“فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً”
(الفرقان:52)
لقد توصّلنا في الحلقتين السابقتين (1و2) إلى النتائج المهمة التالية:
1- يتحوّل الناس في ظل تشريع بعضهم لبعضٍ إلى: أربابٍ يُشرِّعون، وعبيد يطيعون: “وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّه” (آل عمران: من الآية 64).
2- إنّ الخطأ يؤدي عند التنفيذ إلى الظلم، والمعصوم عن الخطأ وحده، هو الذي يليق به أن ينظّم حياة الناس ويضع لهم منهجاً ودستوراً.
3- إنّ المظالم الواقعة الآن في الإنسانية، نابعة من الأساس الذي تقوم عليه المناهج والأنظمة التي يُحكَم بها الناس، وهو: (بشرية هذه المناهج) التي وضعها البشر الذين يخطئون.
4- إنّ القرآن الكريم يقرّر أنّ الذين ينظمّون حياة الناس بمناهجهم الوضعية، يتحوّلون إلى أربابٍ مزيَّفين: “اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ” (التوبة:31).
5- إنّ الذي يطيع واضع التشريع في معصية الله، يرفعه إلى رتبة ربّ العالمين: “إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ” (الشعراء: 98).. وبذلك يُشرِك بالله _عز وجل_: “… وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ” (الأنعام: من الآية 121).
6- إنّ هدف الإسلام في الأرض هو: (لا إله إلا الله)، وهو الأصل الأول في الإسلام، الذي يحرّر الإنسان من العبودية لغير الله _سبحانه وتعالى_.. فلا واضع لمنهج الحياة إلا الله _عز وجل_، ولا طاعة إلا له، ولا تنفيذ إلا لشرعه القويم، ولا خضوع إلا إليه _عز وجل_ من غير كل القوى وجبابرة الأرض.
بعد ذلك نسأل:
– كيف يتغلّب المسلم على واقعه، فيسير لتحقيق هدفه، وهو: تحقيق العبودية لله _عز وجل_ وحده، فلا شرك ولا اتّباع لغير منهجه القويم؟!
– وما الوسيلة إلى تحقيق هدف الإسلام في الأرض: (لا إله إلا الله)، أي: لنبذ كل الأرباب المزيّفين والطواغيت، ورفض مخططاتهم ومشروعاتهم الخبيثة، وتبنّي منهج الله عز وجل وحده.. ثم لتحرير النفس والمجتمع والإنسانية من الظلم الناجم عن المناهج الوضعية الخاطئة الظالمة؟!
– الجواب أو الحل هو: ما ورد في الآية الكريمة العظيمة:
“فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً” (الفرقان:52)
أي جاهدهم بالقرآن العظيم، أي بمنهج الله _عز وجل_ وحده، وبدستوره وشرعه وحده.
المفاهيم التي تعرضها الآية الكريمة
1- مفاصلة الأرباب المزيّفين، الذين ينظمّون حياة الناس بمناهج وضعيةٍ من غير منهج الله _عز وجل_، وعدم طاعتهم في ذلك؛ لأنهم خاطئون ظالمون لا يعملون لتحقيق العبودية لله _عز وجل_ في كل شؤون الحياة.
2- جهاد الطواغيت الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، ومقارعتهم بالقرآن العظيم، الذي هو منهج المسلم الذي ارتضاه الله له وأمره بتنفيذه.. مع ملاحظة أنّ هذه الآية الكريمة (مكّية) أي أنها تدعو إلى الجهاد الكبير به (.. وَجَاهِدْهُمْ بِهِ..) أي: بالقرآن العظيم، أي: بمنهجه وحده!.. فعندما نزلت هذه الآية في مكة المكرّمة، لم يكن الأمر بالقتال قد نزل، فالأمر بالقتال حصل -كما هو معروف- في بداية العهد المدنيّ!.. وهكذا فإنّ:
– الأمر بالجهاد نزل في بداية الدعوة في المرحلة المكّية.
– ثم تكاملت معاني الجهاد، إلى أن نزل الأمر بالقتال في بداية الحقبة المدنية: “أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ..” (الحج: 39 ومن 40).. لذلك فقد حدّد الإسلام أنواعاً للجهاد صنّفها العلماء تصنيفاتٍ عدة:
أنواع الجهاد في سبيل الله
لقد فرض الله _عز وجل_ الجهاد على المسلمين -كما أسلفنا- منذ بداية الدعوة، وذلك لتحقيق هدف الإسلام في الأرض، ولتعميمه في أركانها، حتى يكون منهج الله _عز وجل_ هو الوحيد الذي يحتكم إليه الناس في كل زمانٍ ومكان، وحتى تتم إزالة المناهج البشرية القاصرة الطاغية الظالمة، التي وضعها الأرباب المزيّفون الذين يستعبدون بها الناس، ويَسْتَرِقّونَهم بنُظُمِها!.. وقد صنّف الإمام (ابن القيّم) -رحمه الله- الجهادَ إلى أربعة أقسامٍ رئيسة:
1- جهاد النفس:
– على تعلّم الهدى ودِين الحق.
– وللعمل بالهدى ودِين الحق.
– وللدعوة إلى الهدى ودِين الحق.
– وللصبر على مشاقّ الدعوة وأذى الأعداء.
2- جهاد الشيطان:
– للاستقامة على منهج الله _عز وجل_.
– ولعدم ترك منهج الله إلى غيره من المناهج الظالمة الباغية.
3- جهاد الظلمة والمنحرفين وأصحاب البدع والمنكرات.
4- جهاد الكفار والمشركين والمنافقين: لهدايتهم، ولتعميم الإسلام في الأرض.. بالمال والنفس واليد واللسان والقلب.
والجهاد بكل أنواعه (فرض عَينٍ) على كل مسلمٍ، حتى يتحقق هدف الإسلام في الأرض، وهو تحكيم منهج الله عز وجل فيها، لأن تحقيق الهدف (الحكم بما أنزل الله) فرض على المسلم، فوسيلته (الجهاد في سبيل الله) فرض أيضاً حتى يتحقق.
ومَن يجاهد في سبيل الله عز وجل لتكون كلمة الله هي العليا، ولتحرير شعبه وأمّته من سيطرة القوى الشريرة الداخلية والخارجية، ولبناء الدولة المسلمة والأمة المسلمة.. فإنه ينجو وحده من الشرك، سواء أقامت الدولة التي تحكم بما أنزل الله في عهده.. أم لم تقم.
والمسلم الذي يرضى بأن تُحكَمَ جوانب الحياة بمنهجٍ غير منهج الله _عز وجل_، أو يرضى بسيطرة أية قوّةٍ باغيةٍ على مفاصل الحياة في بلده بأي شكلٍ من الأشكال، ولا يسعى لتغيير هذا الواقع بالجهاد، وبمقتضى الحديث الشريف “مَن رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان” (مسلم).. وحسب الإمكانية القصوى والظروف المتاحة.. فهو مشرك؛ لأنه قعد ورضي بواقع الظلم والحكم بغير ما أنزل الله، ورضي بالظلم منهجاً تفرضه القوى الطاغية الباغية على شعبه وأمّته وبلده!
لماذا؟!
– لأنّ التفريط بالجهاد.. سيؤدي إلى التفريط بأصل الإيمان الأول (لا إله إلا الله)، والتفريط بأصل الإيمان.. سيؤدي إلى التفريط ببعض الإسلام، والتفريط ببعض الإسلام.. سيؤدي إلى التفريط بالإسلام كله، وبالتالي سيؤدي إلى الخروج الكامل عن الإسلام.. أعاذنا الله من ذلك وأجارنا، وجعلنا من المجاهدين المخلصين في سبيله.
لذلك، فإن مجاهدة المخططات الأجنبية، ومقاومتها، ومقاومة احتلالها، مهما كان شكله أو صورته أو أسلوبه، ومقاومة كل القوى التي قدمت على ظهور دباباتها أو تتواطأ معها.. والوقوف بوجه عملائها من أنظمة الحكم أو الأحزاب أو التشكيلات أو المؤسسات أو الهيئات أو الأشخاص.. والعمل على إفشالها وطردها وإسقاطها.. هو فرض عَينٍ على كل مسلمٍ حتى يتحقق تحرير الأوطان والبلدان والإنسان بشكلٍ كامل، وتتحقق بالتالي معاني العبودية لله _عز وجل_ وحده في الأرض.
ماذا يعني ترك الجهاد؟!
لنناقش ذلك بالمنطق الذي بدأنا به:
– إنّ ترك جهاد النفس: سيؤدي إلى خروجها عن الهدى، فتنحرف وتصبح عوناً للطاغوت الذي لا يحكم بما أنزل الله.
– وترك جهاد الشيطان: سيؤدي إلى الانحراف عن منهج الله، والتنقّل بين المناهج الوضعية الظالمة المختلفة، والضياع في متاهاتها.
– وترك جهاد الظلمة والمنحرفين: سيؤدي إلى سيطرتهم على مقاليد الأمور، وتسييرهم الأمةَ كلها وفق أهوائهم وانحرافاتهم وضلالهم ومناهجهم الظالمة الطاغية الباغية.
– وترك جهاد الكافرين والمنافقين: سيؤدي إلى ضعفٍ عامٍ للمسلمين، وإلى سيطرة أعدائهم عليهم وعلى أرضهم وبلادهم، ثم على عقولهم وأخلاقهم ومواردهم وثرواتهم.. ما يؤدي بالنتيجة إلى دمارٍ شاملٍ للأمة، وهلاكها، حين يقبل أبناؤها بوقوعها رهينةً بأيدي العدوّ الكافر الضال الظالم المعتدي!..
إذن: ترك الجهاد، سيؤدي إلى حصيلةٍ كارثية، نجملها في نتيجتين مدمِّرتين للفرد المسلم وللأمة المسلمة، حدّدتهما الآية الكريمة التالية:
“إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” (التوبة:39)
أي: إِلاّ تَنْفِرُوا (إن لم تجاهدوا):
1- يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً (وهو الشقاء الدنيوي المروِّع، فضلاً عن عذاب يوم القيامة)!..
2- وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ (وهو الهلاك العام الشامل والزوال التام والذلّ العام والعبودية للظالمين الطغاة والأعداء)!
وقد أجمل رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ نتائج ترك الجهاد بالحديثين الشريفين التاليين:
1- “إذا تَبايَعْتُم بالعِينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد.. سلّط الله عليكم ذلاً (أي عبوديةً) لا ينـزعه عنكم إلا العودة إلى دِينكم (أي العودة إلى منهج الله _عز وجل_ وشرعه)”. (رواه أبو داوود وصححه الحاكم).
2- “توشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكَلَة إلى قصعتها (لأنّ الأمة قاعدة هالكة ميّتة)، فقال قائل: ومن قلّةٍ نحن يومئذٍ؟!.. قال: بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل (أي كثيرون ولكن بلا شوكةٍ ولا وزنٍ ولا قوّة)، ولَيَنْزَعَنَّ اللهُ من صدورِ عدوّكم المهابةَ منكم (لعدم وجود قوّةٍ حقيقيةٍ لكم)، ولَيَقْذِفَنَّ في قلوبكم الوَهْن، فقال قائل: وما الوهْن يا رسول الله؟!.. قال: حُبُّ الدنيا وكراهيةُ الموت (لاستفحال الفساد وترك الجهاد فتصبح الحياة الدنيا هي الهدف)!..] (أبو داوود).
وبذلك تصبح الأمة -بترك فريضة الجهاد- هالكةً بلا شوكةٍ ولا قيمةٍ ولا وزنٍ حقيقيّ، تأكلها الأمم الأخرى، وتستهين بها، وتُذِلّها، وتُهينها، وتفعل بها الأفاعيل!.. ولسنا بحاجةٍ لسرد عشرات الأمثلة الماثلة أمامنا بوضوحٍ، مما نعيشه واقعاً ملموساً محسوساً، ومما بدأ في الأندلس ولم ينتهِ في فلسطين وأفغانستان والعراق الحبيب!..
يتبع إن شاء الله