كان بودها لو أنها تغرز يديها في خبز الطابون أو تلف أصابعها حول عنق الزير تملأه من بئر الماء في طرف القرية بدل أن تغرزها في رقبة ذاك الجندي المحتل لقريتها الخليلية ولكل فلسطينها.
“الجدار لن يمر في أرضي.. لن تقلعوا زيتوني وتقتلعوني”.. لكن القصة لم تعد قصة جدار وأحجار، فثمة في جنوب الوطن، جدران تهدم على ساكنيها. أطفال يتناثرون أشلاء في أحضان أمهاتهم وعلى بدايات الأزقة التي لا نهاية لها إلا هناك حيث اقتلع الجد والأب ذات 48 عام النكبة.
هناك في الجنوب ثمة مخيم يستشهد يذبح من الوريد إلى الوريد. بيوت لا تحمل مواصفات هندسية نموذجية، أقيمت مؤقتًا بانتظار العودة. شوارع بالكاد تتسع لعربات تجرها الحمير. أرصفة تتداخل مع العتبات وعتبات بالكاد تمنع المطر من مداهمة النائمين. الأباتشي لا تعترف بمواصفات ولا الصواريخ تلتزم بأصول الحرب.
اجتياح أم غزو أم إبادة؟ مذبحة أم مجزرة أم عدوان؟ احترنا ماذا نسمي اليوم الأول وشهداءه العشرين ثم اليوم الثاني وشهداءه السبعة عشر، ثم .. ثم أعلناها “مفتوحة”.. ليقرر يعالون أنها “أسابيع” وجيشه مستعد لاحتلال مخيم جباليا وبيت حانون وكل القطاع. يا لقطاع الطرق وقطعان الغنم في الحظيرة العربية!
يسميها شارون أيام الندم على قصف (سدروت) بصواريخ القسام، لكأنه يغمس لسانه في حبر التوراة ويلعق تاريخ العبرانيين، وثمة من يصدق، حتى من تلك الأصوات في المجلس التشريعي التي نادت بوقف إطلاق القسام. وكأن شهية شارون للانتقام لم تفتح في صيف 1982م حين تمرد وقاد جيشه إلى بيروت أو أنه لم يشرب دم صبرا وشاتيلا، أو أنه ليس هو الذي استفز الفلسطينيين في مسجدهم الأقصى لتنطلق الانتفاضة الثانية.
صحيح أن مخيم جباليا يذبح، لكن ثمة صمود بنكهة الانتصار، فهؤلاء المحاصرون المقتولون احترفوا فن الحياة بين القبور وعقدوا تحالفًا مع سر البقاء، اليهود لا يفهمون تلك اللحظة التي يتساوى فيها الموت مع الحياة، فيصبح أغلى منها لدى الفلسطينيين… فهؤلاء هاربون دائمًا إلى الخلف أو إلى الأمام.
الطفل غسان سالم يقول: “أنا هنا لأدافع عن أرضي، هؤلاء اليهود جاءوا لسرقتها ولن نسمح لهم”.
“أيام الندم” حولها الفلسطينيون إلى “أيام الفرج” نظموا حملة لمساعدة أشقائهم في مخيم جباليا وبيت لاهيا، مكبرات صوت مثبتة على سيارات تجوب الشوارع تدعو لإغاثة الإخوان. تبرعات عينية ونقدية ولولا الحصار لكانت جسدية أيضًا. حلي ومصروف يوم مدرسي وخضر في باحات المساجد وعند المساجد مربط الصراع. فلدى شارون واليمين الصهيوني إيمان بالفلسفة التي تقول: “ليس مهمًا ما يقوله غير اليهود، المهم ما يفعله اليهود”.
العرب أعداء اليهود في المنظور الإسرائيلي، لا يقولون وإن قالوا فلا وزن لكلامهم بعدما ذهبت ريحهم سدى وهم يلهثون مغمضي القلوب والعقول خلف أعدائهم. نصف اليهود من العالم اللامتوازن يشجب ويأسف للعنف الإسرائيلي ويخشى أن يندد حتى لا يحرم من صكوك الغفران. يطرد من جنة القوى الصهيونية المتغلغلة في أسواق المال والإعلام.
أما يهود اليهود في البيت الأبيض فإنهم يكتفون بمطالبة إسرائيل بعدم قتل الأبرياء، وشارون يقول: إنه لا يقصد قتلهم عندما يأمر الأباتشي بإطلاق الصواريخ على المخيم، فهو لا يستطيع انتقاء الهدف من بين هذه الزحمة من البشر في جباليا.
صواريخ القسام ليست السبب الحقيقي وراء إعادة احتلال غزة، بل إن الانسحاب “المشرف” لشارون هو الذي يدفعه لارتكاب هذه المجزرة، ذلك أنه من ناحية يرسخ صورة البلدوزر لدى الإسرائيليين ويشفي للمرة الأخيرة غليل حقده على العرب قبل أن يركن كثور عجوز في الذاكرة اليهودية، ومن ناحية ثانية يؤمِّن حسب اعتقاده المنطقة الجنوبية من صواريخ القسام التي يصنعها الفلسطينيون في مخارط حدادة في غزة ومخيماتها. لكن الذي قاد شعبه إلى مستنقع لبنان ولم يتعظ يقوده الآن إلى وحل غزة ولن يتعظ.
وحسب عوفر شيلح في “يديعوت”: فإن شارون يسير على مبدأ أحادية الجانب الذي تسير عليه إسرائيل دائمًا في الحرب والسلم، ويتمثل في الادعاء بعدم وجود شريك في الطرف الآخر. إلا أن هذا المبدأ سيكولوجي أكثر منه تكتيكيًا. فالأغلبية في داخلنا تنظر إلى إسرائيل مثل “فيل في الأدغال” وجزيرة من التقدم في بحر من الأصولية المتعصبة المتخلفة غير القادرة على مجاراتنا والتي لن تغفر لنا ذلك أبدًا، يضاف إلى هذه الحالة المزاجية حالة الإحباط النابعة من أن قوة إسرائيل غير كافية لتحرير مصيرها.
العام 1977م عندما طرح مناحيم بيغن خطة الانسحاب من سيناء اختلف معه وزير الزراعة في حكومته (شارون ما غيره) وتقدم باقتراح قال إنه أفضل من اقتراح بيغن. وفي عام 2000م عندما نفذ رئيس الوزراء يهودا باراك الانسحاب من جنوب لبنان ادعى شارون الذي كان زعيمًا لليكود ورئيسًا للمعارضة أنه اقترح الانسحاب منذ مدة وأنه لو قبل اقتراحه لما كان الانسحاب من الشريط الحدودي ليظهر مثل فرار إسرائيلي مذعور.
الآن شارون هو شارون وكرئيس للوزراء يعلن عن خطة لفك الارتباط عن قطاع غزة، لكنه يأمر في نفس الوقت جيشه بإعادة احتلال القطاع.
يفسر محللون إسرائيليون من مثل عوزي بنزيمان المتناقضة على أنها تعبر عن جدول أعمال خفي لديه يهدف إلى دفع أهدافه الشخصية إلى الأمام وأنه يرى أن مهمته تعزيز أمن إسرائيل من خلال الوسائل العسكرية والطوبوغرافية أكثر من ميله للتوصل إلى السلام.
لكن الحقيقة أن شارون صورة حقيقية لدولة الاحتلال منذ إنشائها، فما من دولة في العالم سنحت لها فرص العيش بسلام مع جيرانها مثل إسرائيل. وما من دولة تعسكرت حتى أذنيها وتحولت إلى ترسانة نووية ومع ذلك ظلت خائفة من الآخر قويًا أو ضعيفًا مثل إسرائيل، فالسلام بالنسبة لها يعني التأكد من أن أعداءها الذين تقتلهم لا يخرجون من القبور، ومخيم جباليا سيظل يخيفها حتى لو حولته إلى مقبرة.
المجلة(1288)