حداثة التراث المغربي في أعمال المكي مغارة

الفنان والتراث: قد تتعدد الآراء، اليوم، حول حداثة وما بعد حداثة الفن التشكيلي في المغرب. وبعيدا عن الإجابة والدخول في حيثيات هذا الطرح الذي مازلنا نخوض صراعات التنظير له بين التأييد والرفض. وهذا في نظرنا، يغني المشهد التشكيلي المغربي نظريا وممارسة. إلا أننا سنقف عند تجربة فنية ضمن مرحلة تأسيسية – حداثية – من مراحل […]

حداثة التراث المغربي في أعمال المكي مغارة

[wpcc-script type=”fc6dbd41b1dda3fc4fbd67b3-text/javascript”]

الفنان والتراث:

قد تتعدد الآراء، اليوم، حول حداثة وما بعد حداثة الفن التشكيلي في المغرب. وبعيدا عن الإجابة والدخول في حيثيات هذا الطرح الذي مازلنا نخوض صراعات التنظير له بين التأييد والرفض. وهذا في نظرنا، يغني المشهد التشكيلي المغربي نظريا وممارسة. إلا أننا سنقف عند تجربة فنية ضمن مرحلة تأسيسية – حداثية – من مراحل الفن التشكيلي في المغرب. مرحلة اتسمت بملمح حداثي بامتياز، من ناحية الاشتغال الجمالي والمواد والحامل والمواضيع التصويرية والصباغية، إذ في ظل كل ذلك الصراع المتسم بروح تنافسية جمالية، بين مؤيد للتجريد ومدافع عن التصوير الصباغي، كان المكي مغارة «يرسم طريقه نحو الحداثة». فهذا الرسام الذي وُلد وتدرّج ودرس في مدينة تطوان، قبل التحاقه بإسبانيا حيث سيكمل دراسته متنقلا بين إشبيلية ومدريد، سيعشق التصوير حدّ احترافه.
وُلد المكي مغارة سنة 1933 في مدينة تطوان، وتخرج منها فنانا في سن مبكر على يد الفنان التشكيلي الإسباني، مؤسس مدرسة تطوان للفنون الجميلة، ماريانو بيرتوتشي. ليلتحق بعد ذلك بإسبانيا، سنة 1955، حيث سيُتِم إدراكاته الفنية ويصقل مهاراته في الرسم والتلوين. من ثم سيعود إلى المغرب ليُعيّنَ مباشرة أستاذا في المعهد الذي تخرج منه. فالتجربة الجمالية لدى مغارة تتسم بتنوع وتعددية تجعل من أعماله ذات أبعاد استتيقية ورمزية متعددة، تستمد «وجودها الجمالي» من كونها مُدرجة ضمن خانة الحداثة في كامل ما تحمله من معان ودلالة.


وإن نُدرج أعمال الفنان التشكيلي المكي مغارة ضمن خانة البراديغم الحداثي، فهذا الفنان لم يتبنَ أي قطعية أو قطع مع الموروث والتراث الجمالي المغربي والعربي، إذ يعدّ أحد مؤسسي «اتحاد الفنانين العرب» في بغداد عام 1973، رفق مجموعة من الفنانين العرب، على خلفية رؤية جمالية أساسها «صناعة هوية تشكيلية عربية»، تستمد وجودها من التراث الشعبي.

التجربة الجمالية لدى مغارة تتسم بتنوع وتعددية تجعل من أعماله ذات أبعاد استتيقية ورمزية متعددة، تستمد «وجودها الجمالي» من كونها مُدرجة ضمن خانة الحداثة في كامل ما تحمله من معان ودلالة.

كل هذا ضمن تفاعلية بين ما هو محلي وما هو عالمي، من حيث مواضيع الاشتغال وآليات التصوير الصباغي، إذ سيتعرف العالم العربي على الحداثة عبر «صدمة الأجنبي» الأولى، ما جعل البعض يدعو للقطيعة مع الماضي العربي والإسلامي، بحجة أن التخلف العربي كان بسبب الانغلاق الذي أحدثته هذه «الخلفية»، ومن جهة برزت جماعة أخرى ترى في أن القطيعة نوع من هدم الهوية، وفقدان الذات، مكي مغارة واحد من أعمدتها، إذ ما سنصير إليه كما ترى هذه الجماعة، ما هو سوى استنساخ للغرب وحضارته وأفكاره لا غير، بينما سيعم ضياع هوية مجتمعات عربية كان لها ماض وتاريخ وذاكرة لها وجود فعلي ومستقل.
سينتقل هذا الخطاب لعالم التشكيل والفن، فتبنت مجموعة كبيرة من الفنانين العرب طرح إحداث توليف بين الماضي (الذاكر الجمالية) والحاضر والمعاصر (الفن الغربي). ما سيترتب عنه مزج بين هذه الثنائية غرب/ عرب، ماض/حاضر، ذاكرة /إبداع. فالمحافظة على الإرث الجمالي والثقافي يعد جزءا مهما في الممارسة والبناء الإبداعي، لأنه لا يمكننا أن نفصل الحاضر عن ثنائية المستقبل والماضي، هذا الأخير الذي لا يفارق حاضرنا، وهذا الحاضر الذي يصير ماضيا لمستقبلنا، فيصير الماضي حضورا وذاكرة لا يفارقان المستقبل، من حيث أن الماضي يطاردنا أينما ارتحلنا في الزمن. فيصبح فعل استحضار التراث وإدماجه في التطلعات المستقبلية جماليا وإبداعا وحضاريا، أمرا ضروريا لبناء جيل متصالح مع هويته وذاته وتراثه وإرثه الإنساني والجمالي.

اختيار التصوير الصباغي:

اختيار مغارة للتصوير الصباغي والتعبير الرمزي جاء عن شرط بدْئيّ أساسه البدء في وضع معالم الفن التشكيلي المغربي، الذي كان يحيا «طفولته الطائشة» آنذاك. كما نتاج الرؤية الإستتيقية التي آمن بها هذا الفنان، رؤية قِوامها تحديث التراث واستدراجه إلى الفن، غاية في بناء وإنشاء هوية مغربية وعربية جمالية، لا تستورد الغربي ولا تلتصق به. فلا يمكن استعادة التراث الغربي داخل الأعمال الفنية التي ينتجها فنانون ينتمون إلى الجغرافية العربية، إذ إن «الشعوب لا تستعيد في وعيها، ولا يمكنها أن تستعيد إلا تراثها، أو ما يتصل به. أما الجانب الإنساني العام في التراث البشري كله فهي تعيشه داخل تراثها لا خارجه». فالتراث هو ذلك الماضي الذي يطاردنا في حاضرنا، و«لكي نقطع الصلة معه، يجب أن نعرفه جيدا، كما يجب أن نكون قد أحببناه وتشبعنا به» . من هذه الرؤية التاريخية والتراثية سعى المكي مغارة داخل أعماله أن يستدعي التراث، عبر تلك المناظر والمشاهد الحياتية واليومية والوجوه التي أبدعها عبر أسلوب يمزج بين التعبيرية والرمزية.

ثالوث التأسيس:

فأعمال هذا الفنان الرسام، وليدة مرحلة تأسيسية، ومخاض طرح عميق يجمع بين الثالوث الموضوعاتي الأهم في تلك المرحلة، ألا وهو «الهوية والتراث والحداثة». هذا الثالوث الذي نجده ضمن أطروحات فلسفية وسوسيولوجية وأبستيمولوجية… لمفكرين مغاربة من أمثال الجابري والخطيبي والعروي ومن تلاهم من مفكرين. وما تزال تسكن التفكير المغربي هذه الأسئلة الكبرى في ظل هذا الزخم التنظيري الداعي لتجاوز التراث تارة، أو استدماجه تارة، أو البحث عن رؤية توليفية بين التراث والحداثة تارة أخرى. وفي السياق ذاته، وجد الفنان المغربي نفسه أمام ضرورة معالجة هذا الطرح داخل أعماله، غاية في البحث عن الذات والأصالة. هذه الأخيرة التي «تكمن لا في التقيّد بقوانين الأسلوب، بل في الإلهام الذاتي الذي يأبى الانصياع لطريقة معينة».

لا محاكاة في أعمال مغارة، بل إنها تعبيرية عامرة بالرمزية، من حيث أنها نقل نابع من دواخل الفنان وأحاسيسه الجوانية، التي ينطلق منها لرسم مقارباته الجمالية للواقع والتراث المغربي.

من هذا المنطلق يمكننا أن نصنف أعمال المكي مغارة التي تستمد أصالتها من كونها آتية مما هو عفوي إلى أقصى حدود العفوية لدى الفنان. فتختلط بالتالي أصالة الفنان بأصالة العمل وموضوعاته، فيختفي الأسلوب الذي يأتي مكملا لا أساسيا. من هذه الزاوية بالتحديد تستمد الرسومات الصباغية لـ«مغارة» حداثتها، بالإضافة لكون الفنان ظل وفيا للإطار والقماشة، للسند والموضوع. ما يجعل أعماله غنية بأشكال دلالية تتخذ وجودها الاستتيقي من الأشكال (الأحجام) والخطوط والألوان والعمق، من حيث أن «الشكل الدال هو الشكل الذي نظفر من ورائه بحسّ بالواقع النهائي»، إنه واقع قائم بذاته في آثار المكي مغارة، من حيث أن هذا الفنان لا يعمد إلى نقل الواقع بشكل كلاسيكي وبارد لا حياة فيه، بل يقوم بإعادة تأويل هذا الواقع صباغيا، إذ يصطبغ عليه نوع من «الانفعالية الجمالية» الخاصة بالفنان عينه، من حيث أن «الشكل الدال» يبقى مشحونا بالقدرة على إثارة انفعال استتيقي في أيما شخص قادر على الشعور به.

الشكل الدال للفنان:

يستمد المكي مغارة أشكاله الدلالية من بيئته ومحيطه الذي يجعل منه خطوطا وألوانا وأبعادا فوق القماشة، والتي تصير جغرافيا تصويرية لصور واقعية يعالجها الفنان بانفعالاته الخاصة، ما يُذهب عنها أي محاكاة عمياء. لا محاكاة في أعمال مغارة، بل إنها تعبيرية عامرة بالرمزية، من حيث أنها نقل نابع من دواخل الفنان وأحاسيسه الجوانية، التي ينطلق منها لرسم مقارباته الجمالية للواقع والتراث المغربي، خاصة منطقة الشمال منه، إذ نجد أعماله مدججة – في الغالب- بمشاهد من الأسواق والبيئة الريفية المغربية بطبيعتها وأزقتها الضيقة والشخوص المغاربة بتجاعيد وجوههم وسِماهم، التي تختلط فيها التربة بالماضي السحيق، الذي يحملونه على أكتافهم. إلا أن الفنان لا يفتأ يذهب إلى محاولة إضفاء بعدٍ مجرد على رسوماته الصباغية، في محاولة لكسر أي تأويل نهائي وحتمي للعمل الفني، فهو يخرج عن النمطية والتكرار والاجترار عبر اللعب باللون والظل داخل متاهة من تدرجات الألوان واللون الواحد، وذلك عبر خلط الأنواع الصباغية (زيت /أكواريل…) فوق فضاء اللوحة. ما يجعل المكي مغارة يتمتع بإمكانية والقدرة على التحكم بأدواته وموضوعاته الجمالية. إذ «ينهل مغارة موضوعاته من محيطه ومن قلقه الشخصي. وهو يستعيده في تأليف صارم بمادة غنية وبنيات تبدو وكأنها تضيع في تلافيف لا نهائية، أو في لطخات كبرى متحركة. أما ألوانه فهي بالغة النصاعة»، كما يقول محمد السجلماسي.
من كل هذه القدرة الجمالية والحرفية، أنتج المكي مغارة أعمالا تندرج ضمن الحداثة التشكيل المغربي، والمؤسسة لمآلات ومفازات هـــــذا الفن، الذي بات اليــــوم يتقافز بعيدا عن أسوار الحداثة، في محاولة لسبر أغوار ما بعدها، دونما إغفال عن ضرورة استعادة التراث حد «التشبع به» غاية في تجاوزه.

٭ شاعر وباحث جمالي مغربي

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *