وفاة “المؤرخ العسكري” اللواء الركن محمود شيت خطاب 23 شعبان 1419هـ (1998م)
اللواء محمود شيت خطاب، أحد عمالقة الأمة، الذين تركوا بصماتهم في سجل الأيام وخلدوا أسماءهم بجليل الآثار في عالم الفكر العسكري والتاريخ الإسلامي وتاريخ البطولة والحروب والفتوحات.
كان فاعلاً حيث كان، وكان معروفاً في الأوساط العلمية كما هو معروف في الأوساط العسكرية والسياسية ولهذا كان يدعى إلى تلك الهيئات والجمعيات العلمية، وكان عضواً في عدة هيئات ومجامع مثل المجمع العلمي العراقي، ومجمع البحوث الإسلامية في الأزهر، ومجمع اللغة العربية في القاهرة، ومجمع اللغة العربية في دمشق، وعضوا في المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، وعضوا في المجلس الأعلى للمساجد في مكة المكرمة.
لقد بدأ خطوة رائدة على طريق تدوين سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسير قادة الفتح الإسلامي من خلال تصور إسلامي واضح لعوامل النصر والهزيمة المادية والمعنوية، وتخصص عسكري رفيع، ولغة عربية مطواعة، و تميزت كتاباته بأنها ليست كتابات تراثية فقط، يعيش فيها الماضي دون أن يكون قادراً على التعامل مع الواقع الحاضر ومتابعة المستقبل.
قدم للمكتبة الإسلامية نحو مائة وثلاثين كتاباً وبحثاً بجهوده الفردية في هذا المجال، وذلك ما لم تستطع تقديمه كثير من المؤسسات و الهيئات.
نشأته:
ولد سنة 1919م بمدينة الموصل، ونشأ في بيت علم يتلى فيه القرآن الكريم صباح مساء، وتقام فيه الصلوات الخمس، ويضم مكتبة عامرة بالمصادر المطبوعة والمخطوطة.
قرأ القرآن على أحد الشيوخ وحفظ شطراً منه ثم درس مراحل الدراسة الابتدائية والإعدادية والثانوية.
وخلال سني دراسته في مدينة الموصل درس علوم اللغة والتفسير والحديث على شيوخ مدينته وحج الى بيت الله الحرام عام 1935 حين كان في الصف الثالث المتوسط.
وكان والده يصطحبه إلى مجالس الحيّ، حيث يجتمع الأعيان في مجلس يسهرون فيه على سماع الأخبار، وقراءة الكتب النافعة، وتدارس مشكلات الناس، ومساعدة من يحتاج إلى المساعدة، وحلّ المعضلات التي تعترض الأفراد والأسر.
وكان والده يكلفه بقراءة أحد كتب التاريخ على الحضور، ومعظمهم من أهل العلم واللغة، فكان ذلك سببًا من أسباب حرصه على إتقان القراءة، وعشقه للتاريخ، وانصرافه للكتابة فيه.
الدراسة العسكرية
كان الفتى محمود حينذاك يحلم بدراسة الحقوق، وشاء الله أن يدخل الكلية العسكرية، فالتحق بالكلية العسكرية ببغداد عام 1937 وتخرج فيها برتبة ملازم ثانٍ. وتخرج في كلية الأركان وهو برتبة نقيب عام 1947. وحصل على شهادة عليا في كلية الضباط الأقدمين عام 1954، وتدرج في المناصب العسكرية، وشارك في حرب فلسطين 1948م، وبقي أكثر من سنة حتى عاد مع الجيش العراقي إلى العراق.
واستكمل مراحله العسكرية، وتخرج برتبة ضابط ركن، وابتعث إلى دورة في بريطانيا لمدة سنتين، وهكذا حتى وصل إلى رتبة لواء ركن.
شارك في ثورة “رشيد عالي الكيلاني” سنة 1941م، وأصيب بشظايا من قنابل الإنكليز، ولكن شاء الله له الشفاء،.وتولى مسؤولية النظام والأمن في مدينة الموصل إبان الانتفاضة عام 1956 ورفض الأوامر التي صدرت له بضرب المتظاهرين المناصرين لمصر إبان العدوان الثلاثي.
السجن
تولّى محمود شيث خطاب مختلف المناصب القيادية والأركان حتى وصل إلى رتبة لواء ركن، وظل طوال هذه الفترة ضابطًا ملتزمًا متمسكًا بأخلاق الإسلام، جادًا في عمله، بعيدًا عن مواطن الشبهات التي كان كثير من زملائه يقعون فيها، وكان الاحتلال الإنجليزي قد أفسد حياة الجندية في الجيش العراق، وسرّب إليه قيمًا فاسدةً، ولم يكن من الضباط من يستطيع مقاومة هذا الانحلال إلا من كان مُزودًا بالحصانة القادرة على الثبات في وجه الأعاصير.
وفي أثناء المد الشيوعي خلال حكم “عبد الكريم قاسم” تصدَّي محمود شيث خطاب للشيوعيين، وحال بينهم وبين التنكيل بالناس، والتعدي على الحقوق والأعراض، فأغضبهم ذلك، ووشَوا به إلى “عبد الكريم قاسم”، فأمر باعتقاله سنة (1379 هـ – 1959م)، وبقي في السجن عامًا ونصف ذاق خلالهما صنوفًا من العذاب الوحشي، فأخرجوه من السجن عام 1961م وهم لا يشكون أنه هالك لا محالةَ، لكنَّ اللهَ عافاه وعاد إلى ما كان عليه من قوة وفتوة.
الوزارة
لم يكن اللواء شيت خطاب يفكر في الوزارة بل كان يتحاشاها، ولكن صديقه المشير عبد السلام عارف -رحمه الله- أصر عليه أن يكون إلى جانبه في الحكم وأن يأتيه بناس صالحين، ونزولاً عند إصراره شارك اللواء محمود في عدة وزارات، ولكنه انتهز أول فرصة سنحت له فاستقال وآلى على نفسه أن يكون بعيداً عنها وعن أي مسؤولية، وقد عرضت عليه المشاركة في كل حكومة شكلت بعد 1964م ولكنه كان يعتذر باستمرار.
وفي 17 تموز 1968 عين وزيراً للمواصلات وكان وقتها في مصر رئيساً للجنة توحيد المصطلحات العسكرية للجيوش العربية ثم اعتذر عنها، وبقي في القاهرة حتى أخرج المعجمات العسكرية الموحدة الأربعة المعروفة، والتي أعيد طبعها مرات عديدة.
وعندما عاد من مصر إلى بغداد عام 1973م عرض عليه صديقه أحمد حسن البكر رئس الجمهورية عدة مناصب حكومية رفيعة ولكنه اعتذر عن قبولها، وتفرغ كلياً لبحوثه ودراساته ومحاضراته والتدريس في الجامعات العسكرية العربية.
من أقواله :
– أصدق ما في الصحف العربية صفحة الوفيات.
– أثبتت حوادث التاريخ العسكري أن خسائر الصامدين في الأرواح أقل من1% من خسائر الذين لا يصمدون.
– تتبعت وفيات أصحاب رسول الله في كتب التراجم المطبوعة والمخطوطة فوجدت أن 82,5% ماتوا شهداء.
– إن الفاتحين حملوا إلى الناس الإسلام بالفتح، ولم يحملوا الناس بالفتح على الإسلام.
– العرب مادة الإسلام، و الإسلام روح العرب، والعرب بالإسلام كل شيء والعرب بدون الإسلام لا شيء.
– قد كان السلف الصالح يعتبر العلوم الدينية عبادة، لذلك بارك الله في مؤلفاتهم وأبقاها نبراساً للمؤمنين، وخلف من بعدهم خلف اعتبروا العلوم الدينية تجارة، لذلك ذهبت مؤلفاتهم في وادٍ وماتت في مهدها و أصحابها أحياء.
– حين أعرض المسلمون عن دينهم، وأصبحوا يتمسكون بالقشور دون اللباب، وبالمظهر دون المخبر، تداعت عليهم الأمم وأصبحوا غثاء كغثاء السيل.
– لستُ أعرف عقيدة سماوية أو أرضية تحثُ على الشجاعة حثاً حاسماً جازماً شديداً بلا هوادة كما فعلت العقيدة الإسلامية، ويكفي أنها أخرجت الجبناء من مجتمع المسلمين، فالجبن والإسلام على طرفي نقيض وهما ضدان لايجتمعان.
– إني أريد أن يقتبس العرب والمسلمون من الحضارة الغربية اللباب دون القشور، العلم الذي ينفع ويمكث في الأرض دون المظاهر التي تضر وتصبح غثاء كغثاء السيل.
– سر ثبات الإسلام أمام التيارات الجارفة التي تعرض لها سابقاً ويتعرض لها اليوم و سيتعرض لها غداً، يكمن بالقرآن الكريم لغة وعقيدة وتشريعاً ومثلاً عليا.
– هناك أزمة ثقة بين الشيوخ والشباب ومرد ذلك إلى فقدان عنصر القدوة الصالحة في معظم الذين يعدون في الشيوخ ويظنون أن كل ما عليهم هو أن يحسنوا عرض الموعظة السطحية ولو كان سلوكهم الشخصي أبعد ما يكون عما يدعون إليه.
– إن الدعوة التي تبناها المبشرون وعملاء الاستعمار وأذنابهم في إبعاد الدين الإسلامي عن الحياة، دعوة مريبة، هدفها إبعاد العرب عن الناحية المعنوية في حياتهم فالعرب جسم الإسلام وروحه، ولا بقاء للجسم بدون روح.
– إن قوى هائلة تعمل على تحطيم هذا الجيل، وتفتيت قدراته وكانت قبل مقصورة على العدو الخارجي، أما اليوم فقد وجدت لها مرتكزات لا تحصى في الداخل، وإن ارتباط مستقبل هذا الجيل صعودا أو هبوطا بمدى التزامه هداية الإسلام، أو إعراضه عنه.
– إن المسلمين اليوم في حاجة ماسة إلى قادة كخالد والمثنى وغيرهم إلا أن حاجتهم إلى العلماء العاملين أمس وأشد.
– المسجد الأقصــــى ينادي أمــــة تركـــته أضعــــف ما يكون مكانا
إني لأعــــــــــلم أن دين محمـــد لا يرتضي للمســـــلمين هوانا
إن الخـــلود لمن يموت مجــاهــدا ليـــس الخـلود لمن يعيش جبانا
– قال في رثاء جدته التي ربته :
أجهدت نفسك فاستريحي قليلا قد كان عبئك في الحياة ثقيلا
نزلت عليك مصائب الدنيا ولو نزلت على جبل لخرَّ مهيلا
وجد القنوط إلى الرجال سبيله وإليك لم يجد القنوط سبيلا
ولربَّ فرد في سمو فعاله وعلوه خُلقاً يعادل جيلا
مؤلفاته
كان رحمه الله كاتبًا غزير الإنتاج عميق الفكر، قدّم للمكتبة العربية والإسلامية أكثر من مائة وثلاثين كتاباً وبحثاً، منها سلسلةَ كتب لتراجم قادة الفتح الإسلامي، مدفوعًا برسالة حملها في نفسه فقد كانت المعاهد والكليات العسكرية تدرس المعارك الأجنبية والقادة الأجانب لطلبتها، فكان الطلاب فيها لا يعرفون شيئًا عن قادة الفتح الإسلامي ولا عن معارك الفتوحات الإسلامية، ولا عن غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد مثابرة هذا الرجل لأكثر من أربعين سنة تبدل الحال، فأصبحت المعاهد والكليات العسكرية تعج بنشاطها في دراسة قادة الفتح الإسلامي ومعارك الفتوح، وغزوات النبي صلى الله عليه وسلم
فنهض لهذه المهمة، وقدم نحو عشرين كتابًا في هذا المضمار، منها:
ـ الرسول القائد.
ـ الصديق القائد.
ـ خالد بن الوليد المخزومي.
ـ قادة النبي- صلى الله عليه وسلم-.
ـ سفراء النبي-صلى الله عليه وسلم-.
ـ قادة فتح العراق والجزيرة.
ـ قادة فتح بلاد فارس.
ـ قادة فتح بلاد المغرب العربي.
ـ قادة فتح السند وأفغانستان.
وقدّم في الدراسات العسكرية نحو ثلاثين كتابًا، منها:
ـ بين العقيدة والقيادة.
ـ إرادة القتال في الجهاد الإسلامي.
ـ جيش النبي- صلى الله عليه وسلم-.
ـ أهداف العدو الصهيوني التوسعية في البلاد العربية
ـ دراسات في الوحدة العسكرية العربية.
ـ العدو الصهيوني والأسلحة المتطورة.
– الوجيز في العسكرية الإسرائيلية
ـ الأيام الحاسمة قبل معركة المصير:وقد صدر هذا الكتاب في بغداد سنة 1967م، وهو مجموعة من الدراسات العسكرية كتبها ونشرها بين يومي 30 من شهر مايو، والخامس من شهر يونيه سنة 1967م، وفي هذا الكتاب حدّد اليوم الذي ستقع فيه المواجهة بين العرب واليهود، بعد أن استعرض استعداد القوات الإسرائيلية وحلّل خطتها، وأعلن هذا في عبارة دقيقة واضحة في المقالة التي نشرها قبل اندلاع الحرب بستة أيام، قال: “أما متى تبدأ الحرب؟ فالنفير الإسرائيلي يكمُل خلال أسبوعين، وقد بدأت بتنفيذ خطة نفيرها بتاريخ 23/5/1967م، وينتهي نفيرها يوم 5/6/1967م، وفي خلال هذه الفترة يمكن إنجاز خطط الحركات والخطط الإدارية، وخطط التنقل، وخطط تعيين القيادات وإصدار الأوامر إليها، وعلى ذلك ستهاجم إسرائيل القوات العربية يوم 5/6/1967م”.
وفي مجال المعاجم اللغوية المتخصصة قدّم عددًا من الأعمال تشهد على تضلعه باللغة العربية، يشهد على ذلك عضويته في المجامع اللغوية العربية، ومن هذه الأعمال:
ـ المعجم العسكري الموحد (عربي ـ إنجليزي)
ـ المعجم العسكري الموحد (إنجليزي ـ عربي)
ـ المصطلحات العسكرية في القرآن الكريم.
وقد كان له حظ وافر في المجال الأدبي إذ أسهم في إصدار سلسلة من الكتب القصصية الهادفة ذات الطابع الإسلامي الواقعي الذي يحيي المعاني الإسلامية مثل “عدالة السماء”، و”تدابير القدر”، “الرقيب العتيد”، و”اليوم الموعود”.
و له مؤلف أدبي تراثي اسمه “أقباس روحانية”. بتقديم شيخ الأزهر الدكتور عبد الحليم محمود، وهو من مختاراته ومنتخباته من التراث، وله في هذا المجال كتابان آخران هما “ومضات من نور المصطفى”. و”نفحات روحانية”.
وفاته
قضى اللواء شيت خطاب حياته في خدمة أمته ودينه، وقدّم نماذج وضاءة من أعلام التاريخ الإسلامي، وشاء الله له أن تمتد حياته ويرى ما حلّ بالعراق من مصائب، وما أصابه من تدمير بعد غزو الكويت، حتى لقي الله في صباح يوم 23 شعبان 1419هـ، الموافق 13 ديسمبر 1998م وهو يقرأ القرأن و بعد نطقه الشهادتين عدة مرات رحمه الله و أحسن إليه.