
أزهر الربيعي* – (معهد واشنطن) 10/11/2020
في 27 آب (أغسطس)، قامت حكومة رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، بتشكيل لجنة للتحقيق في قضايا الفساد الكبرى في العراق، معترفة بحالة الإحباط المستمر بين العراقيين من الفساد المستشري الذي ابتليت به البلاد. فبعد الغزو الأميركي للعراق وسقوط نظام صدام حسين، فشلت الحكومات المتعاقبة في إدارة القضايا الاقتصادية والأمنية في البلاد، أو تحسين الظروف المعيشية والخدمات العامة للشعب العراقي. وعاماً بعد آخر، ازداد الفقر وارتفعت نسبة البطالة وتقلصت فرص العمل نتيجة لفساد الحكومات المتوالية، التي صبت المليارات من الدولارات في جيوبها ومصالحها الخاصة، ما وضع العراق في المرتبة العشرين ضمن الدول الأكثر فسادًا في العالم.
مع ذلك، هناك أسباب تدفعنا إلى التفاؤل بأن لجنة الكاظمي تقوم بالفعل بما وعدت به. ففي أيلول (سبتمبر)، اتخذ الكاظمي خطوات عدة ضد عدد من المسؤولين الماليين العراقيين بتهم فساد، من بينهم المدير السابق لمديرية التقاعد الوطنية، أحمد الساعدي، الذي ألقت قوات جهاز مكافحة الإرهاب القبض عليه في العاصمة بغداد، فيما اعتقلت قوة أمنية مدير شركة “كي كارد”، بهاء عبد الحسين، في مطار بغداد الدولي، على خلفية مزاعم بتورطه في شبكة كبيرة لغسيل الأموال يستخدمها سياسيون عراقيون. كما أصدرت محكمة تحقيق النزاهة في الكرخ قرار حظر سفر لوزير الكهرباء العراقي السابق، لؤي الخطيب، ورئيس الدائرة المالية والإدارية السابق في وزارة الكهرباء بتهم متعلقة بالفساد.
والجدير بالملاحظة هو أنه حتى أولئك من داخل الدائرة المقربة من الكاظمي لا يبدو أنهم محصنون. ففي 4 تشرين الثاني (نوفمبر)، اعتقلت قوات الأمن العراقية رعد الحارس، بناء على شكوى من لجنة التحقيق الدائمة. وجاءت مذكرة توقيف نائب وزير الكهرباء السابق على الرغم من منصب الحارس الحالي كمستشار للكاظمي.
ومع ذلك، فان مكافحة الفساد في العراق ستتطلب إجراءات إضافية أكثر من مجرد الاعتقالات الفردية؛ حيث أدت المعاملات الفاسدة والمنافسة بين الكتل السياسية إلى تفشى الفساد داخل الجهاز الحكومي. ففي كثير من الأحيان، تضغط الكتل السياسية العراقية على بعضها بعضا لقبول صفقات ترتبط بمصالح شخصية أو تقديم تنازلات لبعضها بعضا والتي تعود بالفائدة على تلك الكتل أكثر مما تفيد الدولة العراقية وشعبها. وبذلك، أتت المنافسة بين الأحزاب والكتل السياسية بنتائج سلبية ألقت بظلالها على الخدمات التي تقدمها الدولة وأثرت على الظروف المعيشية للشعب العراقي، ما انعكس على الوصول للمرافق الأساسية والتعليم والرعاية الصحية. ولذلك، فإن التغاضي عن معالجة الآثار المنهجية للفساد سيُبقي الشعب العراقي في حالة إحباط من التأثير السلبي الذي يفرضه النظام الحالي عليهم.
من أبرز ملفات الفساد التي مرّت على تاريخ الحكومات الجديدة، بعد 2003، كان ملف الفساد المالي والإداري في الطاقة الكهربائية، ففي العام 2016 في زمن رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، تم إنشاء محطة توليد الطاقة الكهربائية بطاقة 500 ميغاواط بقيمة 400 مليون دولار تعمل على الغاز بدلًا من النفط، على الرغم من العراق من البلدان المنتجة للنفط، ما دفع العراق إلى استيراد الغاز الذى يكلفه ملايين الدولات سنوياً. لذلك، يبدو أن استقرار البلد واكتفاؤه الذاتي أصبحا يحققان خسارة كبيرة للمافيا المسيطرة على الوزارات وأصحاب القرار المستفيدين من صفقات الفساد التي أضعفت الدولة وأفلست الخزينة، وقادت البلاد إلى الاقتراض الخارجي الذي أرهق الدولة وأغرقها بديون سابقة ما يزال العراق يدفع فواتيرها.
وفي هذا الصدد، قال الكاظمي، في بيان رسمي، إن “ما أنفقته الدولة من مليارات الدولارات على قطاع الكهرباء، كان يكفي لبناء شبكات كهربائية حديثة، إلا أن الفساد والهدر المالي وسوء الإدارة حالت دون معالجة أزمة الطاقة الكهربائية في العراق”. وجاء البيان في صيف العام الحالي؛ حيث عانى المواطنون من ارتفاع درجة الحرارة من دون كهرباء يمكن الاعتماد عليها. فيما ذكر مسؤول عراقي أن حجم الفساد في وزارة الكهرباء وصلت قيمته إلى قرابة 41 مليار دولار منذ العام 2003.
أثر الفساد المالي والإداري بشكل كبير على مفاصل الدولة العراقية ومؤسساتها الخدمية، ومنها المؤسسات الصحية؛ حيث كشف تفشي فيروس كورونا المستجد عن هشاشة النظام الصحي وأظهر عيوبه. وما يزال المواطن العراقي يعاني في الحصول على العلاج الكافي والرعاية الصحية في المستشفيات الحكومية، على الرغم من الموازنات الحكومية الكبيرة التي تفوق موازنات عدة. ففي العام 2019 الذي شهد استقراراً أمنياً، بلغت موازنة العراق 106.5 مليار دولار، لكن الحكومة العراقية آنذاك خصصت 2.5 % منها فقط لوزارة الصحة، فيما أعطت 18 % لصالح الأمن، و13.5 % لوزارة النفط.
وبحسب تقرير نشرته وكالة رويترز، ذكرت بيانات لمنظمة الصحة العالمية أن الحكومة العراقية أنفقت خلال الأعوام العشرة الأخيرة مبلغًا أقل بكثير على الرعاية الصحية للفرد من دول أفقر كثيراً؛ إذ بلغت حصة الفرد العراقي من هذا الإنفاق قرابة 161 دولارا في المتوسط، مقارنة مع 304 في الأردن، و649 في لبنان.
وأثر الفساد أيضاً على المؤسسات التعليمية. فبعد أن كان العراق في طليعة البلدان المتقدمة في مجال التعليم خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي، أدى إهمال التعليم إلى تراجعه إلى مستويات دنيا، وغاب العراق عن مؤشر جودة التعليم العالمي الصادر من المنتدى الاقتصادي العالم في دافوس للعام 2015-2016. والسبب الذي يقف وراء هذا الفشل الكبير هو الفساد في وزارة التربية.
نتيجة الفساد والإهمال الذي أدى إلى ضعف مستوى التعليم، وعدم توفر فرص العمل للخريجين الجدد من الجامعات العراقية، يلجأ الخريجون إلى العمل في مهن غير التخصص الذي درسوه في الجامعة أو المعهد، فيما يقرر عدد من الطلبة ترك المدارس واللجوء إلى سوق العمل. وكان ما جعل الأمور أكثر سوءا هو نظام المحاصصة المعمول به والذي يحصل البعض من خلاله على وظيفة حكومية باستخدام العلاقات والوساطة على أساس ديني أو انتماء حزبي، فيما يعاني آخرون في الحصول على عمل نتيجة عدم امتلاك الواسطة أو الانتماء الحزبي.
هذا الواقع جعل البطالة في أوساط الشباب العراقي ترتفع في البلد في ظل الحكم الفاسد؛ حيث بلغ معدل الفقر في العام 2018 حوالي 20 % فيما ارتفع في العام الحالي إلى 31.7 %، بحسب تصريح لوزير التخطيط العراقي خالد بتال النجم لوسائل الإعلام. وترتفع نسبة الفقر في المحافظات الجنوبية. ففي محافظة المثنى وصلت نسبة الفقر إلى 52 %، كما بلغت نسبة البطالة للعام 2018 إلى 22.6 %، فيما وصلت هذا العام إلى 40 %.
ثمة تأثيرات أخرى تسبب بها الفساد في العراق، منها عدم الاستقرار الأمني، وخوف الشركات العالمية من دخول العراق للاستثمار بعد أن تعرضت كثير من الشركات إلى الابتزاز وإجبارها على عقد الصفات الكاذبة، ما يربك مسير بناء البلاد، وخصوصاً المناطق التي دمرتها الحروب. وما تزال مدن ترزح تحت الدمار، وعملية البناء والإعمار فيها خجولة لا ترقى إلى المستوى المطلوب أو الذي يطمح إليه الأهالي في تلك المناطق. وقد قدمت الحكومة الحالية ورقة الإصلاح البيضاء التي من شأنها حلّ مشاكل البلاد الاقتصادية والمالية، وتعول الكتل السياسية على هذه الورقة علها تتمكن من قطع خيوط الفساد التي أورثتها الحكومات السابقة.
على الرغم من الجهود المبذولة للحد من الفساد وتنشيط الاقتصاد العراقي، يرى كثير من العراقيين الذي التقاهم هذا الكاتب أن إجراءات الكاظمي في القضاء على الفساد هي مجرد استعراض إعلامي، وليست هناك جدية مقنعة في ما يفعله. وإذا كانت هناك خطوات فإنها خجولة جدًا أمام منافذ الفساد الكبرى، وتماسيح الفساد الذين يتمتعون بالمال والسلطة والسلاح والجماهير، والذين يسعون إلى عرقلة جهود الكاظمي لاستئصال جذور الفساد في البلاد. وفي ظل هذه المعوقات المؤسسية، ومع النضال المتزامن لإصلاح الاقتصاد العراقي، قد تتعرض حكومة الكاظمي لضغوط شديدة لتلبية المطالب الشعبية.
وفي الأثناء، من المرجح أن يستمر أثر الفساد المتواصل في دفع العراقيين للخروج إلى الشوارع في حراك مستمر بدأ في تشرين الأول (أكتوبر) 2019. وعلى الرغم من ارتفاع معدل الإصابات بفيروس كورونا، يواصل المتظاهرون حراكهم الشعبي من أجل الإسراع في تحقيق مطالبهم التي فشلت الحكومات السابقة في تحقيقها، وأبرزها القضاء على الفساد، والمطالبة بتوفير فرص العمل في وقت تعاني فيه مؤسسات الدولة من وجود العاملين الفضائيين الذي يتم توظيفهم وفق المحاصصة الحزبية والمحسوبية، أو وفقاً للانتماء الديني والمذهبي.
في حين يتطلع العراقيون إلى الحصول على حقوقهم الأساسية من مياه صالحة للشرب وكهرباء لا تنقطع، ورعاية صحية جيدة، وبنية تحتية صالحة، وفرص عمل، فإن ذلك لا يمكن تحقيقه من دون تفكيك الفساد المزمن؛ حيث ستواجه الجهود المبذولة لتحقيق ذلك تحديات كبيرة، خاصة وأن المستفيدين من الفساد سيعملون بجد للحفاظ على الأنظمة التي تعمل لصالحهم. ومع ذلك، فإن هذه الجهود ضرورية حتى يستعيد الشعب ثقته في الحكومة.
*صحفي مستقل من العراق. تركز كتاباته على مواضيع متنوعة تشمل السياسية والصحية والاجتماعية وعن الحروب وحقوق الإنسان في العراق.