جدار العراقي صباح سلمان… الداخل من ألق الضوء

الفنانون في مختلف أجيالهم، اعتنوا بجدرانهم، وقوّموا وجودها وأزليتها، كما فعل الإنسان الأول في الكهوف. الجدران التي حكت وروت وقدمت نموذجها في أبهى صورة. من هذا نجد إن أي جدار لفنان، كان قد أعدَّ بعناية فائقة، وبدربة فكرية وجمالية خالصة. الجدار حين غدا طُرسا للفنان، فقد وضعه أمام مسؤولية كبيرة لا تختلف عن مسؤولية الإنسان […]

جدار العراقي صباح سلمان… الداخل من ألق الضوء

[wpcc-script type=”3fb528909fd33220339bc17a-text/javascript”]

الفنانون في مختلف أجيالهم، اعتنوا بجدرانهم، وقوّموا وجودها وأزليتها، كما فعل الإنسان الأول في الكهوف. الجدران التي حكت وروت وقدمت نموذجها في أبهى صورة. من هذا نجد إن أي جدار لفنان، كان قد أعدَّ بعناية فائقة، وبدربة فكرية وجمالية خالصة. الجدار حين غدا طُرسا للفنان، فقد وضعه أمام مسؤولية كبيرة لا تختلف عن مسؤولية الإنسان الأول الفطرية افتراضا، ولعل الفنان صباح سلمان ينطلق من المبدأ ذاته في وضع اللوّحة ضمن دائرة المحاوَرة، بحيث أن الضوء لديه نوع من الاختراق للساكن، وبلياقة فكرية. فالأساس المتوفر في جدار اللوّحة لم يكن معتما، سواء كان بمفهوم (الظلام والضوء) أو (غموض الأفكار) بل إنه إزاء ممارسات واضحة المعالم، حين استوفى شروط ممارسة الدخول إلى أبجدية الإرث القديم، ليكون مادته الناطقة على الجدار. إذ نراه هنا وهو يمارس فعل إدخال الضوء في شتى مستوياته، إنما راعى بذلك المتن أو المشغل الذي دخل ملكوته.

الأساس المتوفر في جدار اللوّحة لم يكن معتما، سواء كان بمفهوم (الظلام والضوء) أو (غموض الأفكار) بل إنه إزاء ممارسات واضحة المعالم، حين استوفى شروط ممارسة الدخول إلى أبجدية الإرث القديم.

وهو متن نراه عبر الممارسات في مجمل لوّحاته، موّلدا قناعات لهذه الأبجدية التي تومئ إلى متن حضاري، أي أنها عبر الفحص المعرفي، يكمن إرجاعها إلى أصولها في حضارة وادي الرافدين، بما أنتجته من حفريات معرفية، سواء كانت من خلال الجدار كلوّحة، أو الخزفيات والمنحوتات الأخرى على الطين والحجر. فالضوء هنا نوع من التعاشق الاستدلالي على وحدات فنية تأوي إلى بعضها لتشكّل معمارا موّحدا.


إن السطوع الذي يهدف إلى التجلي الصوفي والعشق لمكوّنات الجدار هو الدالّة على نوع العلاقة بين الفنان ومفردات الكوّن الشاسع والوجود الممكن والمتحرك بمعنى المتحوّل. فالضوء نوع من طقوس غائرة في القِدَم، يكشف عن استقرار روحي، ومحاولة التطلع إلى البعيد. لاسيّما إذا عرفنا أن الفنان مغترب منذ سنوات غير قليلة في مهجره في الغرب الحضاري. وهذا يُحسب إليه من خلال وعيّنا بأهمية الذاكرة الفردية وفعالياتها التي تُشير إلى التعلّق المكاني، أي الحلم بالمكان الأول. وهذا بطبيعته عامل أساسي لفنان كما يبدو لي اكتملت أدواته المصاحبة لفعله الجمالي من جهة، ولبلوغ متنه الفكري الموازي بإرادة لفعله اليدوي من جهة أخرى. أي أن ما هو متوفر على جدار اللوّحة بكل عناصرها يُشير إلى التوازي والموازنة في خلق المعنى.
إن ما يُثير في تمثل الضوء في لوّحة سلمان هو التنوع الإيقاعي في مواقع اللوّن وأسلوب تعاشقه مع غيره. فاللوّن (الضوء) الداخل إلى جسد اللوّحة هو ليس اختراقا لمجمل الألوان الأخرى، بقدر ما هو باحث عما هو بحاجة التسلل إليه لكسر العتمة الجزئية أولا، ومن ثم وعبر هذا النوع من التسلل ـ تصبح للضوء الساطع والروحاني هيمنة روحانية تكسر الفواصل المعتمة، وتجسدها على أنها وحدات مكانية، تُسهم في بلوّرة المفهوم العام لمتن فكري، يصوغ مفرداته بجمالية شعرية. لأن اللوّن ومنه الضوء صياغة، هو نوع كما الأسلوب الشعري، الذي يحوّل كل ما هو ذاتي إلى كوّني. فمن الأصفر يكتشف العلاقة البنيوية بينه وبين الأحمر، بما يتوفر على إمكانية صياغة اللوّن المعبّر فعلا عن تلك الرؤى التي هي بمثابة تجليات صوفية خالصة. وهذا أيضا ما يترك على ذائقتنا نوعا من فهم اللوّن كوّنه محايدا، لا يخلق نوعا من الصدمة أو الدهشة السلبية، بل إنه يؤاخي في المشاعر، لأنها في الأساس نوع من التجليات ــ كما ذكرنا ــ هذه الليونة والمرونة في الألوان جعلها أكثر حيادية وتماسكا في مواجهة الذات الأخرى، بدون صدمة تُفسد التلقي.
إن التوفر على الضوء، وسيادة التنوع في الألوان، هو الذي مكّن اللوّحة من أن يكون لها استقرار منطقي، سواء كان هذا الاستقرار منتجا معرفيا خالصا أو ذاتيا موضوعيا ممتزجا كثقافة ومعرفة ورؤى. ما نتوصل إليه من العلاقة بين الضوء وصياغة اللوّن في لوّحة سلمان كوّننا تمثلنا المواجهة الأكثر تركيزا في استقبال فعالية الألوان التي صاغت الضوء، الذي هو مركز أساس في ما هو ناتج نهائي للوّحة الفنان.

معمار اللوّحــة

لوحة الفنان صباح سلمان تبدو مكتفية بذاتها، ومكتسِبة أسس معمارها من خلال فعالية ذات الفنان. غير أنها في وجه آخر، تتضح ممارساتها البنيوية عبر تمسكها بالذاكرة، التي هي فردية وجمعية في آن. فوحدات اللوّحة الأساسية تكتسب مكملاتها من لدن نشاط الجينات المعرفية التي أشرنا إليها سابقا.

التوفر على الضوء، وسيادة التنوع في الألوان، هو الذي مكّن اللوّحة من أن يكون لها استقرار منطقي، سواء كان هذا الاستقرار منتجا معرفيا خالصا أو ذاتيا موضوعيا ممتزجا كثقافة ومعرفة ورؤى.

فالذاكرة تستدعي أهم ركيزة معرفية هي العلامات الفارقة في تكوينات العقل الأول وتدوينه على لقى الطين، وزخرفة الحجر وتطويع صلابته، بتحويله من صامت إلى صائت، أي بث الروح فيه، لكي تعبّر عن تشكيلات متباينة ذات صفات جمالية. إن الفعل الفني الإبداعي الذي يميّز لوّحة الفنان؛ هي استعارتها شكل اللقى القديمة، وأحيانا تشكيلها على كُتلة ذات محتوى سردي أو خطي جمالي. وهي لقى تمتاز بالأناقة المتأتية من طبيعة التقدير الذي تحظي به تلك الموروثات في ذائقة الفنان. فهو ينطلق من اعتبارات أخلاقية للموروث. وهذا سحبه إلى التقدير الفكري لما يجده أكثر تمكّنا من الاستعارة والحضور الجمالي، بما يخلق فسيفساء اللوّحة. إنها باستعارتها لتشكيلات الموروث، إنما خلقت معمارا جماليا للوّحة أو تزويق جدارها. وهو فعل إبداعي يقترب بالسمات العامّة من اجتهادات الفنانة المعمارية زها حديد في كسرها للجدار التقليدي والأبعاد الهندسية التقليدية، من خلال اجتراح جدران منحنية بدلا من الاستقامة وتشكيل الزوايا. وهي خاصية بنائية أقرب إلى الانسيابيات الشعرية، بسبب مرونة المنحنيات وسيلان مسارها الذي يواكب حركة الريح والرمال، كما حصل أن تجسد ذلك في تشييدها معماريا جسر الشيخ زايد في أبو ظبي. فهي أخذت من الشعر؛ شعرية المخيّال ووظفته في أدق تفاصيله، واستفادت من الجسد لتعطي معنى مثيولوجيا لعلاقة الجسر كموصل بين ضفتين، ومنغمر في ماء النهر. فهو أقرب لجسد أنثوي فائق الفتنة. من هذا نرى في لوّحة سلمان نوعا من ابتكار الشكل، والاجتهاد في جعله أكثر مرونة، وأكثر تعلقا بالمخيلة الفنية منها إلى الصنعة. نحن كفاحصين بصريا للمنتج، نتوقف على الأناقة كما ذكرنا. وهي أناقة دالّة على قدرة الفنان على الاستعادة والمزج، لتحويل كل مقوّمات الشكل العام والخاص إلى ابتكار معماري ذاتي، أي يخص الفنان.
لقد اشتغل معظم الفنانين العراقيين على مثل هذا النوع من التجديد في اللوّحة، بخلق ما يُعينها، سواء بالاستعارة، أو بالابتكار، كما فعل رافع الناصري مثلا، لكن التباين كان واضحا بينهم، لأن الفنان العراقي ينطلق من رؤى فكرية، تسندها مُعينات معرفية خالصة. والفنان سلمان بهذا الجُهد الدقيق الذي وجدناه أقرب لجُهد الصائغ، أو صانع المنمنمات الصغيرة. وهي حِرفة صعبة، تتطلب إمكانية السيطرة على مستويين، الأول: صناعة الأجزاء، والثاني: خلق كلّيات متوائمة للمنمنمة أو الحُليّة. بينما نجد الفنان يمارس مثل هذا الجُهد من خلال النتائج، ونقصد به اللوّحة في صيغتها النهائية.

٭ ناقد عراقي

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *