المسألة برمتها جزء من أزمة كبرى تعانيها معظم الفضائيات العربية التي أفلست قبل أن تولد عندما حسب القائمون عليها أن القناة الفضائية مجرد ستوديو وتردد يتم شراؤه من أي قمر صناعي ولم يقيموا بالاً للمضمون الذي ستقدمه تلك القناة، فجاءت القنوات تكرر بعضها بعضًا حتى إن بعض المسلسلات الدرامية كانت تعرض في أكثر من 5 قنوات في الوقت نفسه.
فضائيات كثيرة نظرت إلى برامج “تليفزيون الواقع” كمنقذ لها من الإفلاس، فهي لا تكلف شيئًا، مجرد مجموعة من الشباب أو الفتيات يعيشون في فيلا يغنون أو يرقصون، أو مجموعة من الفتيات يعشن في مكان واحد يعرضن أنفسهنَّ للزواج وعلى المشاهدين أن يصوتوا بالهاتف، لاستبعاد واحد أو واحدة من المسابقة، سواء أكانت غناء أو عرض زواج. بالمعايير الفنية البرامج سطحية، وبالمعايير الأخلاقية، هي فضيحة بكل المقاييس: فما الإبداع في التلصص على شباب وفتيات يعيشون معًا ومتابعة حياتهم طوال اليوم، وما هو المسوّغ الشرعي الذي أحلَّ لهؤلاء أن يناموا ويقوموا ويأكلوا ويشربوا معًا.
سخف الفكرة وفضائحية المضمون لم يحولا دون الإقبال على هذه النوعية من البرامج سيَّما من الشباب، الأمر الذي يؤكد أن هؤلاء غير راضين عمَّا تقدمه إليهم برامج الفضائيات ومستعدون لقبول بديل لها حتى لو كان من نوع برامج “تليفزيون الواقع”.
برنامج “ستار أكاديمي” الذي استنسخته الفضائية اللبنانية LBC من برنامج فرنسي تلقى سبعين مليون اتصال هاتفي طبقًا لإحصاءات شركات الاتصالات العربية منها 23 مليون من مصر و18.5 مليون من لبنان، 17 مليون من سوريا، و4 ملايين من السعودية و 1.2 مليون من الإمارات. البرنامج يعرض متسابقين من الشباب والفتيات من مختلف البلدان العربية في الغناء، وتقديم البرامج أو غيرها من الفنون، ويتلقى اتصالات بالتصويت على استبعاد متسابق كل أسبوع، وفي النهاية يتحول الموضوع إلى إثارة للنعرات القطرية وتعصب شباب كل بلد لابن بلدهم المشارك في البرنامج. إحدى مجلات الكويت مثلاً طالبت بمحاكمة الشاب الكويتي بشار الذي شارك في “ستار أكاديمي” وأساء إلى بلده عندما صرح في البرنامج أنه يحب فتاة كل يوم!
هذا الإقبال أغرى المتنافسين على الهرولة في هذا الطريق، سيما وأن الأمر لا يكلفهم شيئًا، فأعلن تليفزيون المستقبل في أول مارس 2004م بدء الجزء الثاني من برنامجه “سوبر ستار”، أما تليفزيون MBC فقد خطا نحو التواجد ا لمباشر بين أفراد الجمهور المستهدف، فأعلن أنه سينتج برنامج “بيج براذر” في نسخته العربية باسم “الرئيس” في البحرين في خطوة تكشف أن شباب الخليج على رأس الجمهور المستهدف لهذه البرامج، وبالفعل بثت القناة أولى حلقات البرنامج من البحرين في أواخر فبراير 2004م وتضمن 21 متسابقًا من الجنسين يعيشون في منزلين منفصلين، وتراقب الكاميرات مدى التزامهم بقواعد وقوانين البرنامج، ويصوَّت المشاهدون على أسوء متسابق ليخرج من البرنامج.
ولكن جاءت الرياح بما لم تشته السفن، وثارت العاصفة التي لم تكن متوقعة، فشهد البرلمان استجوابًا لوزير الإعلام اعتراضًا على ما شاب البرنامج من اختلاط الجنسين وما تخلله من تقبيل أحد الخليجيين لإحدى المشاركات العربيات. وتبع الاستجواب اعتصام احتجاجي نظمته جمعية المحرِّق وشارك فيه ثلاث آلاف شخص ضمنهم القيادات الإسلامية السنية الذين رفعوا عريضة إلى الملك مطالبين بوقف البرنامج.
سعت القناة إلى امتصاص الغضبة بالإعلان عن تشكيل لجنة رقابة شرعية على البرنامج وتعيين أحد القضاة رئيسًا لها، لكنه اعتذر وأعلن أن في البرنامج تجاوزات صريحة كقيام المشاركين والمشاركات بالرقص بعضهم مع بعض في وضع غير لائق “وأنه لا مجال لتنفيذ أي شكل من أشكال الرقابة الشرعية” على البرنامج.
وفي النهاية نجحت الجهود في وقف البرنامج وقدمت نموذجًا للعمل المنتج والعقلاني والهادئ الذي يحمي ثوابت الأمة من عبث المستهترين.
شبكة راديو وتليفزيون العرب ART دخلت المنافسة على برامج “تليفزيون الواقع” بطريقتها تخصصت قناة باسم “عالهوا سوا” لتضاف إلى قنوات الأغاني والمسلسلات والأفلام. القناة الجديدة تعرض طوال 24 ساعة فتيات من مختلف البلدان العربية يعشن في فيلا لا يغادرنها طوال ثلاثة أشهر: يأكلن ويشربن ويثرثن ويتشاجرن وينمن على الهواء مباشرة. وتقوم القناة بعرض الفتيات في سوقها الفضائي بدعوة الجمهور للتصويت على الفتاة المناسبة للزواج، وتتولى تمويل حفل زواج الفتاة الفائزة.
**لماذا؟***
في البحث عن تفسير لهاذ التسابق نحو برامج “تليفزيون الواقع” تواجهنا حقيقتان: @الأولى@@ تتعلق ببحث الفضائيات عن مصادر للدخل والتمويل في ظل التنافس المحموم على كعكة الإعلانات التي لا تكاد تكفي، وهذا ما يفسر أن الفضائيات التي بثت هذه النوعية من البرامج استثمارية خاصة وليست حكومية، وجدت في برامج “تليفزيون الواقع” غنيمة سهلة وطريقا ميسرا لجيوب المشاهدين ولا ضير أن نتقاسم تلك الغنيمة مع شركات الاتصالات.
@الحقيقة الثانية@@ تتعلق بجمهور الشباب العربي الذي يعيش واقعًا مؤلمًا يكاد يخلو من أفق التغيير الإيجابي ويكاد يخلو من مشاريع كبرى تستنهض وتستلهم وتنظم طاقات الشباب، فهم مهمشون اجتماعيًّا عاطلون اقتصاديًّا، الكل يتحدث عنهم لكن قلَّ من يفهمهم، فجاءت هذه البرامج لتقدم إلى جمهور الشباب واقعًا زائفًا يهرب به من واقعه، فمن المؤلم أن برامج “تليفزيون الواقع” تخلو تمامًا من واقع مجتمعاتنا التي لم تعرف بعد شبابًا وفتيات يعيشون تحت سقف واحد وفي مكان واحد بلا رابط شرعي بين الشاب والفتاة، فحتى الأسر المتحررة في البلدان العربية لا تقبل مثل هذا النمط من السلوك، وكأن هذه البرامج تبشرنا بأننا على أبواب مجتمع “البوي فرند” و”الجيرل فرند” الشائعة في الغرب حيث يتعاشر الشاب والفتاة بلا زواج!
الجانب الأكثر خطورة في تلك البرامج هو القيم المتضمنة أكثر من القيم المنطوقة، فالتسابق نحو الرقص والغناء واللهو مصائب لها سوابق في الدراما والتلفاز العربي، لكن الجديد هو هذا النوع من العلاقة بين الجنسين: علاقة تحرر من كل قيد شرعي أو سقف عرفي، وتقدم إلينا كمسلَّمة لا تحتاج إلى نقاش؛ فليس مطلوبًا منا أن نتساءل بأي حق وبأي شرع يجتمع هؤلاء ويعيشون معا، بل المطلوب أن نقول من أبدع منهم ومن أجاد! إنه واقع “تليفزيون الواقع” الذي يجب أن نسلِّم به ونزيح ما يقف أمامه من عوائق في واقعنا المعاش. يقول أحد الشباب: “أزياء المشاركين والمشاركات وقصات شعرهم أصبحت أكثر انتشارًا، القبلة بين الشباب والفتيات كانت أمرًا مستهجنًا لكنها مع توالي حلقات البرنامج “ستار أكاديمي” أصبحت أمرًا عاديًّا”.
**استنساخ:***
كانت بداية برامج “تليفزيون الواقع” في هولندا عام 1999م عندما قامت القناة الهولندية “فيرونيكا” بعرض برنامج “لوفت ستوري”، وبرنامج “بيج براذر” في حلقات شاهدها 300 مليون مشاهد من أنحاء العالم، الأمر الذي شد انتباه القنوات الأخرى في مختلف بلدان العالم، فانتشرت هذه النوعية من البرامج في 15 بلدًا أوروبيًّا وأمريكيًّا، وأخذت تقليعات مختلفة، ففي أحد هذه البرامج تم وضع 16 متسابقًا في جزيرة معزولة وتركوهم يبقون على حياتهم، فكانوا يأكلون كل ما يجدونه بما في ذلك دود الأرض، وتم رصد حركاتهم وسكناتهم وبثها طوال 24 ساعة يوميًّا، فتابع البرنامج 50 مليون متفرج، وفي أسبانيا راقبت 27 كاميرا عشرة أشخاص مجهولين في أحد البرامج فتابعهم ثلث سكان البلد (12 مليون مشاهد)، أما في فرنسا فقد بثت نسختها من برنامج “لوفت ستوري” حيث تم حبس عدد متساو من الشباب والفتيات في شقة ورصدت جميع تحركاتهم خلال 70 يومًا، وفي كل أسبوع يتم تصفية أحد المشاركين باستبعاده بناء على آراء المشاهدين. وبعد النجاح الكبير لهذا البرنامج أنتجت فرنسا الجزء الثاني منه ثم أعقبته ببرنامج “ستار أكاديمي” الذي ربح في 16 حلقة 120 مليون يورو من بيع مواد البرنامج والاتصالات الهاتفية التي تلقاها (3 ملايين اتصال).
وفي بريطانيا باشرت سلطات تنظيم وسائل الإعلام “أوفكوم” تحقيقًا حول برنامج جديد من برامج “تليفزيون الواقع” يضع المشاركين فيه أمام تحدي الصمود أسبوعًا كاملاً من دون نوم، إذ اعتبر الأطباء أن البرنامج يسبب الهلوسة ويدعو إلى القلق أكثر مما يقدم تسلية.
أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد خطت بتلك البرامج خطوة تليق بمكانة أمريكا تسمى “برامج القمامة” أو “تليفزيون المزبلة” تتضمن صورًا مبتذلة لأشخاص عاديين يتحدثون عن تجاربهم بطريقة تخطت حدود الوقاحة كالمرأة التي تزوجت خالها نكاية في أمها التي كانت تأتي بعشيقها إلى البيت أمام ابنتها المراهقة وأعلنت كل ذلك في مواجهة بين المرأة وزوجها (خالها) وأمها وعشيقها في بث حي لحلقة من هذه البرامج تفاعل فيها الجمهور بين مؤيد ومعارض لهذه المرأة.
وفي ولاية أوهايو الأمريكية أنشأت مجموعة من الشباب موقعًا إلكترونيًّا ووضعوا كاميرات في منزلهم ودعوا متصفحي الإنترنت إلى متابعة تفاصيل حياتهم اليومية.
أما في السويد فكانت الطامة الكبرى، ففي مجتمع أكثر من نصف مواليده يأتون من الزنا ظهر ما يسمى (Doging) أو “كلبنة” أي دعونا نتصرف كما تتصرف الكلاب، إذ يتواعد رجل وامرأة عبر الإنترنت للالتقاء في مكان عام يمارسان الجنس علانية ويدعوان من يوّد مشاهدتهما إلى ذلك المكان.
وفي نيجيريا حينما عرض “بيج براذر” الصيف الماضي أثار جدلاً كبيرًا واعتبره البعض وسيلة لتشويه المجتمع وانتهاكًا للثقافة النيجيرية خصوصًا بعد أن دخلت كاميرات البرنامج غرف الاستحمام.
الظاهرة لم تعمِّر طويلاً في الغرب – شأن كل التقليعات – وأيقن الناس والمراقبون أنها مجرد عرض من أعراض “مجتمع الاستعراض” الذي يسعى التلفاز إلى فرضه، وذلك بتحويل وقائع الحياة (إنتاج – حروب – حركات اجتماعية) إلى مجرد عروض لا وقائع حية، الواقع أزيح جانبًا وبقي العرض هو المهم الذي يقدم للناس، وبتركيز الناس على العروض يفقدون اتصالهم بالحياة الواقعية. كلنا يذكر كيف حوَّل التلفاز غزو وتدمير العراق إلى مجرد صور مفرقعات تخفي وراءها الجانب المأساوي من الحرب.
الكاتب الفرنسي فيليب موريه يرى في “تليفزيون الواقع” أحدث محاولات التلفاز ليحلَّ مكان الحياة ويملأ الفراغ الذي تركته الحياة خلفها في مجتمعات مادية موحشة، لقد أضحى التليفزيون يصنع الواقع، واقعه وليس واقع الحياة، فالناس أصبحوا مشابهين لما يشاهدونه على شاشاتهم، لم يعودوا أناسًا حقيقيين، فهم يقلدون لاعب الكرة ونجم السينما والزعيم السياسي الذين يطلون عليهم عبر التلفاز.
أصبح الناس يعبرون عن أفكار ليست أفكارهم، ويستخدمون مواقف مستوحاة من مشاهداتهم، أي أنهم أصبحوا مشابهين لما يعرضه التلفاز، بحيث يمكن وضعهم فيه، وهذا هو “تليفزيون الواقع”، ولكنه ليس الواقع الذي يدخله التلفاز، بل التلفاز الذي يمحوا الواقع ويبتلعه.
في برامج “تليفزيون الواقع” يبدو المشاركون كعرائس متحركة – دمي – تتصرف في حركات مدروسة لا تعكس أي شخصية، ينحصر دورهم في إشباع تشوقات التلصص واختراق الخصوصية لدى المشاهدين وإبقائهم أطول مدة ممكنة أمام التلفاز، حتى ولو كان ذلك يعني استقالتهم عن ممارسة الأشياء التي تعطي لحياتهم معنى مكتفين بواقع مزيف تقدمه هذه البرامج.
ربما تنجح الفضائيات العربية في تجاوز – أو تأجيل – أزمتها المالية عبر تلك البرامج التي تكتفي بكاميرا ومنزل فيه مجموعة شباب وفتيات، بعدها تنهال الاتصالات، لكن ما لم تحسب حسابه – إذا افترضنا حسن النية – هو الأثر الاجتماعي لتلك البرامج ودورها في خلخلة قيمنا الاجتماعية ونسف معاييرنا الأخلاقية حول اللائق وغير اللائق والحلال والحرام، والمحترم والمشين في سلوكنا. وإذا أخذنا في الاعتبار الظرف العصيب الذي تمر به الأمة لم يعد لافتراض حسن النية مكان.
ـــــــــــــ
الأسرة : عدد131