وفاة العلامة الشيخ محمد رشيد رضا 23 جمادى الأولى 1354هـ (1935م):
الشيخ رشيد رضا عالم جليل و مفكر واع و مجدد مجاهد و مصلح كبير، عارف بأحوال المجتمع والأدوار التي مر بها التاريخ الإسلامي، شديد الإحاطة بعصره الذي يعيش فيه، خبير بأحوال المسلمين في الأقطار الإسلامية.
كان الشيخ رشيد رضا رائدا من رواد الإصلاح الإسلامي الذين بزغوا في مطلع القرن الرابع عشر الهجري، وعملوا على النهوض بأمتهم؛ حتى تستعيد مجدها الغابر، وقوتها الفتية على هدى من الإسلام، وبصر بمنجزات العصر.
كان رحمه الله مصلحاً من طراز فريد، جمع بين العلم والفهم، عرف الواقع وغاص في أسرار الشريعة، فاستخرج الدرر، شخص المرض وطرح الحلول، وأفتى وكان في حاجة الناس، فأنشأ الجمعيات الخيرية وشيد المدارس، وكتب المقالات الرائعة في التفسير والحديث والسيرة والفكر والسياسة، وكان شاعراً أديباً فصيح العبارة جزل الأسلوب، وكان مجاهداً بقلمه وفكره، وقاوم التغريب، وحارب الخرافة، ودعا إلى التوحيد الخالص، ونبذ الشرك والبدع والخرافات، وأحيا طريقة السلف، ورد على بدع المتصوفة، وميز بين الغث والثمين، وألف الكتب، ونشر الأبحاث، وحقق ودقق وعلق، وحرّر المنار، وكان نبيلاً في أخلاقه، مهذباً في ألفاظه، يقول الحق ولا يخشى أحداً إلا الله، وخدم دينه بقدر الطاقة والجهد.
نشأته:
اسمه: هــو محـمد رشيد بن على رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني البغدادي الأصل، الحسيني النسب. صاحب مجلة المنار
ولنسمعه يحدثنا عن بيئته وبيته «ولدت ونشأت في قرية تسمى القلمون على شاطئ البحر المتوسط من جبل لبنان تبعد عن مدينة طرابلس الشام زهاء ثلاثة أميال وكان جميع أهل هذه القرية من السادة الأشراف المتواتري النسب. وأهل بيتنا ممتازون فيهم بأنّهم أهل العلم والإرشاد والرياسة ويلقّبون بالمشايخ للتميز».
ولد محمد رشيد رضا في 27 جمادى الأولى 1282هـ، 1865م ، اشتهرت أسرته بأنهم كانوا المثل الأعلى في الانقطاع للعبادة وتكريم العلماء والترحيب بأولي الفضل.
التحق محمد رشيد بكتاب القرية، وتعلم فيها القرآن الكريم والخط وقواعد الحساب، ثم التحق بالمدرسة الوطنية الإسلامية التي أنشأها أحد علماء الشام الشيخ محمد حسين الجسر (وهو أحد رواد النهضة والذي اشتهر بإلمامه الواسع بالعلوم العصرية، وكان كاتباً وشاعراً عصرياً، درس في الأزهر الشريف على يد الأديب الكبير محمد حسين المرصفي) حيث اهتمت هذه المدرسة بالعلوم العربية والشرعية والمنطق والرياضيات والفلسفة الطبيعية، لكن الحكومة أغلقت هذه المدرسة، فانتقل محمد رشيد إلى المدارس الدينية في طرابلس، وظل على علاقة قوية بأستاذه الأول حسين الجسر الذي أحبه وتأثر به لما خصه به من الاهتمام والعناية منذ شاهده في السنة الأولى بالمدرسة الوطنية، لما كان يجد عنده من حب شديد للدراسة والمذاكرة والقدرة على التعبير عما يفهم، حتى صار يطلب رأيه في مؤلفاته خاصة الكبرى منها.
نال محمد رشيد الإجازة في دراسة العلوم العربية والشرعية عام 1897م ، على يدي أساتذة كبار منهم الشيخ محمود نشابة من كبار علماء طرابلس، والشيخ عبد الغني الرافعي، والشيخ محمد القاوقجي، لكن بقي الشيخ الأكبر أثراً في نفس محمد رشيد هو أستاذه الشيخ الجسر.
التغيير العظيم في فكره
شاءت الأقدار أن يقع في يد الداعية الشاب بعض أعداد من مجلة العروة الوثقى التي كان يصدرها “جمال الدين الأفغاني” و”محمد عبده”، فقرأها فأحدثت له هزةً في تفكيره وزلزالاً في توجهه، فبحث عن المجموعة الكاملة لأعداد هذه المجلة، فوجدها في مكتبة شيخه “حسين الجسر”، فنسخها وأكبّ على دراستها دراسةً واعيةً، وكان أثر ذلك أن تغيرت صورة الإسلام في فكره، وأوليات الإصلاح الإسلامي للواقع الذي يعيش فيه المسلمون، ويحدثنا هو عن التغيير الذي أحدثته أعداد مجلة العروة الوثقى في فكره بأنها علمته “أن الإسلام ليس روحانيًا أُخرويًا فقط، بل هو دين رُوحاني جسماني، أخروي دنيوي، من مقاصده هداية الإنسان إلى السيادة في الأرض بالحق؛ ليكون خليفة الله في تقرير المحبة والعدل… ولقد أحدث لي هذا الفهم الجديد في الإسلام رأيًا فوق الذي كنت أراه في إرشاد المسلمين، فقد كان همّي قبل ذلك محصورًا في تصحيح عقائد المسلمين، ونهيهم عن المحرمات، وحثهم على الطاعات، وتزهيدهم في الدنيا… فتعلقت نفسي بعد ذلك بوجوب إرشاد المسلمين عامة إلى المدنية، والمحافظة على ملكهم، ومبادرة الأمم العزيزة في العلوم والفنون والصناعات وجميع مقومات الحياة، فطفقت أستعد لذلك استعدادًا”
وجهته هذه المجلة للسعي في الإصلاح الإسلامي العام، ورسمت له منهجاً علمياً جديداً للإصلاح بعد أن عرفته بأسباب الفساد والتفكك في بلاد الشرق، وفتحت له آفاقاً واسعة لم يكن يعرف عنها شيئا ودفعت به إلى الطريق الطويل الذي سلكه كبار المصلحين وقادة التحرير، فكانت نقطة تحول كبير في حياته.
مجلة المنار
أخذ رشيد يتطلع إلى الهجرة نحو مصر، فرحـل إليهاووصلها في رجب سـنـــة (1315 هـ)، ومن حينها لازم الإمــام محمد عبده حتى وفاته، وقد التقاه من قبل لقاء عابرا في بيروت مرتين
وهناك في أرض مصر، استقر عزمه على إنشاء صحيفة إصلاحية عام 1898، وإذ يحبذ الشيخ محمد عبده الفكرة، يضع رشيد رضا بين يديه عدداً من الأسماء التي يزمع بأن يطلق واحداً منها عليها وكان اسم (المنار) بينها، وبعد نقاش وحوار، وقع اختيار محمد عبده عليه، مشترطاً عليه أموراً ثلاثة :
1- أن لا يتحيز لحزب من الأحزاب.
2- أن لا يرد على جريدة من الجرائد التي تتعرض له بذم أو انتقاد.
3- أن لا يخدم أفكار أحد من الكبراء.
وعلى هذه الشروط تمّ اتفاقهما، فكانت المنار والتي قامت مقام (العروة الوثقى)، وامتازت عليها بأنها مكثت زمناً طويلاً، فارتفع بها صوت الإصلاح في هذا الزمن الطويل إلى وفاة السيد رشيد رضا.
و صدر العدد الأول من مجلة المنار في (22 من شوال 1315هـ = مارس 1898م)، وكانت في بدايتها صحيفة أسبوعية ثم تحولت إلى مجلة شهرية.
ولقد قامت ( المنار ) بدور كبير في نشر الدعوة الإسلامية والدفاع عن أهله وتوعية الناس بدينهم ونشر العلم ومحاربة الجهل والخرافة بين المسلمين ، ووضع الله لمجلة (المنار) القبول في الأرض فوصلت إلى أرجاء المعمورة ومن يطالع (المنار) يجد رسائل القراء تنهال عليها من جميع الأقطار والبلدان، وشارك كثير من العلماء والمصلحين في الكتابة بـ (المنار) وكذلك الثناء عليها وعلى صاحبها لما قدمت للمسلمين من المعارف وفتحت لهم أبواب العلم ومعالجتها لكافة المواضيع التي تحتاجها الأمة الإسلامية.
وحرص الشيخ رشيد على تأكيد أن هدفه من المنار هو الإصلاح الديني والاجتماعي للأمة، وبيان أن الإسلام يتفق والعقل والعلم ومصالح البشر، وإبطال الشبهات الواردة على الإسلام، وتفنيد ما يعزى إليه من الخرافات.
وأفردت المجلة إلى جانب المقالات التي تعالج الإصلاح في ميادينه المختلفة بابًا لنشر تفسير الشيخ محمد عبده، إلى جانب باب لنشر الفتاوى والإجابة على ما يرد للمجلة من أسئلة في أمور اعتقادية وفقهية، وأفردت المنار أقسامًا لأخبار الأمم الإسلامية، والتعريف بأعلام الفكر والحكم والسياسة في العالم العربي والإسلامي، وتناول قضايا الحرية في المغرب والجزائر والشام والهند.
ولم يمض خمس سنوات على صدور المجلة حتى أقبل عليها الناس، وانتشرت انتشارًا واسعًا في العالم الإسلامي، واشتهر اسم صاحبها حتى عُرف باسم رشيد رضا صاحب المنار، وعرف الناس قدره وعلمه، وصار مقصدهم فيما يعرض لهم من مشكلات، كما جاء العلماء يستزيدون من عمله، وأصبحت مجلته هي المجلة الإسلامية الأولى في العالم الإسلامي، وموئل الفتيا في التأليف بين الشريعة والعصر.
ونادى رشيد رضا في المنار بإصلاح التربية والتعليم، وبإنشاء المدارس الإسلامية و الحذر من المدارس التنصيرية التي أكثر المستعمر منها في البلاد الإسلامية، ودعا إلى وجوب إدخال علوم أساسية في ميدان التربية والتعليم، مثل علوم أصول الدين وعلوم تهذيب الأخلاق، وعلوم فقه الحلال والحرام، وعلوم الاجتماع، وعلم تقويم البلدان، وعلم التاريخ وعلم الاقتصاد، والتدبير المنزلي والحساب، وعلم حفظ الصحة، وعلم فن الخط وعلم لغة البلاد… لما في هذه العلوم من خير للناس في حياتهم العامة والخاصة.
دار الدعوة و الإرشاد
أنشأ رشيد رضا دار الدعوة والإرشاد سنة 1329هـ لتخرج المرشدين والدعاة، وذلك في ظل انتشار المدارس التنصيرية في البلاد الإسلامية، ودعوة المسلمين للتخلي عن دينهم واعتناقهم الدين المسيحي، وتابع رشيد رضا الإشراف على مدرسته بما يفرغ فيها من جهده وجهاده ما يستطيع، لكن تعطلت هذه المدرسة عند نشوب الحرب العالمية الأولى، ولم تفتح أبوابها مرة أخرى.
ولما أغلقت “دار الدعوة” تفرق طلابها في البلاد الإسلامية بعد أن تشبعوا بأفكار منشئها، ورضعوا من لبان مدرستهم خمس سنين، وتحمسوا لأهدافها، فكان منهم المشتغل بالوعظ والإرشاد، والمتصل بالملوك ورجال السياسة، ومن هؤلاء الطلاب:
الشيخ يوسف ياسين والشيخ أمين الحسيني – من علماء فلسطين والشيخ عبد الرزاق المليح آبادي الهندي والشيخ محمد بسيوني عمران من جاوة بأندونيسيا.
والشيخ محمد بهجت البيطار من سوريا والشيخ محمد حامد الفقي، مؤسس جماعة أنصار السنة المحمدية والشيخ محمد عبد الرزاق حمزة من أئمة الحرم المكي
والشيخ عبد الظاهر أبو السمح من أئمة الحرم المكي، والشيخ عبد السميع البطل من علماء مصر.
من ملامح الإصلاح عند رشيد رضا
1- الرجوع إلى هداية القرآن اوهدى السنة النبوية في تصحيح العقائد وتزكية الأنفس وتهذيب الأخلاق، والاتباع المحض في العبادات على منهاج السلف الصالح وهو يتوقف على إحياء علوم التفسير والسنة وآثار السلف.
2- إبطال البدع والخرافات، والتقاليد والعادات التي أفسدت العقائد والأخلاق والأعمال وروَّجت في المسلمين أسواق الدجل والخرافات ، ولا سيما بدع الموالد وعبادة القبور والمشاهد وأكبر مفاسدها اشتراك علماء الأزهر فيها وسكوت غير المشتركين فيها عن إنكارها فكانوا بذلك قدوة سيئة للعوام، وفتنة منفرة للمتعلمين عن الإسلام، وحجة للكافرين على المسلمين.
3 – إصلاح نظام التربية والتعليم والتصنيف بالأساليب العصرية.
4 – إدخال علوم البشر في الجامع الأزهر ومعاهد التعليم التابعة له.
5 – اتباع سنة التخصص في العلوم والفنون.
6 – إعادة ثقة الأمة بالعلماء إلى ما كانت عليه في عصور الإسلام الحية.
7 – الدفاع عن الإسلام بالرد على الملاحدة ودعاة النصرانية ودحض شبهاتهم.
مؤلفاته :
ترك الشيخ رشيد رضا وراءه تراثاً كبيراً من الأعمال العلمية نذكر منها:
1. مؤلفه الأول الذي دونه أثناء طلبه للعلم في الشام “الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية”.
2. مجلة المنار: وهي المعلمة الإسلامية الكبرى، والكنز الذي احتوى ثمار تجارب رشيد رضا وآرائه في الإصلاح الديني والسياسي. 33 مجــلداً ضمت 160 ألف صفحة
3. تفسير القرآن الكريم، المعروف بتفسير المنار (12) مجـلداً، و هو من أهم مؤلفاته الذي استكمل فيه ما بدأه شيخه محمد عبده الذي توقف عند الآية (125) من سورة النساء، وواصل رشيد رضا تفسيره حتى بلغ سورة يوسف.
4. تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وما جرى بمصر في عصره 3 مجلدات.
5. فتاوى السيد رشيد رضا 6 مجلدات – جمع صلاح الدين المنجد .
6. الوحي المحمدي.
7. المنار والأزهر هذا الكتاب ألفه صاحب المنار، في الأشهر الأخيرة من عمره وفيه خلاصة تجربته في الإصلاح، مع رجائه أن يستمر الأزهر كهيئة كبرى في الإصلاح الديني.
8. ذكرى المولد النبوي (خلاصة السيرة النبوية) .
9. الوحدة الإسلامية والأخوة الدينية.
10. يسر الإسلام وأصول التشريع العام في نهي الله ورسوله عن كثرة السؤال.
11. الخلافة أو الإمامة العظمى.
12. الوهابيون والحجاز( لدحض الشبهات والافتراءات الموجهة لدعوة الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب في نجد حيث إن هذا الافتراءات كانت شائعة في زمنه)
13. السنة والشيعة أو الوهابية والرافضة حقائق دينية تاريخية اجتماعية إصلاحية.
14. مناسك الحج، أحكامه وحكمه.
15. حقيقة الربا.
16. حقوق النساء في الإسلام.
17 – عقيدة الصلب والفداء.
18. المقصورة الرشيدية وهي أبيات شعرية عارض فيها مقصورة ابن دريد.
19- محاورات المصلح والمقلد .
20- شبهات النصارى وحجج الإسلام
21- ترجمة القرآن وما فيها من المفاسد ومنافاة الإسلام.
22- المسلمون والقبط والمؤتمر المصري .
كما قام بتحقيق و تصحيح و الإشراف على طباعة الكثير من الكتب منها :
1- الاعتصام للشاطبي.
2 – المغني لابن قدامة المقدسي.
3 – فضائل القرآن – ابن كثير
4- مدارج السالكين لابن القيم
5-مجموعة الرسائل والمسائل – ابن تيمية
6- التوسل والوسيلة – ابن تيمية
7-إنجيل برنابا – تعليق .
8- مسائل الإمام أحمد لأبي داود
9- الفروع – ابن مفلح
10 – الآداب الشرعية لابن مفلح
11- الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف، وهي، الرحلة الحجازية لأمير البيان ونادرة الزمان الأمير شكيب أرسلان
12 – ديوان الأمير شكيب أرسلان.
13- دلائل الإعجاز – الجرجاني
14- أسرار البلاغة – الجرجاني.
15 – العلو للعلي الغفار في صحيح الأخبار وسقيمها للذهبي.
16 – لوائح الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية للسفاريني.
وفاته:
كان للشيخ رشيد روابط قوية بالمملكة العربية السعودية، فسافر بالسيارة إلى السويس لتوديع الأمير سعود بن عبد العزيز وعاد في اليوم نفسه، وكان قد سهر أكثر الليل، فلم يتحمل جسده الواهن مشقة الطريق، ورفض المبيت في السويس للراحة، وأصر على الرجوع، وكان طول الطريق يقرأ القرآن كعادته، ثم أصابه دوار من ارتجاج السيارة، وطلب من رفيقيه أن يستريح داخل السيارة، ثم لم يلبث أن خرجت روحه الطاهرة في يوم الخميس الموافق (23 جمادى الأولى 1354هـ ، 22 أغسطس 1935)، وكان من دلائل التوفيق و أمارات حسن الخاتمة أن آخر عبارة قالها في تفسيره: “فنسأله تعالى أن يجعل لنا خير حظ منه بالموت على الإسلام”. عند تفسير قوله تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام (توفني مسلما و ألحقني بالصالحين) فكان ذلك مسك ختام ودليل قبول رحمه الله و أحسن إليه، و دفن بجوار شيخه “محمد عبده” في مقابر المجاورين بالأزهر.