ما ذكرناه من كلام عن القوى الجديدة في إسرائيل في الجزء الأول لا يشمل كل القوى الجديدة؛ فبعض الجدة وقعت في طروحات بعض الأحزاب القديمة التي أعادت صياغة ذاتها على أسس جديدة أو طبقا لأولويات جديدة. فالحزب القومي الديني (أو المفدال) مثلا يعتبر من أوائل الأحزاب الصهيوينة. ورغم صغر حجمه إلا أنه كان شريكا في كل الحكومات الإسرائيلية تقريبا. هذا الحزب ابتدأ قوميا متدينا ولكنه بعد حرب 67 أخذ أبعادًا خلاصية صرفة. ويصفه بعض المعلقين اليهود بأنه صار مسيحانيا (نسبة إلى عودة المسيح كما وردت في التراث الديني اليهودي). وعلى الصعيد السياسي يكاد برنامج الحزب يقتصر على موضوع دعم المستوطنات. ولهذا ينعته البعض بأنه حزب المستوطنين.size=3>
لكن ثمة جانب آخر مهم في تفاعلات الداخل الإسرائيلي قد يكون هو الأخطر والأكثر أهمية بالنسبة لمستقبل الدولة العبرية. فما كان يقال عن خطر القنبلة الديموغرافية العربية في الثمانينيات عاد إلى الواجهة وتحت نفس المسمى، ولكن مع فارق انتقال بؤرة ارتكازه. ففيما كان الخوف الأول من الفلسطينيين عموما أصبح اليوم مقصورا على عرب 48 أو من تسميهم الأدبيات الإسرائيلية عرب إسرائيل.size=3>
في صيف العام ألفين عقدت ندوة في مدينة هرتزيليا وصدر عنها وثيقة سرية للتوجهات الاستراتيجية المستقبلية لإسرائيل. وقد نشرت صحيفة هآرتز (الجمعة 23/3/2001) مراجعة لأهم ما ورد فيها، والتي تركز بشكل أساسي على تهديد “الوجود” الذي يواجه الدولة العبرية ووسائل وآليات احتوائه. وقد كتب أحد المشاركين في الندوة (شلومو غازيت) انطباعاته عن وقائعها والدراسات التي عرضت فيها وذلك في صحيفة الجروزاليم بوست (28/3/2001) واعتبر أن “النتائج البينة التي خرجت بها تشير بوضوح إلى أن تهديد الوجود تهديد حقيقي وخطير وعظيم”. ثم بين ما يجب على إسرائيل فعله لمواجهة التهديد:size=3>
أولا:size=3> الاعتراف بوجود الخطر والحاجة الماسة والملحة للنظر إليه على أنه يهدد وجود الدولة، وضرورة وضعه كأولوية قومية عليا تحتاج إلى خطة طوارئ.
ثانيا:size=3> اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع زيادة العرب في إسرائيل. وهذا يعني الرفض المطلق للمطالب الفلسطينية بعودة اللاجئين، كما يعني وضع حدود جغرافية لا تضيف عربا إلى سكانها.
ثالثا:size=3> اتخاذ الإجراءات اللازمة التي تزيد عدد السكان اليهود. الهجرة من طرف، والتهويد الجماعي لكل غير اليهود المهتمين من طرف آخر.
ثم يضيف الكاتب، وهو جنرال متقاعد ورئيس سابق للاستخبارات العسكرية: “إنني كمراقب محايد(!) لا أرى مؤسسات الدولة الضعيفة، المبنية على توازن بين ضعف الحكومة وضعف الكنيست، أهلا لمواجهة التحدي. وبدون جو طوارئ وإجراءات طوارئ، لن يكون هناك خلاص”. ولمن قد يشككون بالكاتب أو ينسبونه إلى التطرف يعرف نفسه بأنه “من قدامى نشطاء معسكر السلام في إسرائيل. وأنه طالب بإنهاء الاحتلال (للضفة والقطاع) والانسحاب من الأراضي العربية وأنه يؤمن بحقوق المساواة كاملة لكل مواطني إسرائيل اليهود والعرب”. أما من يشك من معسكر السلام العربي، بأن الرجل قد يكون متطرفا، فإن الأسماء المشاركة في الندوة تجعلنا نسأل عن تعريف المتطرف. فقد شارك في الندوة أيهود باراك إلى جانب بنيامين نتنياهو ورئيس الموساد الحالي افرام هليفي .. الخ. size=3>size=3>
ما ذكره شلومو غازيت مجملا من تصورات للإجراءات الواجب اتخاذها، تعرضت له الوثيقة الأصلية بتفصيل حسب رواية هآرتز. ومن هذه الإجراءات تشجيع تحديد النسل في أوساط من تسميهم الوثيقة بعرب إسرائيل. فالمرأة العربية تلد في المعدل ضعف ما تلده اليهودية. وما لا يتم بالتشجيع يجب فرضه بالقانون وذلك عن طريق منع المعونات المالية عن الأسر التي يزيد عدد أطفالها عن ثلاثة أو أربعة. ثم تعرض بعد ذلك آليات تساهم في ترحيل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين إما إلى الدولة الفلسطينية القادمة أو إلى الأردن، مع التوصية بضرورة بناء مستوطنات تقطع التواصل الجغرافي لعرب 48 ولا سيما في منطقتي النقب والمثلث ذات الكثافة السكانية العربية. size=3>size=3>
ويذهب واضعو الوثيقة أبعد من هذا إذ يوصون بتبادل التجمعات السكانية العربية مع مستوطنات الضفة والقطاع، أو وضع هذه التجمعات تحت سلطة السلطة الوطنية الفلسطينية أو الدولة الفلسطينية، وإعطاء من يبقى بعد ذلك خيار حمل الجنسية الفلسطينية مع الاحتفاظ بحق الإقامة الدائمة في إسرائيل، ما يسلبهم حقوقهم السياسية.size=3>size=3>
ولعل أوقح ما ورد في الوثيقة هو الجزء الذي تعرض للجانب الاقتصادي؛ إذ بعد ما يزيد على خمسين سنة من التهميش والإقصاء المنظم والمتواصل لعرب 48 وممارسة التمييز العلني ضدهم، ينظر إليهم واضعو الوثيقة ليس فقط على أنهم خطر أمنى واجتماعي يهدد الطابع اليهودي للدولة، بل كخطر اقتصادي أيضا. وذلك لأن “القطاع العربي المتنامي له خصائص اجتماعية اقتصادية سـتحيله إلى حبل يلتف على عنق إسرائيل. فنسبة مشاركة العرب في القوة العاملة ضئيلة في حين أن استهلاكهم للخدمات العامة (الصحية والتعليمية والاجتماعية) يزيد كثيرا عن نسبتهم إلى مجموع السكان”.
وهنا تتفتق العبقرية الإسرائيلية عن نوعين من الحلولsize=3>:
الأولsize=3>: تشجيع تحديد النسل المذكور آنفا.
والثانيsize=3>: رفض المدخل الاقتصادي التقليدي المتبع في مثل هذه الحالات والقاضي بتكثيف الجهود باتجاه تحقيق تنمية متوازنة تمكن الشرائح الفقيرة في المجتمع من اللحاق بالشرائح العليا. فحسب واضعي الوثيقة فإن هذا سيعيق التنمية الإجمالية للأداء الاقتصادي. ولهذا ترى النخبة الإسرائيلية “أنه من المستحيل الاستثمار المتزامن في ردم الهوة الاجتماعية بين الفقراء والأغنياء وفي تنمية تحسين الأداء الاقتصادي العام في الوقت نفسه. ولهذا يجب تقديم تحسين الأداء” بإعطاء الأولوية، في المشاريع التنموية التي تدعمها الدولة، للشرائح الأكثر إنتاجية أي الشرائح اليهودية الغنية والفاعلة اقتصاديا(!).size=3>size=3>
هذا جزء من الرؤى الاستراتيجية للعقل الإسرائيلي. وهي رؤى سنراها بلا شك تتسلل إلى مفاوضات السلام، ولا سيما حين يتعلق الأمر بموضوع عودة اللاجئين الفلسطينيين. ففضلا عن رفض مبدأ العودة فإن الوثيقة الإسرائيلية توصي بالضغط على الدول المانحة لجعل معوناتها للفلسطينيين مشروطة بتحديد النسل داخل أراضى السلطة الفلسطينية. وهكذا يـجدد المشروع الصهيوني ذاته بإعادة رفع شعار أرض بلا شعب لشعب بلا أرض. الفارق هذه المرة أن العقل الصهيوني تحقق من وجود شعب ولهذا هو يسعى لإخراجه من أرضه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب وإعلامي فلسطينيsize=3>size=3>