ثورة داخل أجساد البشر… هكذا تنتصر البكتيريا على المضادات الحيوية (تحقيق)

ثورة داخل أجساد البشر... هكذا تنتصر البكتيريا على المضادات الحيوية (تحقيق)

سوء استخدام المضادات الحيوية

كتبت- ندى سامي

حمى أصابت بدن الصغير.. لم تفلح الوصفات المنزلية والأدوية في التخفيف من حدتها فكان اللجوء لأقرب مستشفى هو الحل الأمثل بالنسبة لشقيقته ليعطيه الطبيب المناوب جرعة من عقار البنسلين دون عمل اختبار أو حتى معرفة سبب الحرارة المرتفعة.

لم يقل مؤشر حرارة سامر صاحب الخمسة أعوام في الترمومتر وبدأ يغيب عن العالم، فأعطاه الطبيب جرعة أخرى إضافية لتتحسن حالته، بالفعل هدأت الحرارة ونام الصغير، وحاولت منى شقيقته تنفس الصعداء وقبل أن تلفظ زفيرها لاحظت تشنجات تسري في بدن أخيها أسفرت عن إصابته بشلل أطفال.. لم يستطع وضع قدمه على الأرض أو تحريكها بعدما حدث له ضمور في عضلات الفخذ الأيسر.

تحمل المضادات الحيوية تهديدًا خطيرًا على صحة الإنسان وتنهك الاقتصاد العالمي، وتقدر الخسائر السنوية الناتجة عن مقاومة المضادات الحيوية بما يتراوح بين 21000 و34000 مليون دولار في الولايات المتحدة الأمريكية، وبما يقارب من 1500 مليون يورو في أوروبا، وفقًا لتقرير لمنظمة الصحة العالمية، كان ذلك في الدول الأكثر وعيًا باستخدام المضادات الحيوية، فماذا عن الدول الأقل حذرًا؟

في السطور القادمة نتتبع أضرار المضادات الحيوية بصورة مباشرة أو غير مباشرة ونتائج استخدامها الخاطئ الذي يواجه سوق صناعة الدواء وتطويره ويهدد صحة الإنسان، بعدما تحولت تلك العقاقير إلى مصدر للوباء أو تصبح دون جدوى بعد أن تنتصر البكتيريا عليها.

خط الشيب رأسه ومازالت رجل سامر اليسرى أصغر من اليمنى بعد ضمور عضلات فخذه الذي أبطأ من معدل النمو الطبيعي له بسبب إعطاءه جرعتين من البنسلين دون داعٍ وعدم تناول العقار المناسب لنوع البكتيريا التي هاجمت جسده وكانت سبب الارتفاع الشديد في الحرارة ما أدى لحدوث الشلل.

خضع سامر لجلسات العلاج الطبيعي على مدار سنوات طويلة، وبين مستشفى أبو الريش والكثير من العيادات الخاصة، كان يتلقى العلاج الذي ساعده على التعايش لكنه حرمه الحياة الطبيعية لطفل حلمه أن يركل الكرة ويلعب مثل رفاقه بعيدًا عن جلسات العلاج والتمرينات القاسية التي استمر عليها حتى الكبر.

زاد وزنه مع التقدم في العمر وأصبح الاعتماد على القدم اليسرى أمرًا في غاية الصعوبة وبات العكاز ونيسه في خطواته الثقيلة، فسوء استخدام المضادات الحيوية سواء بجرعة زائدة أو ناقصة عن طريق عدم استكمال الجرعة المحددة، يؤدي إلى الإصابة بالأمراض الخطيرة بصورة غير مباشرة، بل أصبح الأمر أكثر تعقيدًا مع ظهور بكتيريا متنامية تواجه وتقاوم المضادات الحيوية وتتفوق عليها، ما يؤدي إلى تعرض المريض لمضاعفات خطيرة قد تؤدي إلى الوفاة.

صراع البكتيريا “والأنتي بيوتك”

تحدث المقاومة عندما تتغير البكتيريا وتصبح مقاومة للمضادات الحيوية المستخدمة في علاج العدوى المسببة لها، فسوء الاستخدام يزيد فرص ظهور البكتيريا المقاومة، ويشير مسح أجرته منظمة الصحة العالمية إلى بعض الممارسات الخاطئة، والثغرات في الفهم، والمفاهيم المغلوطة التي تسهم في استخدام المضاد الحيوي بصورة خاطئة، وكانت مصر إحدى الدول التي تم تطبيق المسح عليها.

المضادات-الحيوية

المضادات الحيوية تهدد الحياة بعد العمليات الجراحية

آلام شديدة في الظهر لم يستطع مقاومتها محمد شهاب، شاب ثلاثيني.. بدأ بتناول المسكنات التي لم تجد نفعًا فذهب للطبيب لعله يصف العلاج المناسب لحالته، لكنه فوجئ بضرورة إجراء عملية جراحية في العمود الفقري، تردد كثيرًا لكن عدم احتمال الألم جعله يستسلم لمشرط الأطبة ويجري عملية جراحية دقيقة في العمود الفقري.

قالت صحيفة “ذى صن” البريطانية في تقرير لها، إن هناك أكثر من 3 ملايين عملية جراحية قد تكون قاتلة عند عدم استجابة الجسم للمضادات الحيوية الموجودة، في حال مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية، بسبب سوء استخدامها، وذلك ما حدث مع محمد شهاب.

سوء استخدام محمد للدواء وإسرافه في تناول جرعات من المضادات الحيوية دون إشراف الطبيب جعله يواجه الموت، فبعد أسبوع واحد من الجراحة ارتفعت درجة الحرارة بالإضافة إلى آلام الظهر الشديدة التي لم يقو على تحملها، وصف له الطبيب أكثر من نوع مضاد حيوي جديد غير التي وصفت بعد العملية مباشرة، لم تهدأ الحرارة بل ازداد وضعه سوءًا، طلب منه الطبيب عمل تحليل مزرعة لاختبار أي نوع من المضادات الحيوية مناسب لحالته، ولكن جاء التحليل بوجود مقاومة لجميع أنواع المضادات الحيوية.

أمر الطبيب المعالج بإيقاف جميع أنواع المضادات الحيوية لمدة 48 ساعة ثم إعادة التحليل مرة أخرى، فظهر نوعًا واحدًا فقط لم تقاومه البكتيريا ويسمح بتناوله.

حُقن جسد محمد بـ24 حقنة بنوع المضاد الحيوي الوحيد المسموح به، لكن لم تتحسن حالته وأخبر الطبيب أسرة المريض أنه قام بما في وسعه ولم يعد هناك مزيد من الحلول لأن جسده يقاوم الدواء.

في دراسة نشرتها الصحيفة تفيد أن الأرقام الجديدة تظهر أن عدد المرضى في المستشفيات الذين يعانون من عدوى شديدة مقاومة للعقاقير قد ارتفع بأكثر من الثلث، وتشير إلى أن ما يصل إلى ثلاثة ملايين عملية روتينية سنويًا يمكن أن تصبح مهددة للحياة في المستقبل إذا تفاقمت مقاومة الجسم للمضادات الحيوية.

أوضحت الدراسة أن زيادة المقاومة تعنى أنه قد لا توجد أدوية فعالة متبقية في غضون بضع سنوات، وأشارت إلى أنه في العام الماضي أصيب أكثر من 16 ألف و500 شخص في بريطانيا بأمراض ربما تهدد الحياة، ولم تستجب للمضادات الحيوية القياسية، وأن هذا العدد ارتفع بنسبة 35 % بالمقارنة بـ12 ألف و250 في عام 2013.

عادل شهاب، أخو المريض، يعمل طبيب باطني قرر أن يوقف استخدام جميع أنواع المضادات الحيوية التي يتناولها أخوه، حتى النوع الوحيد المسموح به.. “تركت الأمر لمناعته بعد التوكل على الله”، بدأت حالة محمد تتحسن بالتدريج ولكنه لا زال يعاني من آثار جانبية مزمنة سترافقه طيلة حياته، فلم تعد المضادات الحيوية تجدي نفعًا في جسده الذي تغلب على جميع الأنواع في انتظار أبحاث جديدة أو أنواع مطورة من المضادات الحيوية تتغلب على تلك البكتيريا وتعالج ما أتلفه سوء الاستخدام.

في نفس السياق أكدت دراسة أجراها الدكتور شهاب العنزي والدكتورة هالة محمود قورة، بقسم طب الأطفال شعبة البحوث الطبية بالمركز القومي للبحوث، بعنوان “أضرار تعاطي وتناول الأدوية عشوائيًا وخطورة ذلك على الجهاز المناعة”، أن تعاطي الأدوية عشوائيًا يؤدي إلى ظاهرة مقاومة المضادات الحيوية، والتي تؤدي إلى مشاكل كبيرة على المدى الطويل كما أنها تهدد خلايا الكلى والكبد ونخاع العظام، ـ وهو ما حدث مع محمدـ ما يؤدي إلى عدم قدرة جهاز المناعة على محاربة الميكروبات وتعطي مناعة للجراثيم.

أوضحت الدراسة أن تناول الأدوية عشوائيًا يقتل الجراثيم المفيدة للجسم، ويترك الجراثيم الضارة، وأشارت إلى أن أكثر الحالات التي يتم استعمال المضادات الحيوية فيها بشكل عشوائي هي التهاب الأعضاء التنفسية العلوية مثل الإنفلونزا ونظرًا لشيوع هذه الحالة المرضية بشكل كبير، فإن كثيرًا ما يتم اللجوء لتناول المضادات الحيوية بشكل تلقائي دون استشارة الطبيب.

يقول الدكتور إسلام حسين، المختص في علم الفيروسات في محاضرة اكتشاف وتطوير مضادات الفيروسات من منظور صناعي في مجلة للعلم، إن عصر مضادات الفيروسات بدأ عام 1962 باكتشاف أول عقار من المضادات الحيوية، ومنذ ذلك الوقت وافقت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية على 80 عقارًا مضاد للفيروسات، ويشير إلى أن بعد حوالي 50 عامًا لم تصل أعداد مضادات الفيروسات لأكثر من 100 عقار يستخدمهم البشر.

يوضح “حسين” أن أغلبية المضادات الحيوية تهتم بالفيروسات التي تسبب العدوات المزمنة، وفعاليتها وتستطيع مقاومة عدد كبير من الفيروسات، وأسهمت بعض هذه العقاقير بشكل كبير في التعامل مع حالات مرضية صعبة، يستطرد: لا يزال هناك المزيد من العقاقير في طريقها للظهور مع استمرار زيادة التحديات المصاحبة للأمراض الفيروسية، خاصةً مع انتشار حالات العدوى الجديدة حيوانية المصدر، وظهور مقاومة للمضادات الحيوية.

رضيعة في شهرها الأول تعاني من التهابات حادة في منطقة الحفاض، لم تجد العلاجات الموضوعية في تحسن حالتها بل زادتها سوءًا، وصف لها الطبيب مضاد حيوي فعال للتخلص من الالتهابات، الدواء لم يحسن حالتها فقررت منال محمد والدة الصغيرة زيارة طبيب آخر والذي وصف لها مضاد حيوي آخر غير التي تناولته فيما قبل، وازدادت حالتها سوءًا ولم تكف نيروز عن البكاء حتى بعد تناول 3 أنواع مختلفة من المضادات الحيوية.

[wpcc-iframe src=”https://www.youtube.com/embed/4tlde4geGcw” width=”560″ height=”315″ frameborder=”0″]

الدكتور محمد جمال، مدرس مساعد طب الأطفال وحديثي الولادة قسم صحة الطفل المركز القومي للبحوث، يوضح أن الالتهابات التي تعاني منها الصغيرة كانت بسبب عدم تحمل اللاكتوز أو مرض “عوز اللاكتوز” المشكلة تكمن في نقص في الأنزيم المسئول عن تكسير سكر اللاكتوز الموجود في لبن الأم والعلاج الوحيد لها هو عقار يحوي على ذلك الأنزيم غير متوفر سوى في أمريكا.

يوضح “جمال”، أن المضادات الحيوية المختلفة التي تناولتها الصغيرة سواء الموضعية أو عن طريق الفم زادت من سوء الحالة عن طريق قتل البكتيريا الحميدة المبطنة للجهاز الهضمي، ولم تجدِ أي من المضادات الحيوية نفعًا في حالتها، ويؤكد أنه من البداية لم تكن الحالة تستدعى لتناول أي مضاد حيوي، مؤكدًا أن ذلك أخر العلاج وعرض الصغيرة لقرح شديدة.

تحسنت حالة نيروز بعدما تناولت العقار، وعلى مدار أكثر من عام ونصف يتابع الدكتور محمد جمال حالة الرضيعة ولم يصف لها أي مضاد حيوي، يؤكد أن حالة نيروز لم تكن الوحيدة فهناك الكثير من الحالات التي تضررت بسبب تناول المضادات الحيوية دون داعي، كما يشير إلى أهمية اتباع التعليمات الصحيحة لتناول الدواء درئًا للمشكلات التي يتعرض لها الكثير من الأطفال بفضل سوء الاستخدام.

[wpcc-iframe src=”https://www.youtube.com/embed/rTtAZGZ3E3A” width=”560″ height=”315″ frameborder=”0″]

نماذج من التحاليل التي رصدها الدكتور محمد جمال في رحلته التي تبين مدى مقاومة المضادات الحيوية في أجساد الأطفال:

[wpcc-iframe src=”https://drive.google.com/file/d/1U1gT8bswxfiyRYkiqYVguiSFIvIpLitF/preview” width=”640″ height=”480″]

الحيوانات قد تبطل مفعول المضادات الحيوية

دائرة مفرغة تدور حلقاتها متصلة في نفس الفلك قد تدخل الحيوانات في مسارها، بل يمكن أن تكون أحد الأقطاب الرئيسية التي من شأنها انتشار مقاومة المضادات الحيوية، في تحذير شديد اللهجة نشرت منظمة الصحة العالمية تقريرًا بعنوان “أوقفوا استعمال المضادات الحيوية في الحيوانات المتعافية للوقاية من انتشار مقاومة المضادات الحيوية”.

أوصت منظمة الصحة العالمية في تقريرها بأن يمتنع المزارعون ودوائر صناعة الأغذية عن الاستعمال الروتيني للمضادات الحيوية لأغراض تعزيز النمو والوقاية من المرض في الحيوانات المتعافية.

[wpcc-iframe src=”https://www.youtube.com/embed/4DVu0gE7nAQ” width=”560″ height=”315″ frameborder=”0″]

يسهم فرط استخدام المضادات الحيوية وإساءة استخدامها في الحيوان والإنسان، في تفاقم خطر مقاومة المضادات الحيوية فقد طور بعض أنواع الجراثيم التي تسبب حالات العدوى الخطيرة في البشر، مقاومة بالفعل لمعظم العلاجات المتاحة أو كلها، ولم يتبق إلا قلة قليلة من الخيارات الواعدة قيد التطوير.

اتخذت العديد من الدول إجراءات بالفعل للحد من استعمال المضادات الحيوية في الحيوانات المنتجة للغذاء، ومثال على ذلك، أن الاتحاد الأوروبي قد حظر منذ عام 2006 استعمال المضادات الحيوية في تعزيز النمو كما يقف المستهلكون وراء دفع الطلب على اللحوم التي تربى دون الاستعمال الروتيني للمضادات الحيوية.

اعتمدت بعض السلاسل الغذائية الكبرى سياسة “الخلو من المضادات الحيوية” في إمدادات اللحوم التي تستخدمها، وذلك عن طريق عدم التعامل مع المزارع التي تستخدم مضادات حيوية بكثرة لتعزيز النمو أو دون تقنين.

على مقربه من الستين ينظر إلى ساقه الصغيرة التي لم تعد تتحمل وزنه ويصاحب سامر عكازه في الذهاب والإياب، ويتذكر سنوات مديدة من عمره وهو يدفع خطأ جرعتين من البنسلين حقنتا في جسده دون داعي وعدم تناول جرعة المضاد الحيوي التي تتكافأ مع نوع البكتريا التي هاجمت جسده وهو صغير.

بينما محمد يقضي شبابه طريح الفراش يعاني من الكثير من الأعراض الجانبية بعد إجراء العملية، ويخشى من التعرض للإصابة بدور برد أو حتى جرح صغير لأن مناعته تقاوم جميع أنواع المضادات الحيوية والدواء لا يجدي نفعًا في حالته، ففرضت عليه العزلة التي كان هو أحد أسبابها بسبب إفراطه في استخدام المضادات الحيوية.

أما عن نيروز تخطت الأزمة الصحية التي تعرضت لها وتحسنت حالتها، وكسرت حاجز العامين دون أن تتناول جرعة واحدة من المضادات الحيوية، فقويت مناعتها بعد أن كادت المضادات الحيوية تقضى عليها.

Source: elconsolto.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *