
القاهرة – المصائب لا تأتي فرادى، ربما تنطبق تلك المقولة عند الحديث عن أخطر الأزمات التي تهدد المصريين مستقبلا، فمع تهديدات نقص المياه إثر فشل مفاوضات سد النهضة الإثيوبي، هناك أيضا التغير المناخي الذي يفاقم من الأزمة إلى درجة تهدد حياة أكثر من 100 مليون نسمة.
ففي صيف لم يتكرر منذ سنوات، يعاني المصريون في مواجهة موجة شديدة الحرارة، تتخطى 45 درجة مئوية جنوب البلاد، ويقول خبراء في المناخ إن هذا يؤكد أن مصر أصبحت من دول المناخ المداري، وهو ما سيؤثر سلبا على الاقتصاد، خاصة من ناحية الزراعة، فضلا عن مخاوف حول غرق الأطراف الشمالية من الدلتا.
وفي حين ينتظر المصريون المفتاح السحري لحل أزمة مفاوضات سد النهضة، تحذر دراسات دولية أن مصر قد تواجه ندرة شديدة في المياه خلال العقد القادم، تضطرها إلى استيراد كميات كبيرة من المياه.
ووفق دراسة جديدة لباحثين من قسم الهندسة المدنية والبيئية في “معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا” (Massachusetts Institute of Technology) المعروف اختصارا “إم آي تي” (MIT) فإن مصر ستستورد من المياه أكثر مما يوفره النيل إذا لم يتم إجراء تغييرات.
النمو السكاني والتوسع الاقتصادي ساهما في زيادة الطلب بقوة على الماء بعيدا عن استخدامات الزراعة الاعتيادية التي تعد قطاعا مهما بالاقتصاد المصري، والذي يستهلك ما يقرب من 90% من مياه نهر النيل، بحسب البيان الصادر عن الدراسة والمنشور على موقع “فيز دوت أورغ” (Phys.org).
ماء وغذاء
لكن السياسات الزراعية الخاطئة في مصر على مدار عقود طويلة أدت -بحسب التقرير وخبراء تحدثوا للجزيرة نت- إلى زيادة استهلاك المياه كالتوسع في زراعة محاصيل شرهة للمياه، واستمرار الري بالأساليب التقليدية (الغمر).
وفي حال لم تصحح القاهرة تلك السياسات، وتحل أزمة سد النهضة، وتسيطر على النمو السكاني المطرد، فإن مصر ستكون بين خيارين، إما شراء المياه من جيرانها أو استيراد الغذاء من الخارج بكميات أكبر تتجاوز النسبة الحالية وهي 60%، بحسب موقع مركز المعلومات التابع لمجلس الوزراء.
وتعتبر مصر أكبر مستورد للقمح في العالم، إذ تستورد أكثر من 10 ملايين طن، تمثل 58% من استهلاكها الكلي، كما تستورد 50% من الذرة، و87% من زيت الطعام، و30% من السكر، و90% من الفول، و99% من العدس، و49% من اللحوم الحمراء، و15% من الأسماك.
من ناحية أخرى، توقّعت الدراسة أنه في غضون عقد من الزمن ستضطر مصر إلى استيراد كمية من المياه، قد تصل إلى حد ما يصلها من مياه النيل.
خيارات صعبة
نقص المياه في مصر أمر واقع وليس مستقبليا، بحسب جمال صيام أستاذ الاقتصاد الزراعي بكلية الزراعة بجامعة القاهرة، حيث دخلت مصر دائرة الفقر المائي الذي حددته الأمم المتحدة بـ 1000 متر مكعب لكل فرد سنويا، إذ تصل حصة المواطن أقل من 600 متر مكعب منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، ومن المتوقع أن تقل بمرور الوقت مع استمرار زيادة السكان وثبات حصة البلاد من مياه نهر النيل.
وأكد صيام -في تصريحات للجزيرة نت- أن الزراعة تستهلك نحو 60 مليار متر مكعب، وهو الجزء الأكبر من مجمل موارد المياه البالغة نحو 80 مليار متر مكعب، وهي عبارة عن 55.5 مليار متر مكعب حصة مصر من مياه النيل، و4.5 مليارات متر مكعب مياه جوفية، و20 مليار متر مكعب نتيجة إعادة استخدام مياه الصرف الزراعي والصحي.
وتوقع أستاذ الاقتصاد الزراعي أن تضطر الحكومة إلى استخدام مياه الصرف الزراعي والصحي من 3 إلى 4 مرات مستقبلا، مشيرا إلى ضرورة انتهاج سياسة جديدة في ري الأراضي الزراعية واستبدال الري بالغمر بالري بطريقة الرش.
ولكن صيام استبعد أن يتحول الفلاح إلى الري الحديث قريبا لعدة أسباب، على رأسها التكلفة الباهظة، إذ تتراوح ما بين 40 و50 ألف جنيه (الدولار يساوي 15.7 جنيها) للفدان الواحد، وعدم وجود خبرات سابقة في كيفية اتباع تلك الطرق التي تحتاج إلى معادلات محسوبة لري كل محصول.
وانتهى إلى أنه في ظل هذه التحديات فإن مصر أمام خيارين كلاهما مر، إما تستورد الغذاء بنسب أكبر من النسبة الحالية بعد تقليص زراعة عدد من المحاصيل المستهلكة بشراهة للمياه، وإما تشتري المياه “ولا أرجو أن نصل لهذا الخيار” بحسب وصفه.
أزمة عالمية
لكن حتى مع اتباع توصيات الخبراء والدراسات لتعظيم الاستفادة من الموارد المائية من خلال ترشيد الاستهلاك وتغيير السياسات الزراعية، وبفرض التوصل لاتفاق مع إثيوبيا بشأن سد النهضة، تبقى ظاهرة التغير المناخي عائقا جديدا على المستوى المائي والغذائي لمصر.
إذ وصف تقرير أممي، صدر أمس الاثنين، التغيرات المناخية في العالم بغير المسبوقة وحذر من ارتفاع درجات الحرارة، وهو ما اعتبره الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بمثابة “إنذار أحمر” وأشار التقرير إلى ارتفاع أسرع من المتوقع لدرجات الحرارة سوف تستمر تداعياته آلاف السنين.
وأوضح الخبراء أن الحرارة في العالم سترتفع بواقع 1.5 درجة مئوية عما كما متوقعا قبل 10 سنوات، وتوقعوا تكرار الموجات الحارة الشديدة كل 10 سنوات بعد أن كانت تحدث مرة كل 50 عاما، وذلك بسبب الاحتباس الحراري العالمي، كما أن الجفاف وهطول الأمطار بغزارة أصبحا أيضا أكثر تواترا.
وسوف تشهد منطقة المتوسط تغيرات كبيرة، وتعد “مركز التغيّر المناخي” إذ ستشهد موجات حر غير مسبوقة وجفافا وحرائق ناجمة عن ارتفاع درجات الحرارة 20% أعلى من المتوسط، وفق ما كشفته مسودة تقييم وضعتها الأمم المتحدة.
ومن المخاطر العديدة، التي سوف تنتج عن ارتفاع درجات الحرارة، نقص في المياه وخسائر في التنوع البيولوجي، وإنتاج الغذاء، إلى جانب ما يهدد قطاعات الزراعة والثروة السمكية والسياحة التي تعد حيوية للغاية.
خريطة جديدة للمناخ
تلك التغييرات المناخية وجدت صداها بكثافة في الإعلام المصري خلال الأيام الماضية، فمن جهته، قال رئيس هيئة الأرصاد السابق أشرف صابر إن مصر دخلت المناخ المداري لأول مرة هذا العام.
وخلال تصريحات صحفية، قال صابر إن وصف مناخ مصر في المناهج الدراسية سيتغير، وسيكون الوصف الأقرب “حار رطب صيفا وبارد ممطر شتاء” بدلا من “حار جاف صيفا دافئ ممطر شتاء” التي يدرسها الطلاب حاليا.
وكشفت هيئة الأرصاد الجوية المصرية أن هذا الصيف هو الأسخن منذ 5 سنوات الأخيرة، إذ ارتفعت درجات الحرارة ما بين 3 و4 درجات مئوية، أعلى من المعدلات الطبيعية، وفق التقارير الصادرة عن الهيئة والمنظمة العالمية للأرصاد.
وأوضحت الهيئة، في بيان لها، الأسبوع الماضي، أنها حصلت على هذه الأرقام بعد الدراسة المناخية الناتجة عن قاعدة البيانات المسجلة من المحطات التابعة لها في مختلف محافظات الجمهورية، خلال النصف الأول من فصل الصيف.
تأثيرات سلبية
في هذا السياق، قالت الباحثة بمركز معلومات تغير المناخ خديجة أنيس إن العديد من الدراسات تؤكد أن التغيرات المناخية سوف تؤدى مستقبلا إلى انعكاسات سلبية جوهرية على الإنتاجية القومية لمحصولي القمح والذرة، خاصة في ظل الأزمة المائية، وأشارت إلى ارتفاع إنتاجية القطن مقارنة بالأحوال المناخية الحالية.
التأثيرات السلبية للتغير المناخي، أكد عليها أيضا علي قطب أستاذ المناخ بجامعة الزقازيق ونائب رئيس هيئة الأرصاد الجوية سابقا، الذي توقع أن يصاحب التغير المناخي تلف في العديد من المحاصيل الزراعية وارتفاع أسعارها، كما حدث مع المانجو والزيتون، إضافة إلى تأثيره السلبي على الصحة العامة، وبالتالي تضرر الاقتصاد في مجمله.
بدوره، قال شادي أبو المعاطي أستاذ المناخ ورئيس قسم الأرصاد الجوية بالمعمل المركزي للمناخ الزراعي إن استمرار المناخ الحالي سيؤدى لارتفاع درجة حرارة المحيطات وذوبان الجليد، مما سيتسبب في غرق دلتا الأنهار وبعض المدن الساحلية على البحر المتوسط، وحدوث خلل بالمنظومة المناخية والكونية بصفة عامة، مثل ظهور قرى واختفاء أخرى، وموت الأسماك وغيرها من الأمور التي تهدد حياة البشرية.
