حس الواجب هو شعور الإنسان بما يتوجب عليه فعله في ظروف معينة وسياق بعينه وفي مرحلة ما، وتكون هي الرقيب الداخلي على سلوكه والذي يقوم بتوجيه الإنسان نحو الصواب الذي يشتمل على القيم الإنسانية المطلقة والتي اصطُلِح عليها بثلاثية الحق والخير والجمال. وهذا الشعور ليس وليد الصدفة كما أنه ليس شيئا فطريا في الإنسان كعضو من أعضاء بدنه محكوم بقوى البيولوجيا، وإنما هو شيء ينشأ وينمو بالتطبع وليس بالطبيعة، هو شيء يكتسبه الإنسان من خلال البيئة التي تحيطه والتي تفرض على العقل والنفس الإنسانيين تكيفات معينة، وليس نابعا من داخله، حتى وإن بدا حس الواجب نابعا من داخل الإنسان في بعض الأحيان فيسرع العقل في الظن -بل اليقين- أن هذا الشعور إنما هو من بنات الطبيعة الإنسانية، فيسرع في بناء مفهوم كمفهوم الضمير -والذي يُظن كثيرا أنه نبتة أصيلة في الإنسان مغروزة فيه طالما هو إنسان- ثم يحيطه بجملة من الفروض والنظريات التي تنزع إلى المثالية في التناول. لكن الذي يغيب عن البال أن هذا الشعور وغيره من المشاعر الإنسانية هي وليدة البيئة المحيطة بالإنسان منذ كان عمره أياما معدودات. وليست البيئة كما يظن الكثيرون محض أشجار وحيوانات ومياه تحيط بالمنطقة الجغرافية التي يسكنها الإنسان، وإنما هي كل ما يحيط بالإنسان ويؤثر فيه ويتأثر به. وإن أول ما يؤثر في الإنسان منذ نعومة أظافره من عناصر البيئة لهما الأبوان. لذلك كان الأبوان هما أول المسؤولين عن تنشئة وتنمية الأفكار والمشاعر الإنسانية النبيلة في نفوس أبنائهم، ومن بين أهم هذه المشاعر حس الواجب. إذ أن بهذا الرقيب الداخلي الذي يُفترض أن يكون بداخل كل إنسان في المجتمع الناضج الصالح -يستطيع الإنسان أن يأمن على نفسه وعلى عرضه وعلى وطنه، ولأهمية وخطورة هذا الشعور بالواجب والمسؤولية أفردنا له هذا المقال للآباء الذين يريدون أن يغرزوه في أبنائهم من أجل جيل أكثر وعيا ونضجا وتحملا للمسؤولية التي تلقيها عليه ظروف الحياة الحضارية الحديثة.
طريقة تنمية حس الواجب في الأبناء
التربية بين أغراض الثقافة المعطوبة ومتطلبات المجتمع الناضج
يظن الكثيرون خطأ أن تربية الأبناء تعني تنشئتهم -باللين حينا وبالغلظة أحيانا- على ما قالت به الثقافة من عادات وتقاليد وتصورات عن الإنسان والعالم، كتصور أن على الرجل ليكون رجلا أن يقوم بمهام معينة تضخم من ذكوريته، فتثيبه الثقافة (نظرات الناس) عليها بالمدح والتمجيد وإسباغ معاني الرجولة بكل ما لها من دلالات تنسجها الثقافة نسجا، وكذلك على المرأة لتكون امرأة صالحة أن تقوم بمهام معينة تضخم من أنوثتها ومن ثم تجعلها أكثر لينًا وخضوعا للرجل واستقامة لما تفرضه عليها الثقافة الذكورية من ضوابط أو قوالب تحد من طلاقتها وحريتها وإبداعها. كل هذه الأمور يتم تنشئة الأبناء عليها منذ نعومة أظافرهم وذلك من خلال غرز هذه القيم شعوريا أو لاشعوريا. هذا لون من ألوان التربية -وهو الشائع للأسف- لا يراعي إلا ما يرضي نظرات الثقافة على علاتها ووبائها ومناخها الغير صحي، لكن من الأمور المؤسفة أن يتم تجاهل أشياء أكثر أهمية إذا ما تم غرزها وتنميتها في النشء الزاهر من أبنائنا، ومن بين هذه الأشياء حس الواجب الذي بمقتضاه يأمن المجتمع -الذي نسج ثقافة يضرب العطب جذورها- على حياته ومصالحه ومصيره، فبتنمية حس الواجب في أبنائنا يخرج لنا جيل فيه الجندي المفعم بالشعور بالمسؤولية والواجب تجاه وطنه، وفيه الطبيب الذي يتفانى من أجل إنقاذ حياة مرضاه، وفيه المعلم الذي لا يطمئن إلى جانب إلا إذا شعر أنه نهض برسالته التعليمية، وفيه القاضي الذي لا تغفل عيناه وشبح الظلم يحوم في الأجواء.. إلخ
مفهوم الواجب
مفهوم الواجب أحد المفاهيم التي لاقت لنفسها حيزا في العقل البشري وموضوعا لتنظيراته، إذ أننا كثيرا ما نجد هذا المفهوم في الفلسفة المثالية، وخصوصا عند الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في نسق نظريته الأخلاقية. وفي المجمل يتلخص مفهوم الواجب لدى التيار المثالي في الفلسفة -أنه فعل الإنسان للموجبات الأخلاقية دونما اعتبار لطبيعة الظروف التي يمر بها هذا الإنسان ودون انتظار لمقابل مادي أو معنوي لقاء قيامه بهذا الواجب. وحس الواجب لدى التيار المثالي إنما يستمد وقوده ووجوده من توهج الضمير الإنساني لدى الفرد. وحس الواجب بهذا المعنى لا يشترط سياق اجتماعي يكون وعاءً لهذا الشعور وعاملا ضروريا لوجوده يحس المرء بموجبه بالمسؤولية تجاه الآخرين من أبناء المجتمع، وإنما هو شعورا ذاتيا يكون حاضرا في نية الفرد بمعزل عن تطبيق هذه النية أو ترجمتها إلى فعل اجتماعي، وهذا لا يعني أنه معدوم التطبيق على أرض الواقع أو أنه يوجد حالة من الفصام بين النية وتطبيقها، وإنما هو يفرض على الإنسان توجها نظريا معينا يكون معدا سلفا لأي ظروف قد تأتي في وقت لاحق وربما لا تأتي مطلقا.
حس الواجب كموضوع للتنمية في نفوس النشء
إن الأمر الذي نود أن نختلف فيه مع النزعة المثالية لتناول موضوع حس الواجب، هو أن هذه النظرة المثالية تريد أن تجعل الإنسان تحت مظلة كبرى اسمها “الإنسانية”، ومن لا يستظل بها إنما تملص من إنسانيته ورضي لنفسه أن تنحط لمدارك الحيوانية. وهذه النظرة للإنسان وللإنسانية هي عين النظرة المثالية. ونحن نريد أن نقول أن الإنسان حين يتورط في فعل منافٍ لحس الواجب -والذي هو معادل دلالي لمفهوم الإنسانية- فهو لا يفعل ذلك إلا لإنسانيته، وليس لأنه خرج من مظلة الإنسانية. فالإنسان ليس كائنا محلقا في الفراغ ويتفاعل مع الفراغ، وإنما هو أكثر الكائنات دينامية وهو من أجل ذلك في ديمومة تفاعلية مع البيئة المحيطة به منذ أن كان في رحم أمه. لذا فحس الواجب ليس نبتة موجودة في الإنسان فإذا اختفت منه اختفت معها إنسانية الإنسان، وإنما حس الواجب شعورا ينشأ بالتربية والترويض من الأبوين للأبناء منذ الصغر. والسؤال الذي يفرض نفسه هو: كيف ننشئ وننمي حس الواجب لدى أبنائنا؟ والجواب نورده عبر النقاط الآتية:
- ترويض الابن منذ البداية على أن يقوم بالعمل المفروض عليه، حتى لو كان هذا العمل هو واجبات المدرسة.
- عند معاقبة الابن على خطأ اقترفه لا يفضل اللجوء إلى وسائل مادية للعقاب كالمنع من المصروف أو الضرب أو ما إلى ذلك مما يجعل منه إنسانا ماديا بالدرجة الأولى.
- عند إثابة الابن أيضا يفضل اللجوء إلى أنماط الثواب المعنوية ككلمات التشجيع والاستحسان عوضا عن الهدايا المادية والتي تجعل منه أيضا إنسانا ماديا لا يفعل ما يفترض أن يفعله إلا بمقابل مادي.
- ينبغي مشاركة الأبناء ظروف العائلة والتي منها ما هو فضلا وسعة، ومنها ما هو ضيق وتقتير، وينبغي أيضا استغلال فرصة الضيق والضجر لتعويدهم على الصبر والجلد والتحمل والشعور بالمسؤولية تجاه أفراد العائلة ولو بالقلب.
- ينبغي غرز ثقافة الموقف في الأبناء، أي أن يكونوا أصحاب مواقف ومبادئ لا تثنيها صعاب الظروف إلا أن يكتشفوا فيها خللا فيبدلوها بمواقف ومبادئ أصلح وأكثر استقامة واعتدالا وملاءمة.
وبعد، فإن أبناءنا هم أجيال الغد والحاملين لمشاعل الأمل لهذه الأمة، فينبغي لنا أن نتلمس كل السبل من أجل صقل نفوسهم وسلوكهم بالمبادئ الإنسانية الحقة، والتي إن راعاها كل أفراد المجتمع قطع هذا المجتمع خطوات واسعة نحو التقدم والرقي.