ما أكرم الله سبحانه، وما أوسع جوده، وما أجزل عطاءه، وما أعظم خيره وبره.
سألناه فأعطانا، ودعوناه فأجابنا، ورجوناه فحقق رجاءنا.
سألناه ودعوناه ورجوناه أن يبارك في أعمارنا، ويمد في آجالنا حتى نبلغ رمضان، فأعطانا سؤلنا، وحقق رجاءنا، وبلَّغَناه بفضله ورحمته.. فالحمد لله حمدا كثيرا. {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}(يونس:58)
شهر الفضائل
جاء رمضان.. فهلت أنوار القرآن، وفاضت عطايا الرحمن، وفاحت نفحات الجنان.
جاء رمضان.. شهر القرآن، شهر الغفران، شهر الإيمان، شهر الصيام، شهر القيام.
جاء رمضان.. شهر التجارة الرابحة، والفرص السانحة، والعفو والمسامحة.
جاء رمضان.. عظيم الهبات، كريم النفحات، واسع الرحمات.
جاء رمضان.. شهر يتنزل فيه العطاء، ويتحقق فيه الرجاء، ويرفع فيه الدعاء، وتفتح فيه أبواب السماء.
جاء رمضان.. أيام غراء، وليال زهراء. لها في القلوب مكانة، ولها في النفوس منزلة، باركها الرحمن، وخلدها القرآن، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ}(البقرة:158).
جاء رمضان.. ليغرس في نفوسنا الرحمة، وفي قلوبنا التقوى، وفي صدورنا الخشية.
جاء رمضان.. ليطهر قلوبنا، ويزكي أخلاقنا، ويرشد أعمالنا، ويصلح عاداتنا، ويقربنا من خالقنا وإلهنا ومعبودنا.
إن بلوغ رمضان نعمة لا يزهد فيها ولا يفرط فيها إلا من جهل قدر رمضان، وغابت عنه فضائله.. فإن الله قد أودع فيه من الفضائل وجمع له من المكرمات ما لا يجتمع في سواه:
فيكفيه فخرا: أنه الشهر الذي اتصلت فيه السماء بالأرض، فبدأ فيه الوحي، وانطلقت من إحدى لياليه الرسالة، فحلت بركات السماء على الأرض.
يكفيه فخرا: أنه الشهر الذي ابتدئ فيه نزول القرآن كلام الله، خير كتاب أنزل، على خير نبي أرسل، إلى خير أمة أخرجت للناس، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}.
بل فيه أنزلت كتب السماء كلها، كما روى الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان).
يكفيه فخرا: أن فيه ليلة القدر التي جعلها الله خيرا من ألف شهر، {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْر}(القدر:3ـ5)، وقال عليه الصلاة والسلام: (فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم)(صحيح النسائي).
يكفيه فخرا: أن الله جعله محلا لعبادة الصيام التي هي من أحب العبادات إلى الله وهي له من دون الأعمال، كما جاء في الحديث: (كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها قال الله إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي)(متفق عليه).
يكفي رمضان فخرا: أنه شهر مضاعفة الأجور والحسنات، ورفع الدرجات، كما في الحديث “عمرة في رمضان تعدل حجة” متفق عليه
يكفي رمضان فخرا: أنه شهر دخول الجنان والعتق من النيران: قال عليه الصلاة والسلام: (إذا كان أول ليلة من رمضان صُفِّدَت الشياطين ومردة الجن وغُلِّقَت أبواب النارفلم يفتح منها باب وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب وينادي مناد كل ليلة يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة)(رواه البخاري).
وروى البخاري عَنْ سَهْلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ الله عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ فِي الجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ)(رواه البخاري ومسلم).
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال صلى الله عليه وسلم: (الصيامُ والقرآنُ يَشْفَعانِ للعبدِ، يقولُ الصيامُ : أَيْ رَبِّ ! إني مَنَعْتُهُ الطعامَ والشهواتِ بالنهارِ، فشَفِّعْنِي فيه، ويقولُ القرآنُ : مَنَعْتُهُ النومَ بالليلِ، فشَفِّعْنِي فيه ؛ فيَشْفَعَانِ).
بكفي رمضان فخرا أنه شهر الفرح في الدنيا والآخرة: ففي صحيح مسلم: قال صلى الله عليه وسلم: (لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ). فالفرحة الأولى بتمام النعمة وإكمال العبادة، والثانية بعظيم الأجر والمثوبة.
رمضان شهر الدعاء المستجاب:
روى البيهقي بسند حسن عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثُ دَعواتٍ لا تُرَدُّ: دعوةُ الوالِدِ لِولدِهِ، ودعوةُ الصائِمِ، ودعوةُ المسافِرِ)(صحيح الجامع).
وفيه أيضا (ثلاث لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حين يفطر، ودعوة المظلوم).
وفي سنن ابن ماجة عن عمروا بن العاص مرفوعا: (إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد).
فأكثروا من الدعاء لأنفسكم وأبنائكم وأحبابكم، وأكثروا الدعاء لوالديكم، ولا تنسوا الدعاء لإخوانكم المسلمين المستضعفين، أن يحقن دماءهم، ويستر أعراضهم، ويجبر كسرهم، ويرحم ضعفهم، وأن يؤوي مشردهم، ويشفي مريضهم ويرحم ميتهم، وادعو الله تعالى دعاء حارا أن ينصر الإسلام ويعزه ويرفع رايته على كل من عانده وعارضه وحاربه.
واحذروا من الذنوب التي تمنع إجابة الدعاء، من أكل الربا، وظلم الخدم والمساكين وعموم المسلمين، ومن أكل مال الناس بالباطل، ومن عموم أكل الحرام فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر الرجل يطيل السفر أشغث أغبر يمد يديه إلى السماء يارب يارب ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له.
رمضان شهر المغفرة:
شهر رمضان تكثر فيه أسباب المغفرة، وكأن التوبة والمغفرة من أعظم مقاصد هذا الشهر الكريم:
قال صلى الله عليه وسلم: (مَن صامَ رَمَضانَ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ)(رواه البخاري ومسلم).
وفيهما أيضا، قال عليه الصلاة والسلام: (مَن قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ)(متفق عليه).
وفي حديث مالك بن الحويرث قال: (صعِد رسولُ اللهِ المنبرَ فلمَّا رَقِيَ عتبةً قال: آمينَ. ثمَّ رَقِيَ أُخرَى فقال: آمينَ. ثمَّ رَقِيَ عتَبةً ثالثةً فقالَ: آمينَ، ثمَّ قال : أتاني جبريلُ فقال: يا محمَّدُ! مَن أدرك رمضانَ فلم يُغفَرْ لهُ فأبعدَه اللهُ. فقلتُ: آمينَ……) الحديث.. وهو حسن صحيح.
فبادروا إلى التوبة النصوح، وأعلنوا لربكم عزمكم على ترك المعاصي، والعودة والإنابة واصدقوا في هجر المحرمات، وترك ما يغضب رب الأرض والسموات، أعلنوها صريحة كما أعلنها آدم وزوجه: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(الأعراف:23)، وقولوا كما قال موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(القصص:16)، وكما قال أيوب: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}(الأنبياء:83)، ونادوا كما نادى يونس بن متى فِي الظُّلُمَاتِ: {لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}(الأنبياء:87).
وكما علم النبي أبا بكر رضي الله عنه حينما سأله أن يعلمه دعاء فقال له قل: (رب إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم)(رواه البخاري والترمذي).
فاطرق باب الكريم، وقف في صفوف التائبين، فإن فتح لهم فادخل دخول المتطفلين، فإن طردت فقل يارب مسكين فتصدق علي فإنما الصدقات للفقراء والمساكين. اللهم تب علينا توبة لا تسخط علينا بعدها أبدا.