ثلاثية المكان: البادية ـ الريف ـ المدينة
[wpcc-script type=”9b311208a78b4aab16e45b3e-text/javascript”]

البادية ـ نبيل:
ريح الصحراء تراكم كثبان الرمل
ولكنْ
لا تمحو أثرا للخيلْ
اللغة الأمُّ ترتّبها
حدوات قوافل من مرّوا
كي ينجوَ من ضلّ إلى الماءِ
بما يقرأ في سِفْرِ خلاص العطشى
حيث الوشمُ على كفِّ البدويِّ
خلاصة تجربة الصحراء
دليل التائه
حين يحاصره الليلْ
لولا الريح لكانت تلك الخيمة دونَ حبالٍ
لا يهوى الرُّحَّل دقَّ الأوتادِ
ويضطرب البدويُّ إذا ما الخيمة
تحجز رائحة القهوة عن أصقاعِ الأرض
لذلك ينقلها حيث تشاء النوقُ
بأسنامٍ تعلنُ أن في البيد تضاريسْ
تثمل حين يغنّي حاديْ العيسْ
ولدت هذي الصحراء خضيضا
من رحم السّعنِ
وجّفت من وطأة تكرار القيظِ
ولم يكُ رملٌ فيها
وتشكّل في ظل سيوف الفتحِ
وبحث الأنساب عن الواحاتْ
البادية – مصعب:
يفتح عينيه على شفق أزرقَ
يمتدّ أمام العينِ
بلون الحبر الداكنِ
والياقوتْ
يصحو البدوي
وبعض الرمل على شفتيه
يحث خطاه إلى فوهة البير
فيرمي القربة نحو القاع
وترقد كل عفاريت الصحراء
وراء الآكام السُفلى.
البادية قرونٌ من تاريخٍ
لا يتسطّر إلا في الأحجار
ولا يمحوه المنتصرون
ولا يتلطى خلف السيف الدامي.
البادية أساطير
صارت وشما في الوجه..
وعولٌ شبّت في الوديان
ومخلبُ طيرٍ يدخل في حرشفة الأفعى
قد تغبرّ جفون الحلّاجات
إذا جاءت عاصفة الرمل.
وقد ينفضّ الغيمُ
ويُذبح آخر مهريٍّ في هذا المضرب.
قد يتردد صوت البارود العالي
ويُهال الثأر ترابا فوق وجوه رجال السهل القاحط
أو تشتعل خيامٌ في غارات بني قحطان
قد يشحب وجه العرافة في ديوان الشيخ
ويعوي الذئب الطاعن في مزدلفٍ لم يكشفه البدر على المرأى
لكن ستظل الخيمة دون مصاريعٍ
في وجة الآتي..
سوف تظل وشومُ البدو الرُحّلِ
رغم مناذير الأديان
نقوشا تحت تمائمهم
وستبقى البادية العذراء لأهليها
ميزانا
قد يتأرحج فيه في الذهب كسيحا
قرب الماء.
سوف يصير الرمل على شفة البدويّ كلاما
حين يُهال دم المهريّ على أثر الحنّاء.
الريف ـ نبيل:
الجدّة العمياءُ
تقطف كلَّ صبحٍ
ناضج الرمّانِ
تقرأ قشره واللونَ باللغة العتيقة في الأصابعِ
تحفظ السكان.. والأطفالَ
تاريخَ القرى
ودليلها عام الحريقِ
وبعدَه
عام الجفافْ
وتخيط جرحا في يد الحصّادِ
قد تركته أفعى
تمنحُ الماضين نحو الليل أدعية
تُمدُّ على اللحافْ
الجدّة العمياءُ
تعطينا المصابيحَ القديمةَ
كي نضيءَ الليل للغرباء
إذ ضلّوا العبورَ إلى اختصار طريقهم
إن القرى
هي أقصر الطرقات ما بين المدينةِ والمدينةِ..
والسكينةُ في عيون القادمين من الضبابِ
كشهوةِ القنصِ السّريعِ
وخطفِ أثداءِ العريشِ عن الشّفاهْ
يدنو الغريب لدفء صوفك عاريا
يختار ظهرك في الهجيع فلا تراهْ
قد جاء أبناء الضبابِ
ليشربوا ماء تبرّده الصخورُ
فزخرفوا أسماءهم
فوق القوارير الصغيرةِ
والكبيرةِ
كسّروا الجرّاتِ كي تُمحى وشوم الأمهاتِ
عن الكفوفْ
يوم استساغوا تيننا
حملوا السّياج من المدائن
رتّبوا الأغصانَ في فرضِ الحصارِ على الظلالِ
نعاجُنا تؤوي إلى دفء الحظائرِ
دونما ضرعٍ
وتشربُ من خوابينا
وتحلب في الرفوفْ
يا ريفُ لا ترفع لردِّ الطائرات عن الحقولِ
مناجل
دعْ سيّد الصحف الكبيرةِ في العواصمِ
يحتسي غيظا إذا جفّ الحليب ببيتهِ
واحرق سلالك في الكهوفْ
الجدة العمياء قد نزحت إلى الصّحراء
لكن لم تجد بدوا
تعين على الظمى
جلست تفكّر بالعمى
الريف ـ مصعب:
الفجر يجتاح الهضاب
بغيمه الداني إلى الهامات
قُطنا أبيض.
الشمس تنزل فوق أعناق الجياد
معيدة كل الفصول إلى الوراء
كأنما الأحقاب صِفرٌ
خلفه الرايات لم ترفع على الأرماح بعدُ.
كأننا سدَفٌ بلا قيعانَ
قبل الشمس
قبل شعاعها الهاوي على الوديان والواحات
والخشب الملوث بالطمى.
الناس والمحراث
والسفر الطويل إلى الأعالي
والرعاةُ
سيفتحون عيونهم
وكأنهم كانوا رقودا طيلة الأيام.
كأنهم قاموا وقالوا:
لم نرَ الأعشاب منذ الأمس
لم نُبصر جبالا تكتسي بالثلج
أو نخزن خمورا في جرار الطين.
العشب يكتسح السهوبَ
وندرةُ الأمطار تجعلنا شحوبا
والرّجال يهرولون إلى الحظائر
كلما هبّت بها النيران.
يا ليل
يا متواصلَ الغاراتِ
يا كابوسنا الممتدّ
فلتوقف هدير الطائرات
فإننا صرنا رمادا
يا ليل
إنّا نجمع الأحطاب
نقتلع الشتائل
ننحني كيما نعد خرافنا قبل المبيت.
الريف يغرق
والمدائن تشتري خبزا وشايا
الريف يُحرق كلما قدح الشرار
ودارت الأفلاك
وانكشفت عيوب العالم الحجري.
الريف تمشيه النساء من العيون إلى الذُرى
ويسدّ دين الآخرين
ويحصد الأشتال حتى يأكل المتمدّنون سنابل مقشورة..
ويخبّ في أوحاله الأطفال حتي يذهبوا للدرس..
تُنعث أرضه بالراجمات
ويصعدُ من منازله دخانٌ لا يُوارى.
عينا فتى في الحقل تصطليان نارا.
المدينة ـ نبيل:
نعُدُّ الأصابع كل مساء
فكم في براميل جمع القمامة
أشلاءُ من أخطأوا وقتهم
عند إغلاق أبواب ورشاتهم
أو تعطّل صندوق قطع التذاكر
هذا المكان يناور سكّانه
حين يظهر في شكل جسر أنيق
يحل ازدحام الشوارع نحو المشافي
يسهل تكرار طوف الجموع أمام تماثيل عمليقها
ويزيد المسافة بين الخطى والنوايا
هنا لا يرى العاملون الزّمانَ
يمرُّ بأجسادهم
حيث تلك المطارق ترسم شكل المدينة صبحا
وتكسر عند الغياب المرايا
سريعا نهاجم
حتى نفوز بكرسي باصٍ
يزاحمنا في خطانا إلى أي قصدٍ
تساؤلُ
أنْ هلْ قفلنا ثلاثا على البيت أبوابهُ؟
هل تركنا المصابيح تستهلك الكهرباءَ؟
وهل في الصباح جمعنا الغسيل عن الشرفاتِ؟
وأين سنقضي الإجازةَ؟
هل سوف نقضي الإجازةَ؟
كيف سيمضي النهار
إذا ما نسينا حبوب الصداعْ؟
تنبّهنا الحافلات
لرفق التعامل في غلق أبوابها
ثم تنثرنا للمشاعْ
تقول المدينة إن في المخازن قمح وفيرٌ
سيصبح خبزا إذا ما حرسنا الطريق إلى الفرن ليلا
سيصبح خبزا
إذا ما جعلنا القبور تشكل سور القلاعْ
المدينة ـ مصعب:
على رسلها تطلع الشمس
فوق المباني
رويدا.. بلا خشية من عواقب إبطائها.
وتحت الضياء العريض سيسعى الأنام
بقلب لهوجٍ.. وعينٍ تكافح كيما ترى
فالقطار السريع سيأتي ويذهبُ
والوقت يُفرم تحت الدواليب.
هذي المدينة صاخبة بحفيف ثياب الألوف
وصوت المطارق والرافعات
وحين تقوم القيامة لن تسمع النفخ في الصور
هذي المدينة يعبرها النهر صافٍ
فترفده بالقمامة والشحم..
ترفع حول الفتى ألف سورٍ من الخوف
حتى يُنافسَ كي يستحقّ الهواء
الذي قد يصادره البنك.
هذي المدينة
جوهرة في الشعاع المُدار
يحرسها الجند بالراجمات الثقيلة
نمضي بها بالمصالح..
تشخص أبصارنا كي نرى قيمة الصرف..
نغدو إلى الدار ليلا
ونخلع أقنعة لازمتنا
كأنّا نُزيل حديدا قديم اللّحام.
هذي المدينة قد أخبرتنا بأنّا نكون صغارا أمام الصروح
قد دربتنا لجزّ الحبال
وقطع الوشائج
حتى نخبّ سِراعا.
أيا موئل الطير في مُستراح المساجد
يا مَهلَك المرء حين يُريد الفؤاد سكونا
ويا قطعة من حديدٍ وطوبٍ.. تشدّ الفتى
ثم تعطيه حظا وفيرا من الاغتراب.
لماذا تشفّين عن كل هذي المعاني
وتمشين نحو الخراب.
لماذا لزامٌ على كل هذي العواصم
أن تكفهرّ إذا ما صرخنا
وترسل أجنادها بالحراب.
٭ شاعران من سوريا