جمالية الطمس والتشظي في أعمال التونسي عمر الغدامسي
[wpcc-script type=”c4993128816dafdd2f38a0c7-text/javascript”]

■ أعمال الفنان التشكيلي التونسي المعاصر عمر غارقة في الرمزية، والدلالة وتعدد المعنى. فهو لا يتكئ على المباشرة أو الكشف «السهل»، بقدر ما يعمل على طمس المعالم والغوص عميقا في بحر الغموض، محاولا أن يجعل العمل الفني مكثفا ومجبولا على تعدد القراءة والتأويل. إذ يملأ الفضاء بكتل صباغية ومواد متلاشية يجمعها من على الأرض وهو يجول ويصول أزقة وشوارع ودروب تونس، فكل شيء عنده قابل أن يكون مفردة جمالية في جمله التشكيلية.
عوالم من كولاج:
يفرش عمر الغدامسي منجزه بطبقة سميكة من الكتل الصباغية، صانعا بذلك فضاء /نسيجا يمكنه أنه يرتب فيه مفرداته البصرية كما يشاء. فالعمل الفني ـ عنده – يعد جزءاً من نسيج العالم، وامتدادا له، كما يقول موريس ميرلوبونتي، فكل ما يقوم به الفنان سوى إعادة تركيب مفردات العالم حتى يتسنى للمشاهد أن يرى كل ما هو مرئي واللامرئي في الآن نفسه. ومن مفردات هذا التشكيلي نجد تلك الخامات التي يلتقطها من على أرض (أغطية القناني الزجاجية، مثلا)، أو تلك الصحف والمِزق الورقية العتيقة من كتب وجرائد، بالإضافة لعدة أشياء أخرى متلاشية ومهملة، تجد لنفسها متسعا داخل «عالم» اللوحة. فتغدو هذه الأخيرة كونا فسيحا لا يحده الإطار، فـ»كل عمل فني يفتح عالما على طريقته» كما يقول صاحب «الكينونة والزمان».
العمل الفني لدى الغدامسي إذن، يتصف بالكثافة ويعمد إلى الاستدراج والتدوير، ما يجعل من المنجز التشكيلي عباره عن مرآة عاكسة للعالم، لا باعتبارها محاكاة له، بل باعتبارها ذاكرة له. إنها مرآة يستعين بها العالَم كلما أراد استرجاع ذكرياته… ما يتيح إمكانية إدراكه أكثر. فالعين بقدر ما ترى العالم وتدركه، فهي تخدعنا، فما نبصره ليس هو كل ما يجب أن نراه، لهذا يعمد الفنان جاهدا لتشكيل وتصوير ما لا يُرى، كما ما نبصرُ، في تداخل يعددّ المعنى ويجعله غنيا و«فائضا عن اللزوم». إذ حينما يذهب عمر الغدامسي إلى استحضار تقنية الكولاج، فذلك من باب ما يخبرنا به لافوازيه بأن «لا شيء يضيع، إنما كل شيء يتحول». فالشيء المعاد اِلْصَاقُهُ في العمل الفني قد خرج من وجوده السابق إلى وجود جديد، الوجود بالفن. وتغيّرت حالته من شيء مهمل إلى غرض فني، متعال عن شيئيته، ويعمل على صناعة المعاني والدلالات. إذ كما يقول هايدغر «ينبغي لنا أن لا ننكر وجود الشيئي في العمل الفني، على أن هذا الشيئي، إذا كان لا بد من انتمائه إلى وجود العمل بوصفه عملا فنيا، يجب أن يتم التفكير في [الحقيقة] انطلاقا من عملية العمل الفني». وبالتالي فالشيء يفقد شيئيته في العمل الفني، إذ يصير جزءا مما يفتحه العمل الفني من وجود على طريقته. لهذا يجعل الغدامسي من «أشيائه» الملصقة والمثبتة فوق القماش، بالخصوص الورق، شبه مختف، إذ يعيد دهنه بالألوان، حتى يتماهى و«النسيج». معيدا بذلك الظهور لكل ما هو مدفون، ومنسي؛ وليس من الصدفة أن نجد ملمحا من الاشتغال – عنده- على رسومات الكهوف. وأيضا مبرزا كل ما لا يتم «إدراكه» بالعين المجردة، إنه الأمر الذي ليس علينا نسيانه، أي حالاتنا الوجودية، هذه الأخيرة التي يبرزها عبر «صخب» كروماتيكي.
إذن، فأعمال الغدامسي هي «احتفالية لونية» ضاجّة بالحياة: بالمعاني والدلالات والمفردات. متتبعا الأثر أينما ذهب وارتحل. محاولا استقطابه إلى المنجز الفني. وذلك ضمن ما تتيح له تقنية الكولاج من إمكانيات لانهائية.
أسئلة الوجود:
تتبع الأثر سيقود الفنان إلى البحث في هموم الإنسان، وحالاته الوجودية، لكنه لا يعبر عنها بالرسم الانطباعي أو التصوير المباشر والمحاكاة، بل عبر جعل تدرجات اللون وتعدد المفردات (بما فيها النقوش والكتابة) إحالة وعلامة ودالا عليها. فهو إذن يشتغل عبر منطلق وجودي، لا يلتزم إلّا بالقضايا الإنسانية. فنجد في أعماله الصباغية حضورا واضحا للرموز الأمازيغية والنقوش العربية والعلامات les signes الإفريقية… التي تحيل إلى البيئة الجمالية التي يهتم بها عمر الغدامسي كثيرا، كمنبع لا ينضب لرمزية أعماله الجمالية، بل إن مجموعة من الحيوانات المنتمية لهذه الجغرافية تجد لها فضاء داخل عوالم اللوحة، كالنعامة أو الجمل أو وحيد القرن أو الحصان، مثلا… خالقا بذلك نوعا من الصدمة لدى المتلقي، ما يجعل هذا الأخير يتساءل ويطرح أسئلة متعلقة بالوجود والوجود الإنساني. فمهمة العمل الفني أن يستفز المشاهد، ويجعله صانعا لمعانيه. فالمعنى لا يوجد داخل المنجز بقدر ما يوجد خارجه.
تتبع الأثر سيقود الفنان إلى البحث في هموم الإنسان، وحالاته الوجودية، لكنه لا يعبر عنها بالرسم الانطباعي أو التصوير المباشر والمحاكاة، بل عبر جعل تدرجات اللون وتعدد المفردات (بما فيها النقوش والكتابة) إحالة وعلامة ودالا عليها.
ومحاولة عمر الغدامسي طمس المعالم وإسباغ نوع من الغموض على العمل، قادته إلى التخلي النهائي عن ملامح شخوصه «البشرية»، هذا إن استطعنا وصفها بذلك، حيث أنه يرسم أشكالا ظلية (silhouettes)، يصعب تحديد جنسها وملامحها… إنها سيمولاكر بالتحديد. وإنها شخوص تشبهنا ولا تشبهنا في الآن نفسه، كأنها «تحتج» وتصرخ وتظهر الجانب اللامرئي فينا؛ أو اللامرئي في العالم ككل. من حيث إن العالم موجود بوصفنا مدركين لوجوده. ما يجعل منجزه الفني منفتحاً على مآلات الفن المعاصر، إذ إنه صعب التصنيف، وتمتزج فيه الحدود الفنية، فهو عمل يجمع بين التشخيص والتجريد… بالتالي فالفنان يلعب ويمرح مشكلا أعماله. واللعب من أهم صفات الفن المعاصر.
غير مبال إلا بالفكرة وغير مكترث بمآلات العمل وما سينتهي إليه، كل شيء بالنسبة إلى الغدامسي هو تراكم صباغي، تراكم من الأفكار والصور والرؤى التي عليه أن يسقطها فوق «النسيج» /العمل الفني، إلا أنه وهو يبدع فهو يّعبر بالضرورة عن الإنسان في لااستمراريته وهشاشته وتشظيه.
أعمال هذا التشكيلي هي وليدة التقطيع والتركيب والإلصاق والصباغة والطمس والإظهار والمخيّلة… إنها آثار منتمية إلى دائرة التشظي، حيث لا يكشف الفنان عن أسرار اشتغاله الجمالي، فالعمل الفني منذور لديه ، إلى الستر الذي يحفز المتلقي على التساؤل والبحث الدؤوب في «كوسمولوجيا» المنجز. إلا أنه وإن كان كل المنتوج الجمالي (سلسلة أعمال) لديه يأتي ضمن «نسق» معين، فالفنان يترك للصدفة وللشاعرية متسعا رحبا في كل عمل على حدة؛ من حيث إن الشاعرية تحضر عبر حرية الاشتغال. فأعماله ـ وإن كانت صباغية – فهي أعمال معاصرة أكثر منها أعمالا مجردة أو تشخيصية. وتـــــبرز هذه الروح المعاصرة في كون عملية التكرار في العمل الفـــــني، هو عودة أبدية بالمعنى النتشاوي، عود لا يكف عن المجيء دونما أن يتحقـــق، دونما أن يُودَع نهائيا في العمل، إنه دهشة الاشتغال المنبثقة عن «تألق الخلود المتعدد»، فبقدر ما أن الأعمال منفصلة ومتشظية فهي في دائرة معادة تقفز أجزائها من عمل إلى آخر. ففي الفن المعاصر يتعلق الأمر دائما بتشظي المعاني، وبموجود- متشظ أو مجزأ وهو جوهري للمعنى عينه (للموجود).
ما يعني أن الفنان هنا يستند إلى المنطلق النتشوي للإبداع، وهو المنطلق الذي تتأسس عليه فنون وآداب ما بعد الحداثة، من الاقتضاب والتكثيف والتبئير والتركيز والإرصاد والنفور من التحليل العقلاني المنطقي وتفادي أي شكل من أشكال النسقية. إذ لا نسق يكاد يذكر داخل شمولية الإبداع عند عمر الغدامسي. أنْ يرسم أو يبدع الفنان المعاصر فهذا يعني أن يبتغي التشظي والتعدد، أي الموت المتكرر واللانهائي في العمل. فإنشاد الموت لا يعني الانتهاء والاختفاء والرحيل النهائي، بل إنه التوقف عن مرحلة للدخول في أخرى، إنه نوع من القطيعة وميلاد جديد… يكاد هنا يشبه الفنان طائر العنقاء الذي يعود من رماده. والإبداع عن الغدامسي لا يعني التعبير عن الذات ولا علاجا لها أو تعبيرا عن جوانياته، ولا حتى صدى موضوعيا للبراني، بل إنها مخاتلة للعالم لا تعبيرا عنه. ولا تنحو إلى أي وظيفة تمثيلية ومحاكاة، بل هي تيه وتشظ، بل هي منفى بهذا المعنى. إذ إن العمل الفني منفى الفنان وعالمه الخاص.
بالتالي فالعمل الفني عند الفنان التشكيلي المعاصر عمر الغدامسي هو نوع من التشظي الذي يحاول جاهدا لَمَّ أوصاله، لكن لا يفتأ يعود إلى حالته الأولى: منفصلا وشذريا. ما يعطيه قابلية إعادة التركيب، لكن في هذه الحالة داخل نسق مختلف وجديد، إذ إنه وليد لعبة الاحتمالات اللامتناهية، وإن يبدو ظاهريا على أنه منظم، إنه شبيه بالعالم الذي يروم الفوضى والتشظي، وإن نحن نراه منظما، وهو منفاه المختار.
٭ شاعر وباحث جمالي مغربي