تنويعات لتجسيد الإنسان في معرض نحت جماعي في دمشق
[wpcc-script type=”3c466f56f0965c17f04dc22d-text/javascript”]

بمشاركة تسعة نحاتين وعرض حوالي خمسة وعشرين عملاً فنياً، افتتح مؤخرا معرض «نحت» في صالة عرض قزح في الأحياء القديمة للعاصمة السورية دمشق.
وفي قاعتين صغيرتين متجاورتين داخل الصالة، التي تحتل الطابق السفلي من منزل قديم بطراز معماري عربي تقليدي، عُرضت المنحوتات ذات الأحجام المختلفة على شكل مجموعات جسّدت الإنسان بكافة مراحلة العمرية، وحالاته النفسية والفكرية والاجتماعية.
«تجارب نحتية متنوعة ومن أجيال مختلفة في العرض الأول من «نحت»، هي فكرة تنطلق اليوم وستستمر على مراحل وبمواضيع وتقنيات جديدة مستقبلاً»، هي جملة تعريفية عن المعرض الذي شارك فيه كل من مصطفى علي، كنانة الكود، وائل دهان، حسين ديب، ربا كنج، عيسى قزح، وضاح سلامة، ميسان سلمان، يامن يوسف. «القدس العربي» التقت عددا من الفنانين يوم الافتتاح ليشرحوا بشكل أكثر تفصيلاً عن أعمالهم ومشاركتهم.
الوجه الآخر للإنسان
عند مدخل الغرفة الأولى تقع عيون الزوار على ثلاث منحوتات مصنوعة من مادتي المعدن والعظام الحيوانية، التي تتداخل مع بعضها بعضا، لتشكيل جسم بشري أو رأس حيواني. «الوجه الآخر» هو موضوع هذه المجموعة، كما يقول صانعها الفنان وضاح سلامة لـ«القدس العربي»، حيث تقصّد إبراز جوانب من الشخصيات البشرية التي لا تظهر عادة إلا في مواقف الغضب أو الانفعال الشديد، «حينها يعود الإنسان لأساسه ويخرج الوجه الحقيقي من داخله، تماماً كما يفنى تحت التراب بعد موته ويبقى منه هيكله العظمي».
النحت هو ناقل التاريخ وأحد الفنون الأساسية الموجودة منذ القدم، الذي أتاح لنا التعرف على الحضارات القديمة قبل ظهور الكتابة.
اختار سلامة الحائز إجازة في الفنون الجميلة من دمشق عام 1998 صناعة منحوتاته من المعدن والعظم الحيواني لهدف محدد، فالمعدن هو المادة التي يتقن العمل بها رغم صعوبتها، إلا أنها تعطي المشاهد ليونة بصرية عند تشكيلها بطريقة تبعث فيها الحياة، على عكس الفكرة الشائعة عنها بأنها مادة قاسية، ويمكن أن تتسبب بالأذى. أما استخدام العظام الحيوانية فهو نتيجة تأثر الفنان بحكايات «كليلة ودمنة»، التي تلعب فيها الحيوانات والطيور دور البطولة وترمز في الوقت ذاته لشخصيات بشرية. استلهم سلامة من هذه الفكرة إمكانية استخدام جماجم الحيوانات للتعبير عن البشر وحياتهم وحالاتهم، وقرر دمجها مع المعدن، وإضافة بعض الألوان أيضاً لإضفاء القليل من الحياة على المنحوتات.
الأجنحة والأيدي
في منحوتات أخرى تطالعنا أشكال إنسانية مختلفة مصنوعة من الحجر والريزين والخشب وغيرها من المواد، ورغم وحدة الموضوع إلا أن لكل تجربة ومجموعة موضوع فريد يميزها عن غيرها.
في مجموعة الفنان يامن يوسف، تتحدث أولى المنحوتات عن الإنسان السوري الذي اختار البقاء في سوريا خلال سنوات الحرب، لنراه بظهر محني، وجناح في جهته اليمنى، وحجر كبير في اليسرى. «هذا الإنسان يشعر وكأنه قادر وعاجز في الوقت نفسه، وكأن حجراً ثقيلاً يسجنه في المكان ويمنعه من المغادرة»، يشرح يوسف خلال حديثه مع «القدس العربي» ويضيف «كثرٌ منّا آثروا عدم مغادرة سوريا بدون أن يعرفوا بالضرورة الأسباب التي دفعتهم لهذا الخيار». عملان آخران يبينان جسدين إنسانيين ليس بالضرورة أن نعلم إن كانا يمثلان رجلاً أو امرأة، أحدهما مستلقٍ والآخر جاثٍ، وبجسمين مليئين بما يشبه الجروح والخدوش، وهو ما يتقن يوسف اللعب عليه باستخدام الريزين مع الإبقاء على آثار السكب واضحة على الجسد، «فهي تشبه الجروح التي نتعرض لها كل يوم، وتبقى آثارها محفورة فينا».
وتقصد الفنان وهو خرّيج كلية الفنون الجميلة في دمشق عام 2006، استبدال يد إحدى المنحوتات بجناح، «فنحن قادرون على أن نحمل صفات البشر والملائكة فينا في وقت واحد، وأرغب هنا في استنهاض الجانب الإيجابي، جانب الخير فينا، على حساب الجانب الآخر السلبي والشرير».
اليد البشرية تعبير قوي للغاية وكأنها بطاقة تعريف عن صاحبها. من خلالها نستطيع معرفة خلفيته الاجتماعية، جنسه، عمره، وحتى حالته النفسية.
وفي الركن المجاور تعرض الفنانة كنانة الكود منحوتاتها الثلاث المصنوعة من البرونز، التي تظهر فيها شخصيات طفولية وكبيرة في آن معاً، فلا عمر ولا هوية محددة لها. تركز الكود على الأيدي بشكل خاص، «فاليد البشرية تعبير قوي للغاية وكأنها بطاقة تعريف عن صاحبها. من خلالها نستطيع معرفة خلفيته الاجتماعية، جنسه، عمره، وحتى حالته النفسية»، تقول الفنانة وهي تشرح عن أعمالها لـ«القدس العربي». يظهر الطفل/البالغ في المنحوتة الأولى وهو يغطي وجهـــه المبتسم بــــيده التي تبـــدو أكبر من عمره بكثير، «تعبيران متناقضان تقصدتُ جمعهما في عمل واحد، لأقول بأننا يجب أن لا نحكم على مظهر الإنسان من النظرة الأولى»، تضيف الكـــود الحـــائزة إجازة في مجال التصوير الزيتي في كلية الفنون الجميلة في دمشق عام 2011. العمل الثاني يبرز طفلاً بدون يدين وكأنه يتحدث عن عجزنا وضعـــف حيلتــنا، ليتحول في العمل الثالث إلى إنسان يحاول اكتساب القدرة على الطيران عن طريق جناح ينبت مكان اليد، وهي اليد ذاتها التي تمثّل بالنسبة للكود وسيلتها الخاصة للتحليق عن طريق الفن.
إحياء النحت كتعبير صادق عن الإنسان
يكتسب معرض «نحت» الجماعي أهميته من كونه واحداً من التجمعات النادرة للعاملين في هذا المجال الفني، الذي لا يلقى الكثير من الاهتمام والتشجيع في سوريا وفق حديث الفنانين المشاركين. يعتقد الفنان وضاح سلامة أن التركيز على هذه التجربة الجماعية وتعميمها، أمر لازم وضروري، فالنحت هو ناقل التاريخ وأحد الفنون الأساسية الموجودة منذ القدم، الذي أتاح لنا التعرف على الحضارات القديمة قبل ظهور الكتابة، لكنه يشير إلى عدم تقبّل هذا النوع من الفنون نتيجة رواسب وخلفيات مجتمعية، واعتقادات خاطئة بأن إنتاج المنحوتات فعل محرّم، ليبقى التصوير والرسم الزيتي أكثر رواجاً في سوريا.
بدوره يتحدث الفنان يامن يوسف عن مشاركته في المعرض الجماعي، التي تشكّل بالنسبة له فرصة لطرح رأيه والتأكيد على أن النحـــت ليس مجرد عمل للزينة، وإنما هو فعل ينتج أعمالاً تحمل أفكاراً معبّرة عن حياة الإنسان اليومية، وهو ما يؤكده اسم المعرض الذي اقتصر على كلمة «نحت» فقط، بدون أي دلالات أخرى، وأيضاً الأعمال المعروضة التي لم يتفق الفنانون بشكل مسبق على توحيد مواضيعها، «لكن التجارب المتشابهة التي يعيشها جميع السوريين اليوم داخل بلدهم ومساحتهم المشتركة فرضت هذه النتيجة التي نراها اليوم»، يختتم يوسف حديثه.
٭ كاتبة من سوريا