حقوق الجار (1-3)

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: ففي هذا الزمن تباعد الجيران بعضهم عن بعض فأصبحت تمر الشهور بل السنوات ولا يعرف الواحد منا جاره وأحواله بينما في بعض الأحياء كثرت شكاوى بعض الجيران ممن جاورهم لأمور متعددة كاطلاع على العورات أو روائح مؤذية أو مشاكل الأولاد أو رمي القمامة أمام منزل الجار أو إغلاق مدخل سيارته

Share your love

د. نايف بن أحمد الحمد

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

ففي هذا الزمن تباعد الجيران بعضهم عن بعض فأصبحت تمر الشهور بل السنوات ولا يعرف الواحد منا جاره وأحواله بينما في بعض الأحياء كثرت شكاوى بعض الجيران ممن جاورهم لأمور متعددة كاطلاع على العورات أو روائح مؤذية أو مشاكل الأولاد أو رمي القمامة أمام منزل الجار أو إغلاق مدخل سيارته أو غير ذلك من صور الإيذاء لذا فقد جمعت في هذه الرسالة ما تيسير لي من أدلة من الكتاب والسنة وأقوال العلماء في بيان حقوق الجار وحرمة إيذائه سائلا المولى جل جلاله أن ينفعنا بها فأقول مستعينا به:
قال الله تعالى: (وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا (النساء 36) قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وكل مَن ذكر في هذه الآية فحقه واجب وإن كان كافرا.ا.هـ(1)

وروى جابر بن عَبْدِ الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الجِيرانُ ثَلاثَةٌ: جَارٌ لهُ حَقٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَدْنَى الجيرانِ حقًّا، وجار له حقَّان، وجَارٌ له ثلاثةُ حُقُوقٍ، وَهُوَ أفضلُ الجيرانِ حقا، فأما الذي له حق واحد فجار مُشْرِكٌ لا رَحمَ لَهُ، لَهُ حق الجَوار. وأمَّا الَّذِي لَهُ حقانِ فَجَارٌ مُسْلِمٌ، له حق الإسلام وحق الْجِوارِ، وأَمَّا الَّذِي لَهُ ثَلاثةُ حُقُوقٍ، فَجَارٌ مُسْلِمٌ ذُو رَحِمٍ لَهُ حق الجوار وحق الإسلام وحَقُّ الرحِمِ)(2)

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: واسم الجار يشمل المسلم والكافر والعابد والفاسق والصديق والعدو والغريب والبلدي والنافع والضار والقريب والأجنبي والأقرب دارا والأبعد وله مراتب بعضها أعلى من بعض فأعلاها من اجتمعت فيه الصفات الأول كلها ثم أكثرها وهلم جرا إلى الواحد وعكسه من اجتمعت فيه الصفات الأخرى كذلك فيعطى كل حقه بحسب حاله وقد تتعارض صفتان فأكثر فيرجح أو يساوي ا.هـ(3)

 

وفي الصحيح(4) عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعَتْ أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ). ولمسلم(5) بلفظ (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ). قال القاضي عياض رحمه الله: معنى الحديث إن من التزم شرائع الإسلام لزمه إكرام جاره وضيفه وبرهما وكل ذلك تعريف بحق الجار وحث على حفظه (6).

 

ومن لوازم الإكرام والإحسان ترك أذية الجار فعن أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ)(7) فهنا رغب النبي صلى الله عليه وسلم في ترك أذية الجار وعدها من أمارات صدق الإيمان.

 

ومن أعظم صور الإيذاء إيذاء الجار في أهله أو ماله عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: سأل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابه عن الزنى؟ قالوا: حرام حرمه الله ورسوله. فقال (لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره) وسألهم عن السرقة؟ قالوا: حرام حرمها الله عز وجل ورسوله فقال (لأن يسرق من عشرة أهل أبيات أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره) (8).

 

وكانت العرب تفتخر بحماية الجار وأمنه لهم قال الأوزاعي رحمه الله تعالى: قد قال شاعر من العرب يذكر فخر قومه ويذكر أمن جارهم فيهم ويمثل ذلك بحمام مكة في الأمن فقال:

يَرَى الْجَارُ فِيهِمْ أَمْناً مِنْ عَدُوِّهِ *** كَمَا أَمِنَتْ عِنْدَ الْحَطِيمِ حَمَامُهَا (9)

ومن لوازم ذلك غض البصر وعدم الاطلاع على عورات الجيران من نوافذ وغيرها.

إذا شئتَ أنْ ترْقَى جدارَكَ مَرّةً *** لأمرٍ فآذِنْ جارَ بيتِكَ من قبلُ (10)

وقال حاتم الطائي:

نَارِي وَنَارُ الْجَارِ وَاحِدَةٌ *** وَإِلَيْـهِ قَبْلِي تَنْزِلُ الْقِدْرُ
مَا ضَرَّ جَـارًا لِي أُجَاوِرُهُ *** أَنْ لَا يَكُـونَ لِبَابِهِ سِتْرُ
أَعْمَى إذَا مَا جَارَتِي بَرَزَتْ *** حَتَّى تُوَارِي جَارَتِي الْجُدْرُ(11)

بل من الإحسان إلى الجار ترك أذية دوابه ولو تعدت فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: إنه كانت ليلتى من النبي صلى الله عليه وسلم فطحنت شيئا من شعير فجعلت له قرصا فدخل فرد الباب ودخل إلى المسجد وكان إذا أراد أن ينام أغلق الباب وأوكأ القربة وأكفأ القدح وأطفأ المصباح فانتظرته أن ينصرف فأطعمه القرص… فأقبلت شاة لجارنا داجنة(12) فدخلت ثم عمدت إلى القرص فأخذته ثم أدبرت به قالت وقلقت عنه واستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فبادرتها إلى الباب فقال النبي صلى الله عليه وسلم (خذي ما أدركت من قرصك ولا تؤذى جارك في شاته)(13).

 

مؤذ الجار ناقص الإيمان عن أبي شريح رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن). قيل ومن يا رسول الله؟ قال (الذي لا يأمن جاره بوائقه) (14).

 

وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ (لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ) (15) قال البغوي رحمه الله: قوله ” بوائقه ” يريد غوائله وشره، يقال: أصابتهم بائقةٌ، أي: داهيةٌ.(16) قال القرطبي رحمه الله تعالى: قال القرطبي فمن كان مع هذا التأكيد الشديد مضرا لجاره كاشفا لعوراته حريصا على إنزال البوائق به كان ذلك منه دليلا على فساد اعتقاد ونفاق فيكون كافرا ولا شك أنه لا يدخل الجنة وأما على امتهانه بما عظم الله من حرمة الجار ومن تأكيد عهد الجوار فيكون فاسقا فسقا عظيما ومرتكب كبيرة يخاف عليه من الإصرار عليها أن يختم له بالكفر فإن المعاصي بريد الكفر فيكون من الصنف الأول فإن سلم من ذلك ومات بلا توبة فأمره إلى الله وقد كانوا في الجاهلية يبالغون في رعايته وحفظ حقه (17).

 

أما المحسن للجار فكما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال (أَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا).(18)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا؟ قَالَ: (هِيَ فِي النَّارِ) قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ(19) مِنْ الْأَقِطِ وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا؟ قَالَ: (هِيَ فِي الْجَنَّةِ) (20).

 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه جارا له فقال النبي صلى الله عليه وسلم – ثلاث مرات -: (اصبر) ثم قال له في الرابعة أو الثالثة: (اطرح متاعك في الطريق) ففعل قال: فجعل الناس يمرون به ويقولون: ما لك؟ فيقول: آذاه جاره فجعلوا يقولون: لعنه الله فجاءه جاره فقال: رد متاعك لا والله لا أوذيك أبدا (21).

 

________________

(1)    أحكام أهل الذمة 2/793.
(2)    رواه البزار (1896) والطبراني في مسند الشاميين (2458) وأبو نعيم في الحلية 5/207 قال البزار: لا نعلم أحدا روى عن عبد الرحمن بن الْفُضَيْل إلا ابْنُ أَبِي فُدَيْك. وقال أبو نعيم: غريب من حديث عطاء عن الحسن لم نكتبه إلا من حديث ابن أبي فديك.وقال ابن رجب: وقد روي هذا الحديث من وجوه أخرى متصلة ومرسلة ولا تخلو كلها من مقال. جامع العلوم والحكم 1/138
(3)    فتح الباري 10/441 عمدة القاري 32/197
(4)    رواه البخاري (5673).
(5)    صحيح مسلم (185)
(6)    شرح صحيح مسلم للنووي 2/18
(7)    رواه مسلم (183)
(8)    رواه أحمد (23905) والبخاري في الأدب (103) قال المناوي: وإسناده صحيح. التيسير بشرح الجامع الصغير 2/561
(9)    أخبار مكة للفاكهي 3/388
(10)    البيت للمعري. اللزوميات له 2/180
(11)    مكارم الأخلاق للخرائطي 1/2تاريخ دمشق 18/59 ونسبه بعضهم لمسكين الدارمي. عيون الأخبار 1/359 الأغاني 20/229
(12)    الداجن: كل ما أَلِف البيوت وأقام بها من حيوان وطير. انظر: شرح مسلم للنووي 4/55 الديباج شرح مسلم 2/204 وقال ابن الأثير: الداجن الشاة التي تألف البيت وتتربى فيه. جامع الأصول 11/350 عمدة القاري 19/10
(13)    روا البخاري في الأدب (120) بإسناد ضعيف لضعف الإفريقي عبدالرحمن بن زياد بن أنعم.
(14)    رواه البخاري (5670)
(15)    رواه مسلم (181)
(16)    شرح السنة 13/72
(17)    حاشية الزرقاني على الموطأ 4/384
(18)    رواه أحمد (8081) والترمذي (2305) والطبراني في الأوسط (7054) والبيهقي في الشعب(10616) وابن عساكر في معجمه (991) وقال: هذا حديث حسن غريب. كما حسنه الألباني في صحيح الجامع (100)
(19)    أثوار بالمثلثة وهو الصواب جمع ثور: وهي قطعة من الأقط وهو لبن جامد مستحجر. السلسلة الصحيحة (190)
(20)    رواه أحمد (9673)والبخاري في الأدب (119) قال البوصيري: رواه مسدد وأحمد بن حنبل وأبو بكر بن أبي شيبة بإسناد صحيح.إتحاف الخيرة المهرة 5/490 وصححه الحاكم (7304).
(21)    رواه أبو داود (5155) وأبو يعلى (6630) وصححه ابن حبان (520).

Source: www.almoslim.net
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!