حوار مع الدكتور محمد بولوز أستاذ التعليم العالي*

حوار مع الدكتور محمد بولوز أستاذ التعليم العالي*

حاوره(1): نبيل غزال

هوية بريس – الثلاثاء 24 شتنبر 2013م

1- مرَّ النظام التعليمي المغربي بعد الاستقلال (1956م) بعدة إصلاحات؛ كيف تقيمون هذه المحطات؟

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد، الشكر موصول إلى الإخوة العاملين في منبر السبيل على ما يبذلونه لنشر الكلمة الطيبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقول كلمة الحق على مستوى الصحافة المكتوبة في زمن كثر فيه الكذب والاختلاق والتفاهة والمتاجرة بالعمل الإعلامي والصحفي، سائلا المولى عز وجل لكم التوفيق والسداد لتحقيق الرسالة الإعلامية النبيلة.

بداية وجوابا عن سؤالكم لا يمكن لأي منصف أن ينكر ما بذل من جهد رسمي في إصلاح المنظومة التربوية ببلادنا منذ فجر الاستقلال، وأستطيع تقسيم محطات الإصلاح إلى ثلاث محطات رئيسية :

محطة المبادئ الأربعة:وهي فترة طويلة ممتدة من 1956إلى 2001

فقد وفقت النخبة الإصلاحية منذ فجر الاستقلال لوضع أربعة مبادئ وهي: المغربة والتعميم والتعريب والمجانية، وظلت تلك المبادئ تؤطر مختلف الإصلاحات الجزئية  في قطاع التربية والتعليم مدا وجزرا، وكانت بمثابة القاطرة التي تجر طموح الفاعلين في المجال، وقد تحققت نجاحات على مستوى المغربة، وتقدم التعميم خطوات معتبرة، غير أنها واجهت عراقيل بنيوية تمثلت خصوصا في هشاشة وضع البادية المغربية حيث انقطاع الكثيرين من التلاميذ والتلميذات بعد سنوات قليلة من ولوج الدراسة، وازدادت الظاهرة في المدن أيضا بعد أن لم تعد المدرسة توصل إلى الشغل والتوظيف في قطاعات الدولة كما كان الشأن في العقود الأولى من الاستقلال.

وطرحت المجانية للنقاش بشكل محتشم وغلبت عليه الأبعاد السياسية وغابت فيه جرأة القرار وتم عمليا أمام ضعف المدرسة العمومية هروب القادرين على الأداء أو المتكلفين له إلى التعليم الخصوصي وخصوصا في المستويات الأساسية.

وأما التعريب فشكل ذروة الصراع بين الفرنكفونيين وأوفياء العربية، وأقصى ما بلغه أنصار العربية من فجر الاستقلال إلى اليوم، هو البلوغ بالتعريب إلى سلك الباكالوريا، في مقابل هيمنة الفرنسية في التعليم العالي التقني والعلمي فضلا عن القطاعات الحيوية ومعظم الإدارات العامة، واستعادة الهيمنة في التعليم الخصوصي في مستوياته الابتدائية والإعدادية.

وها نحن اليوم نعيش نكوصا وانتكاسة لهذا المبدأ بعد هذه الأنباء الأخيرة والتي نتمنى أن لا تكون صحيحة ولا جادة بخصوص المذكرة الوزارية التي توصل بها عدد من مدراء مؤسسات تعليمية للثانوي التأهيلي، والتي تدعو إلى تجريب تدريس المواد العلمية؛ الطبيعيات والفيزياء والرياضيات؛ باللغة الفرنسية في السلك التأهيلي ببعض النيابات التعليمية خلال الموسم الحالي في أفق تعميمه، وذلك في ستة عشر من المؤسسات التأهيلية بجهات المملكة.

ففي الوقت الذي كنا نأمل فيه فتح مسالك لتدريس العلوم باللغة العربية بالتعليم الجامعي، وكذلك إخراج أكاديمية اللغة العربية إلى الوجود، قلت: ها نحن نعيش نكوصا وردة حضارية ولغوية، تريد العودة بنا مرة أخرى إلى ما جربناه سابقا، ولم يزدنا إلا ارتباكا وتخسيرا من هيمنة اللغة الفرنسية المتخلفة عن الركب العلمي دوليا مقارنة بلغات أخرى رائدة، وعوض أن ننهض بلغتنا العظيمة والشريفة، ونبوئها المكانة اللائقة بها، ونهيئ لها شروط النجاح، نعود إلى أحضان “ماما فرنسا”، والتي لن تغني عنا لغتها شيئا إذا نحن تجاوزنا حدود فرنسا وبعض الدويلات الفرنكفونية، وربما حتى لشربة ماء أو تناول كسرة خبز.

والحال أننا إذا كان ولابد من تلقيح واستفادة من خير ما عند الآخرين، وجب أن نعتمد لغة أكثر تقدما وانتشارا، فنختار مثلا اللغة الانجليزية في التفاعل مع الجديد، وترجمته ريثما تأخذ العربية الريادة بريادة أهلها، وقيامهم من سباتهم الطويل، ذلك أن تجارب الشعوب تؤكد أن النهضة الحقيقة لا يمكن أن تكون بلغة مستوردة، ولا يمكن أن تحدث على الوجه المطلوب إلا بلغة القوم، وذلك حتى ولو كانت محدودة الانتشار، كالعبرية والكورية والفيتنامية والهولندية واليابانية وغيرها، فكيف بلغة القرآن التي اختارها رب العزة لتكون وعاء لكلامه المعجز ودينه الذي أرسله للناس كافة.

محطة ميثاق التربية والتكوين:2001-2010

 جاء ميثاق التربية والتكوين الذي أشرف عليه المستشار الملكي مزيان بلفقيه رحمه الله ليضع حدا لتلك الأطر الأربعة والمبادئ المحركة (أي: المغربة والتعميم والتعريب والمجانية)، ويرسم خطوطا جديدة ويحاول القفز على مشاكل لم يحسم فيها بعد كالتعريب. وقد تم فيه إعلان العشرية 2001-2010 عشرية وطنية للتربية والتكوين. كما أعلن فيها قطاع التربية والتكوين أول أسبقية وطنية بعد الوحدة الترابية.

هذا الميثاق عرف نوعا من التوافق بين مختلف القوى السياسية والمجتمعية المعترف بها رسميا، جاء يضع المبادئ الأساسية التي تضم المرتكزات الثابتة لنظام التربية والتكوين والغايات الكبرى المتوخاة منه، وحقوق وواجبات كل الشركاء، والتعبئة الوطنية المطلوبة لإنجاح الإصلاح.

وقد سطر ستة مجالات للتجديد، موزعة على تسعة عشر دعامة للتغيير، وهذه المجالات هي: نشر التعليم وربطه بالمحيط الاقتصادي؛ إعادة التنظيم البيداغوجي؛ توخي الرفع من جودة التربية والتكوين؛ العناية بالموارد البشرية؛ اقترحات تهم التسيير والتدبير؛ والشراكة والتمويل.

وجاء في ديباجة الميثاق أنه “تم الحرص في صياغة المبادئ الأساسية للإصلاح وتجديد مجالاته، على توخي الدقة والوضوح قدر المستطاع، مع الاستحضار الدائم لضرورة التوفيق بين ما هو مرغوب فيه وما هو ممكن التطبيق. ومن ثم جاءت دعامات التغيير في صيغة مقترحات عملية، مقرونة كلما أمكن بسبل تطبيقها وآجاله”. ومن المؤاخذات التي يمكن تسجيلها على الميثاق في جانبه النظري من وجهة نظري:

– قصور الوسائل عن المقاصد المعلنة.

– طغيان الجانب المادي والهاجس الاقتصادي.

– الحضور الباهت للهوية الإسلامية على مستوى الشكل وإهمالها على مستوى المقتضيات العملية.

– إطراء اللغة العربية على مستوى العبارات وإضعافها على مستوى الفعل ووسائل التنزيل.

أما على مستوى تطبيق الميثاق فالأمر أشد وأخطر، حيث لم تحترم الآجال المحددة فيه، ولم تهيأ الموارد البشرية لحسن تنزيله، وأكاديمية اللغة العربية المسطرة فيه لم تر النور بعد والعشرية قد انتهت. وعلى مستوى الواقع لا تزال نسبة الاكتظاظ مرتفعة في الفصول الدراسية أي ما يفوق 41 تلميذا في المعدل، وإلا فهناك أقسام كثيرة تفوق هذه النسبة بكثير، ونسبة الانقطاع مهولة وخصوصا في المستوى الابتدائي (تقدر الأعداد بحوالي 400.000 سنة 2007) مما يعني استمرار معضلة الأمية لأجيال قادمة، كما ويعاني القطاع من خصاص كبير في الموارد البشرية تقدر بالآلاف في هيأة التدريس والتأطير والطاقم الإداري والأعوان.

والأخطر أن المستوى التعليمي يتدنى باستمرار، ولا شك أن الأزمة وباعتراف المسؤولين في الدوائر العليا بنيوية ومعقدة تتداخل فيها جوانب القصور المركزية والجهوية والمحلية، ووجود عدد كبير ممن لا يحسنون أداء مهامهم ومسؤولياتهم. ومما يزيد من استفحال الوضعية في تنزيل الميثاق وتنفيذ بنود الإصلاح، كونه يتعامل معه بتأويل خاص ينسجم مع الرؤية الحزبية التي تتولى تدبير القطاع، فإذا جاء فيه ما ينسجم ورؤيتهم استندوا إليه، وإن كان غير ذلك وجاءوا بما يخالفه ويناقضه قالوا إنه ليس كتابا مقدسا إنما هو للاستئناس، فتغيب الجدية في التعامل معه، ويغيب التوافق الذي كان حاضرا في وضعه وتأسيسه.

وفي مجال الهوية الإسلامية واللغة العربية كان من سوء حظ المغرب تعاقب الأطراف العلمانية واليسارية -في الأغلب الأعم- على التعليم من زمن غير يسير، الأمر الذي جعل قصارى جهود أنصار الأصالة والهوية هو الحفاظ على بعض المواقع وصد الهجمات المتوالية على مادة التربية الإسلامية والعربية عوض المساهمة الفعالة في البناء.

محطة البرنامج الاستعجالي وما بعده (2009 إلى الآن)

ولما قاربت عشرية ميثاق التربية والتكوين على الانتهاء ومع صدور التقرير الوطني الأول حول حالة منظومة التربية والتكوين وآفاقها الذي أصدر سنة 2008 من طرف المجلس الأعلى للتعليم، لوحظ بعد الشقة بين ما يطمح إليه الميثاق وبين وضع التعليم ببلادنا، وتم التنادي إلى وضع برنامج استعجالي من أجل تسريع وثيرة إصلاح منظومة التربية والتكوين، قيل عنه في وقته إنه طموح ومجدد يمتد على مدى أربع سنوات 2009-2012.

وحدد المبدأ الجوهري لهذا البرنامج في جعل المتعلم في قلب منظومة التربية والتكوين مع تسخير باقي الدعامات الأخرى لخدمته وتم وضع خطة عمل تم تركيزها في أربعة أقطاب رئيسية: قطب الحكامة، وقطب التعميم، وقطب الموارد البشرية، والقطب البيداغوجي، وتتوخى تلك الأقطاب تحقيق أهداف تدخل ضمن أربعة مجالات أولية:

يهم الأول التحقيق الفعلي لإلزامية التمدرس إلى غاية 15 سنة.

ويهم الثاني حفز روح المبادرة والتفوق في المؤسسات الثانوية وفي الجامعة.

ويهم الثالث مواجهة الإشكالات الأفقية للمنظومة التربوية.

ويهم الرابع توفير وسائل النجاح.

ووضعت لهذه الغاية وبقصد إنجاح البرنامج الاستعجالي (25 مشروعا و129 إجراءا و721 مؤشرا للتتبع) ورصدت للبرنامج ميزانية ضخمة بلغت  33397 مليونا من الدراهم.

وبخصوص البرنامج الحكومي الحالي لم يبتعد عن البرنامج الاستعجالي كثيرا وركز على ثلاثة أسس: إعادة الثقة في المدرسة العمومية، استعادة ريادة الجامعة المغربية في التكوين والإشعاع والبحث العلمي، الرفع من وتيرة برنامج محاربة الأمية.

وإذا فصلنا قليلا في الأساس الأول على سبيل المثال نجد من الإجراءات: جعل المؤسسة التعليمية في صلب الاهتمام بالنظام التربوي (بدعم استقلالية التدبير، والتقييم المنتظم وربط المسؤولية بالمحاسبة، والانفتاح المؤسساتي، والتصدي للظواهر المشينة كالمخدرات والتحرش الجنسي..)، والعناية بحكامة قطاع التربية (ويقصد بها: تعميم التمدرس، محاربة الهدر والتكرار، تأهيل المؤسسات، تطوير النموذج البيداغوجي، تحسين جودة الخدمات، رفع مستوى التأطير) وكذا الارتقاء بمهام المدرسة الوطنية وأدوارها (من خلال تتبع ومراجعة المناهج بانتظام، ترسيخ مبادئ ومقومات التربية على منظومة القيم، تقوية وتحديث تدريس اللغات، تعزيز ومضاعفة “برنامج تيسير”، الاهتمام بالأقسام التحضيرية، تطوير التعليم العتيق والأصيل، ضمان جودة القطاع الخصوصي عبر دفاتر تحملات واستقلاله بموارده البشرية ليكون مجالا للتشغيل)، ويسجل للوزارة الوصية من الناحية العملية تحسن في الإجراءات المصاحبة لامتحان الباكالوريا، الكشف عن الموظفين “الأشباح” ومراسلتهم لتسوية وضعياتهم، تراجع الإضرابات بشكل كبير، الإعلان عن وضعية السكن الوظيفي ولوائح المحتلين له بغير حق، التقدم في معالجة الحركة الانتقالية.. كما ويؤخذ عليها توقيف بداغوجيا الإدماج من غير مشاورات موسعة ولا إعطاء بدائل واضحة، وتجميد مسلسل إعادة النظر في المناهج والمقررات..

2- رغم كل الجهود المبذولة في هذا المجال لازال المغرب يراوح مكانه في مؤخرة الترتيب بين مصاف الدول المتخلفة، فإلى ما يعزى هذا الوضع؟

ينبغي أن ننظر إلى الأمر باعتدال من غير تهويل ولا تهوين وأن نكف عن جلد الذات باستمرار، ما يبذل بحق من جهود هي كبيرة وكثيرة، ولولا المخلصون في هذا القطاع -بعد الله تعالى- لانهار من زمان؛ ولكن هناك شرفاء مرابطون في مختلف المواقع المركزية والجهوية والمحلية من إداريين وتربويين وفي مختلف مجالات التخطيط والتوجيه والاقتصاد والمختبرات والأعوان وطاقم التدريس وجنود الخفاء في آلاف المؤسسات في السهول والجبال في المدن والقرى.

فالعملية التعليمية التعلمية عملية معقدة متشابكة فيها متدخلون كثر لا يكادون يحصون عددا، وأي خلل في أي مفصل من المفاصل يمكن أن يؤثر على العملية برمتها، فمسؤولية التخلف في القطاع هي مسؤولية جماعية ومسؤولية كل متدخل على حدة على تفاوت في تلك المسؤوليات سواء كان في مركز القرار أو في مسؤولية جهوية أو إقليمية أو فرعية محلية أو المحيط بكل هؤلاء وبيئة التلميذ حتى نصل إلى مسؤولية الأسرة والآباء وحتى التلاميذ والطلبة وخصوصا البالغين منهم، فالتعليم وإن كان ينظر إليه أن يكون القاطرة للتقدم والنهوض فلا ينفك عن التأثر بالبيئة التي يكون فيها سلبا أو إيجابا، فهو ابن بيئته ما لم يتبوؤ فيها مركز القيادة ويصبح هو المضغة الاجتماعية إذا صلح صلح به المجتمع كله.

فأخلص إلى أن المعضلة عندنا بحسب ما أرى ليست في الموارد البشرية ولا حتى في الإمكانات المادية أقصد من جهة الكم، وإنما في غياب البوصلة والروح والبركة، وحتى إذا ألح البعض على وجود بوصلة ما لتعليمنا فهي غير واضحة بما فيه الكفاية لتشرئب إليها الأعناق ويجد الناس في السير نحوها، عندنا جسم تعليمي ضخم ولكن بحاجة إلى نفخة روح كي ينتفض ويقود الأمة نحو مقاصدها وليست الروح غير الوفاء بحق لوحي ربنا وبيان نبينا عليه الصلاة والسلام، نرصد أموالا ضخمة مقارنة بدخلنا وإمكاناتنا ونخصص أوقاتا كثيرة وموارد عديدة ولكن تنقصها بركة الأمانة والاقتصاد والنزاهة والزهد في المال العام، إننا بحاجة إلى وفرة كبيرة في عدد الرساليين العاملين في المجال التربوي التعليمي ليسدوا النقص الحاصل من بائعي الحروف والمتاجرين بمستقبل الأجيال بعرض من الدنيا قليل.

3- ورش التربية والتعليم ورش مصيري بالنسبة للمغرب اليوم، ألا ترون أن غياب الاستمرارية بين البرامج الحكومية والمخططات الاستراتيجية القطاعية يحول دون تحقق النتائج المنتظرة؟

هذا واضح، فنحن في التعليم نضع خططا بعيدة المدى لتكوين أجيال، أو بالأحرى تكوين إنسان بما يصلحه من الروضة إلى أن يتخرج من الجامعة، أي ما يعادل تقريبا ثلاث حكومات متعاقبة فلا يصلح أن تخطط الأولى للمخرجات النهائية، وتأتي الثانية فتربك الخطة في المرحلة الثانوية، أو تأتي الثالثة وتربك المرحلة الجامعية.

وعلى سبيل المثال: مسلسل التعريب في بلادنا على الأقل على المستوى التعليمي اتخذ بعد انتظار طويل وتردد كبير، وأنجز قسما كبيرا منه الدكتور عز الدين العراقي رحمه الله لما كان على رأس الوزارة حتى وصل إلى مستوى الباكالوريا، والمفروض أن يأتي من بعده ويكمل العملية إلى المستويات العليا مع تحصين التجربة بعوامل النجاح مثل اعتماد الانجليزية كلغة موازية للترجمة والتفاعل مع المستجدات العلمية ومواكبة التطورات عوض الفرنسية، فيكون إتقانها شرطا وخصوصا في مستوى الماستر والدكتوراة، ومن اكتفى بالإجازة يصلح أن يؤهل لإعادة تدريس العلوم باللغة العربية في المستويات الأساسية والثانوية، ولن تكون عربيتنا أقل شأنا في مواكبة مستجدات العلوم من الكورية والعبرية واليابانية والهولندية والسويدية والفلندية والفلمانية والتركية والفتنامية وغيرها من لغات الدنيا الأقل انتشارا والأقل غنى، والتي تدرس بها العلوم في المستويات العليا مع الاستعانة في الأغلب الأعم بالإنجليزية.

ولكن الذي حدث عكس هذا تماما، تم إيقاف التعريب عند عتبة الباكالوريا بقرار فوقي لا شورى فيه ولا ديمقراطية، وأصبح الناس في ارتباك شديد حتى محبي العربية يرون معاناة أولادهم في التعليم العالي حيث يشكل تغيير لغة التدريس عائقا كبيرا أمام تفوقهم واستمرارهم في الدراسة، وأصبحوا مهيئين اضطرارا لقبول إعادة فرنسة العلوم في المستويات الثانوية، ولا شك أن هذه النتيجة هي مقصود من أوقف تعريب التعليم العالي، ولو أرادوا ذلك لأعدوا له عدته، ولكن كره الله انبعاثهم وقيل اقعدوا في التبعية وذل التقليد.

فالأصل هو الاستمرارية، إلا إذا كان ما سار عليه السابقون تشوبه روائح الفساد أو ترسيخ الطبقية والتمييز بين المواطنين ونحو ذلك من الاختلالات فلا مانع من المراجعة والتصحيح، وخصوصا إذا كان القائمون على ذلك ممن اختارهم الشعب بنزاهة وشفافية وينتظرهم إعطاء الحساب فلا يعقل أن يستمروا في الطريق الخطأ.

4- أكد الخطاب الملكي الأخير على تسريع إقرار النصوص القانونية المتعلقة بتفعيل المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، كيف تقيمون هذه التجربة، وهل ترون أن المجلس بتمثيليته المجتمعية؛ وتخصص أعضائه الوظيفي والمهني؛ سيقدم حلولا ناجعة لمعضلات التعليم؟

تعتبر آلية تفعيل المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي آلية دستورية مهمة لضمان الاستمرارية التي تحدثنا عنها سالفا وربط اللاحق بالسابق في أعمال الحكومات المتعاقبة، ولكن شريطة سلامة تركيبها بوجود عدد معتبر من خبراء الميدان والمفكرين فيه وأهل الاختصاص وتكون تركيبته أيضا بحيث تعبر عن مختلف الحساسيات المجتمعية ولا تلغي اختيار المكون الأغلبي في المجتمع، .

إذ الذي يحدث أحيانا أو في كثير منها في مثل هذه المجالس العليا أن يمثل المكون الرئيسي والأغلبي بشخص أو شخصين أو حتى ثلاث وتأتي تيارات أخرى تعبر عن حساسيات محدودة وأقليات فكرية وربما بعضها معاد لتوجه السواد الأعظم في الأمة فيمثلون بأعداد كبيرة جدا لا توازي نسبتهم المحدودة في المجتمع، ويأتون من أبواب ونوافذ مختلفة باسم الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني والحقوقي وغير ذلك مما يحسنون التفريخ فيه، فيجد مثلا ممثل المجلس العلمي الأعلى ومن هو قريب من فكره وتوجهه من بعض الأفراد، يجدون أنفسهم غرباء مستضعفون وسط تلك الجموع من النسخ والألوان المتعددة للعملة الواحدة، ويجد أصحاب التوجه الإسلامي أنفسهم في حرج سواء طرح أمر التوافق في القرارات أو التصويت بالأغلبية، فيبحثون حينها وفي هذا الجو المغشوش عن مجرد دفع الشرور والتقليل من الخسائر وخصوصا في معركة الهوية والقيم.

والشرط الثاني الذي أراه أن لا تتعدى تلك المجالس العليا دور الاستشارة -كما هو مسطر في الدستور- وإبداء الرأي والملاحظات وحتى تقييم الأعمال، وأن لا تعطل دور الحكومات المنتخبة من الشعب والتي يجب أن تبقى في يدها المبادرة واتخاذ القرار، وأرى من الأمثلة السيئة في هذا المجال ما يحدث الآن في القطاع السمعي البصري، فإذا احتج الناس على ما يبث في القنوات الوطنية التي تمول من جيوب المغاربة من ميوعة وانحلال وتفاهة، يحيلهم الوزير المنتخب الذي لا نشك في غيرته ونزاهته على “الهاكا” ولجن القيم والأخلاقيات ونحو ذلك، وهؤلاء معينون لا ندري المعايير التي بها يختار أغلبهم  ولا الطرق التي بها يأتون إلى تلك المواقع، وهم بتلك الأحوال لا يبالون برضى الشعب ولا بسخطه، فتكون مثل هذه المجالس العليا حينها نوعا من تهريب الإرادة الشعبية وإفراغ سلطة الحكومات من مضمونها والتحايل على إرادة الأغلبية حيث ينتخب من لا قرار له ويجعل القرار في يد من لا محاسبة عليه، فيستمر الفساد والاستبداد.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

* مكون بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين ومفتش تربوي سابق وعضو المكتب الوطني للجمعية المغربية لأساتذة التربية الإسلامية.

 1- نشر في أسبوعية السبيل، العدد:153.

Source: howiyapress.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *