كان من شأن الخطوة التي أقدم عليها رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون مؤخراً، بإعلانه الانشقاق عن حزب “الليكود” وتأسيس حزب جديد باسم “المصلحة القومية” (أحريوت لئوميت)، أن تُسلط الأضواء مجدداً على النظام السياسي والحزبي في الدولة الصهيونية، وعلى الخصائص المحددة التي تسم هذا النظام، والنابعة بالأساس من الشذوذ البنيوي والتاريخي للدولة الصهيونية نفسها، مما يجعل من غير الممكن مقارنته بأي نظام حزبي في أية دولة طبيعية.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن يرى كثير من المعلقين الصهاينة في تلك الخطوة “استنساخاً” لتجارب سابقة في الحياة الحزبية في الدولة الصهيونية، فهناك من قارن بين حزب شارون الجديد وحزب “رافي” الذي أنشأه ديفيد بن جوريون عام 1965، وحزب “داش” الذي تزعمه “إيجال يادين”، وحزب “المركز” الذي تزعمه “إسحاق موردخاي” عام 1996، في إشارة صريحة إلى أن مصير شارون قد لا يكون أسعد حالاً من مصير أسلافه الذين انتهى بهم الأمر إلى اعتزال الحياة السياسية أو البقاء على هامشها (صحيفة يديعوت أحرونوت، 27 نوفمبر 2005). وهناك من رأى، على العكس، أن حزب شارون الجديد يؤدي إلى تشكيل “خريطة سياسية جديدة” تبعث الحيوية والنشاط في الواقع السياسي الذي اتسم بالركود وغياب الفروق الجوهرية بين الأحزاب وعزوف الجمهور عن المشاركة في العمل السياسي بل وإحساسه باليأس من التغيير (صحيفة معاريف، 22 نوفمبر 2005).
وأيا ما تكون التوقعات بخصوص مستقبل شارون وحزبه، والذي سيواجه اختباراً حاسماً في الانتخابات العامة القادمة في مارس 2006، فمن الواضح أن ثمة ظواهر متكررة في الحياة السياسية والحزبية في المستوطَن الصهيوني تطفو على السطح من حين لآخر، وخاصة مع احتدام الأزمات التي يواجهها هذا المستوطَن.
ومن أبرز هذه الظواهر أن الطابع الاستعماري الاستيطاني للكيان الصهيوني، ومن ثم التناقض الجوهري بين هذا الكيان والحقوق التاريخية للفلسطينيين والعرب بوجه عام، هو العنصر الأساس الذي يتحكم في سلوك الأحزاب الصهيونية وتحالفاتها وانقساماتها وصعودها وانهيارها. ويرجع ذلك إلى طبيعة نشأة هذه الأحزاب، التي ظهرت على شكل حركات ومجموعات قبل الإعلان عن قيام الدولة الصهيونية. ويمكن النظر إلى الأحزاب الصهيونية على أنها مؤسسات استيطانية واستيعابية أسست الدولة وليست أحزاباً توجد في إطار الدولة. فالدولة ما هي إلا مجرد تعبير شكلي عن وضع استيطاني قائم بالفعل جوهره المؤسسات الاستيطانية التي تُسمى أحزاباً. ويظهر الطابع الاستيطاني للأحزاب في علاقة الأعضاء بها وفي الوظائف والأنشطة التي تنهض بها. فالحزب ليس مجرد انتماء فكري، بل وقد يكون من العسير تمييز الفروق الأيديولوجية بين برامج الأحزاب وسياساتها، بل هو أيضاً انتماء اقتصادي وعرقي. فلكل حزب مشروعات الإسكان والمراكز التعاونية والمستشفيات والمصارف ونظم الضمان الصحي الخاصة به، كما شهد العقدان الأخيران تزايد الاستقطاب الحزبي على أسس عرقية، فأصبح هناك حزب يمثل المهاجرين من دول الاتحاد السوفييتي السابق، هو حزب “يسرائيل بعالياه”، وحزب آخر يمثل المهاجرين من يهود المغرب، هو حزب “جيشر”، وحزب ثالث يدّعي تمثيل اليهود الشرقيين، وهو حزب “شاس”، فضلاً عن الأحزاب التقليدية التي تمثل اليهود الإشكناز، أي المنحدرين من أوروبا وأميركا.
ورغم أنه من المبكر الحديث عن طابع الحزب الجديد الذي أسسه شارون، حيث لم يستكمل بعد بناء أطره وقواعده ومؤسساته، فمن الملاحظ أنه لم يشذ عن قاعدة الارتباط بالتناقض الرئيس بين الكيان الصهيوني والمحيط العربي في فلسطين وخارجها. فقد كانت خطة شارون للانسحاب من غزة والتخلي عن بعض المستوطنات هناك، في مقابل توسيع الاستيطان في الضفة الغربية وتحويله إلى وضع دائم، هي التي فجرت الخلافات داخل تكتل “الليكود” وأدت إلى الانشقاق في نهاية المطاف.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الخلاف لا يدور بين مؤيدين للاستعمار الاستيطاني من جهة ودعاة سلام يعارضون الاحتلال ويقرون بالحقوق العربية من جهة أخرى. فجميع الأحزاب الصهيونية تدور في إطار الإجماع الصهيوني المتمثل في الحفاظ على دولة “إسرائيل” وتفوقها وارتباطها بالإمبريالية العالمية ومواصلة الدور المنوط بها إقليمياً وعالمياً في إطار الاستراتيجية الاستعمارية الغربية، بما ينطوي عليه ذلك من إنكار أبسط الحقوق الوطنية بل والإنسانية للشعب الفلسطيني، وتجاهل الخصائص التاريخية والثقافية للبلدان العربية والنظر إليها باعتبارها مجرد ساحة لتحقيق المصالح الاستعمارية الغربية. وليس ثمة خلافات جوهرية بين الأحزاب الصهيونية بشأن هذه “الثوابت”، مهما تباينت مواقفها حول هذه الخطوة أو تلك، وسواء وُصفت هذه الأحزاب بأنها “يمينية” أو ادعت أنها “يسارية”، وسواء تبنت مقولات دينية أو رفعت شعارات علمانية براقة. ومن الظواهر الأساسية الأخرى في مسلك الأحزاب الصهيونية أنها أحزاب ذات صبغة مركزية قوية تحكمها قلة من الزعامات التاريخية أو الدينية وتعتمد إلى حد كبير على الولاء الشخصي، رغم ما يبدو من أشكال وإجراءات “ديمقراطية”. والملاحظ هنا أن هذا العنصر الشخصي هو أحد العناصر الأساسية التي يعتمد عليها شارون في دعايته لحزبه الجديد وفي التحضير للمعركة الانتخابية القادمة، وكذلك في الهجوم على خصومه. فبدلاً من عرض برنامج سياسي متكامل يعكس رؤية للقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية ويقدم بعض الحلول للمشاكل المستعصية في هذه المجالات، يكتفي شارون بإبراز خبراته العسكرية منذ عام 1948 حتى الآن و”إنجازاته” في مواجهة المقاومة الفلسطينية، والتي تمثلت في ارتكاب مجازر بشعة، من بينها مجزرة صبرا وشاتيلا ومجزرة جنين على سبيل المثال لا الحصر، فضلاً عن اغتيال عشرات القادة الفلسطينيين وتدمير آلاف المنازل وتخريب مساحات شاسعة من الأراضي الفلسطينية. بل إن شارون لم يكلف نفسه عناء تحديد ملامح تلك “المصلحة القومية” التي اتخذها اسماً لحزبه، فهو يعتبر نفسه الزعيم القومي المؤهل لتفسير هذه المصلحة والدفاع عنها، وليس على الناخبين سوى الثقة في صواب رؤيته، التي لم يفصح عنها، ومنحه أصواتهم لولاية أخرى دون السؤال عما سيفعله خلالها أو عن المصير الذي ستؤول إليه دولته تحت زعامته.
ولعل غلبة هذا العنصر الشخصي وتضاؤل أهمية المواقف والرؤى السياسية في المنافسة بين الأحزاب الصهيونية هو ما دفع المعلق الصهيوني ألوف بن (صحيفة هآرتس، 20 نوفمبر 2005) إلى القول: إن الصراع الرئيس في الانتخابات القادمة سيكون بين شارون، بعمره المتقدم وخبرته العسكرية الطويلة، والزعيم الجديد لحزب “العمل” عمير بيريتس، بحداثة سنه وأنشطته المدنية من خلال “الهستدروت”، ملخصاً وضع الناخبين بقوله :إنه “سيكون مطلوباً من الجمهور الاختيار بين الشعر الأبيض (شارون) مقابل الشارب الأسود (بيريتس)”!.
والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الاتحاد الإماراتية