوناتها بحمولات دلالية مثخنة بالأنزياحات اللفظية والجمالية، ومن نصه الأثير الرائع ‘وطني دلشاستان’ نقتطف هذه الصورة المشبعة بالروح الأيروسية العميقة: ‘دلشا ‘ كم أنا بحاجة إلى أن أضع رأسي على صدرك لأستنشق الحب من اعماقهِ. / كم أنا بحاجة إلى أن أضع رأسي على صدرك / لتنام فيّ لأرجع عاشقا كما كنت / كم أنا بحاجة إلى أن أضع رأسي على صدرك / لترفرف أعلام فرحي في وطني دلشاستان .. ص73’
*الكتاب: القمر البعيد من حريتي، طبع ونشر دار سردم للطباعة والنشر ط1 2012
* شاعر عراقي
حتى تجسيد العلاقة الثنائية هذه وتجسيدها الكهرومغناطيسي الشعري في مرآة متناهية الذرات في الطاقة الاضائية للكلمة، إذ يستدعي الشاعر علامات التوحّد والريبة معاً في المجال الشعري الكوني الذي يدور في فلكه الشاعر الرائي الذي يكتشف في كل قوس من اقواس الكتابة ملاذا لاستنبات الروح والجسد فيها، يجد حجم المساحة والمادة والكتلة بين طاقة الروح وافتراضات الجسد المقيم فيها وبالعكس، إذ يتحول الشعر إلى حلم قرائن يتبادلها محرار التأثير الانفعالي ولحظات صيرورة الصورة الشعرية وبثها الفكري والوجداني بقدر استعداد الذات أو النفس المنفعلة بمراجعة فواعلها في النهل من مدارات المركز اللوغوس وتخصيبات الرؤيا وتحسس نبض المفردة الشعرية في منعطفات مركز الجذب الرؤيوي حول مدارات يرتكز عليها الشعري بروح ادبية عالية.
يقودنا الشاعر إلى مجرات تتبادل انساق الرؤى الكبيرة في جاذبيتها الأسلوبية، جاذبية العلامة الغرائبية والواقعية معاً، وينقطع إلى بذرات المدار الشعري الجاذب والمحموم بقوى التجاذب والتنافر والتفاعل والمقابسة والتناسخ والتسارع إلى الانوجاد في مركز المدار وعالم النص وفواعله اللغوية وتأطير العلاقة مع الاخر في حلقة أو دائرة جذب واحدة والتي يرمز لها بـ الاسم الموسوم (دلشا) التي هي حياته كلها في هذا الكتاب الشعري النوعي في مواقعة الحكاية الشعرية وتموضع الذات الشاعرة في بؤرتها النصيّة:
(لقد بكيتُ كثيراً/ لكنّ دموعي الان يابسة / وقلبي عصفور يعلو أكثر منك / واكثر من حقيقة الشجرة / لا أجامل فيك المستحيل / بل اجامل حياتي المقيدّة / ساعديني / ساعديني دلشا كي أتحرر منك ومني / ومن أشواقي المحاربة..ص5 اشواق محاربة) يغامر الشاعر في كشوفاته الشعرية واكتشافاته في الامتدادات الاسلوبية التي تدفع المؤثر الفكري والفلسفي في تصوراته إلى عقد علاقة ايقونية بين الرؤية البصرية والرؤيا الحلمية في تعيين جاذبية المفردة الحامل لشعرية الصورة والحلم معاً، ويبني وفق هذا التصور بلاغة الإشباع النفسي والإعلان بصيغة نبرية رمزية تفترض عالما متخيلا من عوالم البرزخ الذاتي الصوري والأركيولوجي والانطولوجي بين موجات وجودية وسوريالية يهدر بها المتخيل النصي الضاج بانعكاسات العقل الشعري الشخصي:
(واقفٌ بأعوامي الأخيرة / أسوّر الأغنيات كبستاني / لأمرأة من الفاكهة / لكن الهواء مرَّ أخيرا مرَّ كسؤال ازرق / فصرتُ أمشي…أمشي/ وما زلتُ أمشي على الماء / ولم أتعلم الغرق..ص7 الذي لم يتعلم الغرق).
تتقاذف الذات رؤى الآخر في منطقتين من الحياة، في الظّل الذي يزوغ في بالمكان لانتباهة حياته الداخلية، حياة الشاعر وحياة الذات الرائية معاً رائية المكان والحياة بطولها وعرضها، والمنطقة الثانية الغرفة التي تسكن فيها القبلة التي تنام على جدار، الجدار الذي تتكئ عليه- دلشا- دائماً، يفترض الشاعر هنا الانوجاد في المؤثر البصري التشكيلي إضافة إلى المؤثر المعرفي الاتصالي الذي ينقطع إلى برزخ الشاعر الرائي، الشاعر الحالم ‘اليسوعي’ الذي مشى فوق الماء، بالاشارة الى يسوع المسيح الذي مشى فوق الماء.. وتتبادل الإشارة اللفظية بين تموضعات الفكرة في مجرةّ الشعرية الضاجة بالرموز والاشارات الحاذقة التي تشتغل على مراكز الجذب الاشاري، والتمركز في قعر المجرة الشعرية: (هكذا أنت أيها الواقف، تدرِّب وقوفك على اصطياد ظّل لقامتِكَ فسهوتَ عن شجرة اصطادت المكان من ظلك، لتنتبه إلى دلشا وهي تعلم كلامك النعاس، كي تنام القبلة على الأرض… ص8) تمثلت شعرية هذا النص برؤيا التركيب الأيقوني البصري منطلقا الشاعر من رؤية سوسيوشعرية بوصفها بنية دالة مركبة تنتج مكوّناً شعريا تتلاقح في مجرته الرؤى المتداخلة للخطاب الشعري في مبنى التداخل والتخارج والبوح واستدعاء الاخر (هذا الذي لم يتعلم الغرق/ مازال يقول:/ تزورني دلشا كلّ نوم / لتسهر في احلامي / هي خرساء / وانا اعمى…ص8) يستعرض الشاعر ما يشبه بهجة الخسارة في تأثيث جوانية النص بمعامل المفارقة الشعرية في حركة تكاد تكون مركز التناسخ النصي داخل محيط النص وفي بؤره النصيّة وامتداداته الرؤيوية والدلالية ودوران العقل الشعري في الرؤى الشعرية التي يحاكيها بقوة التخييل وتأخذ الصور هنا تعاقدها وتآلفها ودورانها الغرائبي والعجائبي الذي يتسمّ بتمثيل عنصر المفارقة: ( تكاسل الحبُّ كمجدٍ سكران / في يأسه الأخير …ص10) (مجد سكران) إلى أن يفرْغ الشاعر مخزونه اللاشعور في معادل موضوعي ليقيم بنية تتعدد في منحنياتها التركيبية ويستدل منها على العنونة الرئيسية للديوان …(وسط ثرثرة ٍ خجولة / في سهرٍ خجول يؤاخي الفاجع / ويمتحن الذهول/ لكنني أُمهِّدُ كلَّ كذلك / وما يزاحمه من عزلة / متفكرا بالعدم / كي ارى القمر، البعيد حريتي / التي اساءت إلى طيشها / في لمعان الابد) يستهدف الشاعر الفكرة الكلية لعلاقة الزمن والوجود في أكثر من نصّ وتستدل ذاكرته إلى كشوفات الماضي وقراءة المستقبل إذ يمارس لعبة الرؤيا البرهانية والعرفانية في سطوع الإشارة اللفظية وتناثر ذراتها الاشعاعية وسط عالم من البنى المتضادة، وتحيل الصورة الترائية الاتية إلى تثبيت نداء بذبذبة خافتة تارة وصارخة تارة أخرى لخلق كيان صوري لرسالة النص أو فكرة الشاعر المفترضة المبطنة، إلى أن ينتهي العقل الشعري من معترك صياغة الفكرة الشعرية أو شعرنة الرسالة بروح ملسوعة: (عودي ايتها الجريحة / عودي، لتشلحي الحرب قليلا / هيّأت لكل جرح شفتين من فمي./ عودي، قبل أن يتسرب حنيني أكثر / جمَعتُ لكِ النجوم / نجمةً…. نجمةً/ حتى وقعت عليَّ السماء / غسلت الحرب / بسلام اسود / حتى اصبحت الرعشة بينها وبين السلّم ….ص11 حريق قلق).
تتبادل علاقات الغياب والحضور هنا في كشف المقموع والمسكوت عنه، ويكشف التحليل اللساني طبقات الغياب في افتراضها للغته الجارحة والنزوع نحو فكّ شفرة الناقص أو ‘الراسب التحتي’ حسب دريدا وتتعاظم صيغة النداء في استدعاء المعني بهذه المكاشفة التي تؤول إلى هذا الشعر الذي هو الاتصال الجدير بالحياة، في هذه المغامرة بهذا التصريح الوجودي الحاد والتعالي عليه، وهو فعل الحرية المسفوحة فوق الكون وفيه بالذهاب إلى مجاهيل وسبر الابعاد المجهولة للذات الاخرى، هو هذا القبض العنيد بقوة الأيروس على المصير والاعتراف الشخصي بوجود الاخر في حياة الشعر والشاعر معاً: (عودي / كي تقولي رغم هذه الحرب انا جميلة / لأقول: لأنني أُحبكِ / ع و د ي / كي أُقبلَّ الوطن في قدميكِ…. ص13) يميل الشاعر إلى فتح مجرته الشعرية إلى الدخول في منعطفات عديدة يؤول بالأسلوب إلى كشف المستويات الدلالية عبر مشهديات متسلسلة تتخذ لها أبعاداً فيزيقية وميتافيزيقية، وترى قراءتنا لهذه المشهديات بنى نصوصية تقرأ بشكل مشاهد، في أبراز عوالم حياتية متعددة، منها عالم المكان الخفي (زنزانات في مساماتي / تهتف للجسد : الله أبرتنا ايتها الدماء / وما من خيط سوى التراب ص17 دلشاستان) تبدو ظهورات العلامات النصيّة في هذه الصورة وكأنها حالة صمت، أو ما يسميه الناقد السوفيتي بوريس أوسبنسكي ‘المشهد الصامت’ فالشاعر يمعن في تبني رؤى الاختلاف في النسيج النصي من تمثله الحثيث لحدود التفلسف في الوجود وتعدد الموجودات (زنزانات في مساماتي) والجسد الوجود الواحد الذي يجتمع على أعضائه في الزمان والمكان وتعاضدهما وتواصل الجسد بحرية أعضائه وحركتها واحيانا في انفلاتها وإمساكها الشديد بالحرية، والقبض على الذكريات في صورة الآخر وإعلان النازع الشعوري العارم في طموح اللغة وتشظّي محمولاتها الاشارية في شذرات إيحائية ناطقة بقوة العاطفة والفكر والتخييل: (اربعةٌ…..خمسةُ……ستةٌ/ وأنا جيشٌ من الانتظار/ لأشمَّ الذكريات / حرامٌ يا دلشاستانتي / حرامٌ….حرام …ص18) تمتد الشذرات بجماليات بناها الاشارية إلى مفاصل شعرية يتابع عقد حلقاتها الشاعر في تثوير الحادثة النصية، وتشي النصوص في لغتها الإيحائية إلى بلوّرات نصيّة تتداخل فيما بينها في الرؤى والتركيب اللفظي والفكرة فكرة الشاعر اللحوحة على استنبات الحرية ومتابعته للنظرة المتعالية على الزمان الموضوعي، لأنّ الأشياء في تحوّل وتغيرّ، لأننا لا نستطيع عبور النهر مرتين حسب هيراقليطس- لكنّ الشاعر هنا يغامر بفكرته الكلية ويعبر الاف المرات إلى الضفة الأخرى، فهو موجود في كل زمان شعرا وفكرا يقظا، يتابع حريته في امتحانها الحياتي الحادّ: (أتابع حياتي / أنا النهر الجريح / في الأرض الميتة / لي رسالة الماء / اينما ذهبتُ ./ لي اثري … تمردتُ على سلالتي / لأحقق حسرة المياه / قلت لسلالتي: حسرةُ المياه هي اليابسة …ص21 امتحان الحرية).
تنضوي نصوص الشاعر إلى نواة الداخل الشخصي وقيمة الحياة وتموقع الذات داخل بنية اللغة إلى ما اسماه جورج باتاي بـ (التجربة الباطنية) التي يعني فيها عدم الانفصال عن الآخر بل التواصل معه وهي تتوجه الى الحياة بكل صورها وفضاءاتها، وتسعى الذات الشاعرة هنا إلى استعادة ذكرياتها وتاثيث حضورها الدائم والتجلي الكبير وسط مشهد الانفصال عن الاخر، أن الشاعر يختار قاموسه اللفظي في مشهديه الحالة الكلية التي تتلبسها ذاته وأناه في بودقة الشعر الذي يتحول فيه إلى وجود أو معنى من معاني الوجود: ‘كل ما أريده / ياسلالتي المياه: أن اموت وحيدا / ولا أكون معكم سجينا أبديا في البحر .. ص23 ‘
يخرج الشاعر إلى رؤية الحياة في وثوقيتها ومرجعية الأشياء فيها وحتى الاصوات، إلى تداعيات الإشارة اللغوية وكشف الدال عبر المدلول في توقد المخيال الشخصي وسحريته المفتوحة، بقدر تلبس اللغة لحظة التكوين والعودة إلى الذاكرة وتشكل الرؤى فيها ومتاهة الخيال مقابل انتعاش الذاكرة الشخصية للذات الشاعرة، وتتجلى في هذه المتاهة اسئلة المعنى وأنساق الحلم وأطياف المكان والزمان والألم ونزعة النداء والاستدعاء الدلالي، أي تحرير الوجع من سكونيته إلى تمرده ومرجعيته الجوهرية في ارتباطه الوجودي بكيان الشاعر واقامته على الأرض وتحديه للموت في مشهد فجائعي: ‘محتشدا بالموت / أصعد سلالم الغيبوبة / لأخبر أمي / كي لا تنتظر سنابلها : أمي لا تنتظري / فحنطتك ضدك / لكني محتشد بالموت …………
إلى أن يختم نصه السردي هذا بهذه الأيقونة الشعرية الرائعة: ‘ناديت بأعلى صوتي: أمي المطر ينزل بالمظلات والمظلة التي لم تفتح / ستكون النقطة التي أنتظرها …ص30 (سلالم لصعود الموتى) ..’ يتمثل الشاعر امتدادات النص السردي في تناوب الحلم والأسطورة والتاريخ واستبطان طوبوغرافية الحدث النصي في الشخوص التي يتراكب بها الفاعل اللغوي المتأمل عبر رؤى الذات الشاعرة التي تسرد بقواها الأيروسية كل التأملات والمواقف الفكرية والحكائية، إذ يستطيل السرد في بناه، حين يوغل الشاعر في مشاهده الكابوسية وتدوين حركة التشكيل الميتافيزيقي، وكأنها ‘ولائم محرّمة’ حسب تعبير الشاعر أوكتافيو باث بقوله ‘القصائد عبارة عن ولائم محرّمة .. ينقلها الشاعر في هذا النص إلى متاهة شعرية فيها الملفوظات الدلالية عبر التقابلات التركيبية والزمنية والسردية وفضاء الرؤيا والذاكرة والتاريخ والمكان الذي يتبين في صورته كأيقونة تحقق فضاء النص في شعريته الطافية والغاطسة معا، إذ ينفتح الفضاء الشعري على كل الأنساق والبنى الدلالية والصوتية والوظيفة الشعرية عبر التوتر الشديد بين قواه المتنافرة والمتعارضة والتي بوساطتها يلتقط الشاعر نقاط البنى العميقة للنص وتفجر المعاني فيه وتشكلاته: ‘فبدل أن أرى نفسي كنت أرى أبي، فتذكرت أطفال طفولتي طفلا طفلا، حتى أني سمعت نفسي أردد أغنية الطفولة والخاصة برؤية الآباء، فرددت طفولتي حرفا،حرفا، على أبٍ يقلدُني في المرآة، فصرت أغني: أبي أسرِق الماء، لأكون نهراً، ثم اِلتفتٌّ حولي، لم أجد أمي، فصرتٌ أخبط يدي في المرآة، ثم رأسي، حتى ظننتُ أن جسمي أيادٍ لا تحصى، فصرتُ أخبط أخبط حتى سال مني ماء ُ كثيرُ ص27.
يحرص الشاعر على تعبئة النص بمنحنيات سينمية تتعدد فيها بنى التضاد برشاقة السرد الذي ينفتح على وحدات متعددة..
يدفع الشاعر بأوجه النصوص إلى الايحاء والمشاكسة والانتقال بهذين المستويين إلى جوانية النصوص، حيث تتعدد المستويات التشاكلية التي يستمر في تعددها أنساقا شعرية يشتغل في تنويرها في الحياة ومن الحياة، ‘أن كل شي لدى الشاعر يبدأ من الحياة حسب تعبير الناقد حاتم الصكر’، وهذا ما ينطبق كليا على الشاعر لقمان محمود في نصوصه هذه وهذه السمة الغالبة هي ما تمنح للنص انفتاحه على الأجناس الفنية والأدبية الأخرى وتنافذها في فضائه الدلالي والبصري والنصي في تجليات البنى الشعرية العميقة فيه، أن شفرات الجهاز اللغوي مبتدعة بقوة التخييل، فالشاعر يمتلك هذه الخاصية بشساعة الرؤيا وتتمظهر هذه المتسعة في مجرة النص عبر تجليات بناه الشعرية الكثيفة في تحولاتها ومتواليتها الجوهرية الذهنية، بحيث يحيل النص كله إلى متن، أو متون تتجاور في علاقاتها الحسية والأدائية والتركيبية والدلالية:
‘تبقى الفراشة أُمية ً / حتى تتعلم قراءة النار / دون أن تحترق.. ص 31- جسارة السر’ في هذه المدونة ثمة بيان شعري ينحو منحى الإعلان في بناه اللفظية، من هنا أرى تطابق قول فيلسوف اللسان – رولان بارت – ‘ لايوجد لسان مكتوب دون اعلان – فللغة هنا اعلان شديد التكثيف ‘لغة أشتقت الكتابة لتكون لساناً’: ‘تذكرّ العصفور آثامه / وهو يعددّ / ثمار الشجرة’. تتعدد بنى التشكل النصي لتتعدد المعاني وتتفجر في مساحة الملفوظة وشعريتها التي يضخها الشاعر في شكل موجات كهرومغناطيسية شعرية في تبادل البنى الاستعارية، يتوجه الشاعر بخطابه الشعري بقوة اللغة وميكانزيم الانزياح فيها لينتج بنى بلاغية تحوّل الملفوظات إلى تركيبات بنيوية تتضاد في تشكلاتها الرؤيوية والدلالية والبصرية، فالشاعر هنا راءٍ من طراز معرفي وعرفاني حاذق يتشظى نصه في فاعلية الوظيفة الشعرية حتى على مستوى التجريد الذي ينبني أو يتمظهر في فاعلية حركة الجهاز اللغوي وميكانزيم الازاحة أو منظومة الأشارات المزاحة فيه: ‘ما أتذكره أيها الليل :/ تنساه دائما- على طاولتي – / ماأكتبه من نهار / تمحوه دائما- بنجومك./ فماذا بوسعي أيها الليل: الطاولة تنطقُ/ ومكتبتي تبكي كتاباً.. كتاباً.. ص35 سيرة الليل’. هكذا يظل الشعر متفوقاً بعافية التخييل، ولأنهُ استعارة، وتخييل على التخييل (حسب تعبير الشاعر محمود درويش)، يتوغل الشاعر لقمان محمود في استجلاء شعرية النص وحفرياته بقوة المخيلة وأسئلة الحياة، وأسئلة الشعر المفتوحة، كأننا نقرأ سيرة شعرية كاملة لحياة الشاعر التي قد صنعها وأبتدعها بالتخييل الشديد الذي يصنع الأحداث، الحياة السيرة ‘الحياة سيرة مروية بلسان مخبول مملوءة بالصخب والعنف وهي لاتعني شيئاً’ هذه الابيات مستعارة من ‘ماكبث شكسبير’ ففي معترك هذا الوجود اللغز، لكنها في الوجود الشعري للشاعر لقمان محمود تساوي الدنيا كلها وهي مقابل دلشا كيان درامي كوني شعري ميتاجمالي حين يتماهى الشاعر مع لسانه المحتدم فهو وريث المكان الذات الشخصي الذي يتشظى ذوات وحكايات وشخصيات في نصوصه المشبعة بلغته المشهدية، هي المكان الحميمي وحياته الضاجة في كل نصوص الكتاب وبخاصة ‘ قالت دلشا ومنها: ‘الحجلُ، ألم كردي متنقل / في القفص الصدري / لعظام كردستان ص39 ‘ ومن نصه ‘أسرار الشتاء، بعض أسراري ‘ [ أراقب الثلج/ لأحسسّ بألمه وهو يذوب ص45 وتتجاور وتأتلف بنيات النصوص المتلاحقة في الديوان في بؤرها النصية بهذه المستويات الدلالية المفتوحة التي تُنبئ عنوناتها بحمولات دلالية مثخنة بالأنزياحات اللفظية والجمالية، ومن نصه الأثير الرائع ‘وطني دلشاستان’ نقتطف هذه الصورة المشبعة بالروح الأيروسية العميقة: ‘دلشا ‘ كم أنا بحاجة إلى أن أضع رأسي على صدرك لأستنشق الحب من اعماقهِ. / كم أنا بحاجة إلى أن أضع رأسي على صدرك / لتنام فيّ لأرجع عاشقا كما كنت / كم أنا بحاجة إلى أن أضع رأسي على صدرك / لترفرف أعلام فرحي في وطني دلشاستان .. ص73’
*الكتاب: القمر البعيد من حريتي، طبع ونشر دار سردم للطباعة والنشر ط1 2012
* شاعر عراقي
شاكر مجيد سيفو
Source: alghad.com