صدرت فتوى الشيخ عبدالرحمن بن ناصر البراك –وحسبك به- المتضمنة الحكم بردة اثنين من كتاب الصحافة.
وحيثيات الفتوى فيما يبدو تعرض الكاتبين للطعن في بعض أصول الدين التي هي من مقتضيات الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، إذ لايستقيم إيمان من شك في ختم رسالته صلى الله عليه وسلم للرسالات من قبله، ونسخها لها، أو صحح معها إيمان من لم يؤمن به صلى الله عليه وسلم، ولهذا أجمع العلماء كما نقل القاضي “على كفر من لم يكفر أحداً من النصارى واليهود [تأمل الإجماع في من لم يكفر واحداً فقط]، وكل من فارق دين المسلمين، أو وقف في تكفيرهم، أو شك”(1)، فمن وقف في كفر غير المسلمين أو شك فهو كافر ليس بفتوى العلامة عبدالرحمن البراك وحده، بل بإجماع المسلمين، كما نقل القاضي عياض قبل نحو تسعمائة عام، فكيف بمن أصدر بياناً حاصله رفض حكم الله الذي أجمعت عليه الأمة والقاضي بتكفير من لم يكفر اليهود والنصارى؟ إن نجا هؤلاء فهم على خطر.
وقد جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ما نصه: “من لا شبهة في كفره كاليهود والنصارى والشيوعيين وأشباههم، فهؤلاء لا شبهة في كفرهم ولا في كفر من لم يكفرهم، والله ولي التوفيق”(2)، وقولهم لا شبهة في كفرهم لأن كفرهم معلوم من الدين بالضرورة، وينبغي أن لا تقبل دعوى الجهل به ولاسيما في بلاد شاع فيها العلم.
ومع ذلك خرج بيان من نحو تسعين وصفوا بأنهم ناشطين والحق أن أغلبهم خاملين لا ذكر لهم ولا أثر في الساحة، وبعضهم ناشطين لكن نشاطهم من جنس نشاط التكفيريين بالإفساد في الأرض! والعمل الدؤوب على تحويل البلاد إلى مستعمرة غربية. وأياً من كانوا فالقارئ للبيان يجزم بأنهم ليسوا ممن استنار بأضواء الشريعة وعلم حدودها ومقاصدها، بل استنار كاتبوا البيان أثناء رقمه فيما يظهر بشمس مشرقة من جهة الغرب، ولهذا لم تتأت لأحدهم إجالة البصر -وقلبه حاضر- في فتوى الشيخ العلامة عبدالرحمن البراك حفظه الله، لينظر في الأدلة والحجج والبراهين التي أوردها فيناقشها، وربما أجال بعضهم الطرف فارتد وهو حسير، وأياً ما كان فما رأينا حتى الآن واحداً من هؤلاء تعرض لأدلة الشيخ أو ناقشها، وغاية ما يدندنون حوله مسألة التحريض على قتل المرتد، وهذا حكم تقره الدولة –وفقها الله وزادها عملاً بالشرع- ويقر به قضاتها الشرعيون، فلا معنى للف والدوران ولتطالبوا الدولة صراحاً بإلغاء الحدود كما أشرتم في بيانكم هذا إلى إلغاء حد الردة، مع أن قتل المرتد محل إجماع بين المسلمين، قال ابن قدامة في المغنى: “أجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد”(3)، فهل تعترضون على هذا الحكم المقرر وأمثاله؟ فما أتسعكم إذاً يوم تداعيتم لإنكار حكم من أحكام الشريعة.
والناظر في البيان يلحظ جملة انحرافات وتناقضات، رمت بادئ أمري تتبعها فإذا بي أمام جمهرة أخطاء حاشدة آثرت معها عدم الإطالة على القارئ، وآثرت ترداد قول الأول: يا ناطح الجبل العالي ليثلمه أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل، مع الاكتفاء بسرد بضعة وعشرين غلطاً في صدر البيان، تعرف المنصفين بمحل هؤلاء من العلم والعقل، وإليكم منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي في ربع البيان الأول:
1: جعلوا العنوان مقرراً إنكار حكم شرعي ألا وهو التكفير، فقالوا: ” لا للتكفير”، والله تعالى يقول: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) [التغابن:2]، وقال: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) [آل عمران: 86]، وقال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً) [آل عمران:90]،وقال: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [آل عمران: 106]، وكما أن الحكم بالإيمان قد يجب فكذلك الحكم بالكفر قد يجب، على أن يصدر حكم التكفير من أهله العالمين، ومن مقدميهم اليوم الشيخ العلامة عبدالرحمن البراك حفظه الله.
2: ضمنوا العنوان تأييد حرية التعبير، فقالوا: “نعم لحرية التعبير”، مع أن حرية التعبير قد تقتضي قول الكفر، وأن الله ثالث ثلاثة، وقد تقتضي كذلك الطعن في الأنبياء وسبهم، كما يقوله حكام الدنمارك والسويد وهولندا وغيرهم من أمم الكفر، ومما يقتضيه قولهم: نعم لحرية التعبير بغير قيد تأييد الإزراء بولاة الأمر، والتشنيع عليهم كما يحدث في بعض دول الغرب باسم النقد، وقد سمعنا بعض هؤلاء في الغرب ينتقدون ولاة أمر المسلمين ويستطيلون عليهم ويعيشون بعد ذلك في سلام باسم حرية التعبير.
3: إن من مفارقات أدعياء حرية التعبير مطالبتهم بتكميم فم شيخ قارب الثمانين سئل عما يدين الله به من الحكم الشرعي فأجاب، فليت شعري لم تشرع أبواب حرية التعبير لإعلان الردة، وتغلق دون بيان أحكام الشريعة:
أحرام على بلابله الدوح *** حلال لدى الطير من كل جنس!
4: زعموا أن “الفكر لا ينمو إلاّ في جو من الحرية يتيح للمفكر أن يعبر عمّا يراه علناً”، وهذا من أدنى جهلهم، فمن الذي قال إن الفكر لا ينمو إلاّ في جو من الحرية يأذن بالتعبير، إن التعبير وسيلة لإعلان الفكر لا علاقة لها بنمو فكر الشخص أو ضموره داخله، بل قد يعبر وتضمر الفكرة، ويسكت ومع ذلك تقوى داخله، فالربط بين نمو الفكر وحرية التعبير محض جهل لا يمليه عقل.
5: ليس كل فكر ينبغي أن يؤذن له في النمو، ولا كل فكر يسوغ إعلانه، بل من الأفكار ما حري بها أن تضمر، وإن خرجت أن تكبت، ففكر الخوارج والتكفيريين مثلاً لا ينبغي له أن ينمو، وإن نمى فلا ينبغي أن يؤذن في إخراجه، وكذلك فكر اللا دنيين والمرتدين، ولست أدري! هل يفهم من هذا الكلام أن الموقعين يعتقدون أن من حق أهل التكفير والتفجير إعلانهم بما يعتقدون ما لم يقموا بعمل، وأن على الدولة أن تتركهم، وأن على العلماء السكوت عنهم، أم أنهم يقولون ما لا يعقلون ولا يعنون؟ وأياً ما كان فكبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلاّ كذباً.
6: زعمهم أن نمو الكفر عفواً الفكر –وقد كتبت الأولى سهواً ولم أر ما يدعو لشطبها!- لابد أن يكون في جو لا يخشى المفكر معه من العقاب على مجرد طرح الأفكار، وهذا الزعم كسابقه، فلا علاقة لنمو الفكر أو اختمار فكرة ما مع خشية إعلانها، فقد يخشى الإعلان والفكرة تنمو يوماً بعد يوم، وقد لا يخشاه وتضمر حيناً بعد حين، هذا من جهة ومن جهة أخرى لو قدر ارتباط نمو الفكر بخشية إعلان الفكرة، لما كان هذا بمجرده مسوغاً جوازَ إعلان كل فكرة، بل إن كان الفكر جديراً بالنمو فذاك، وإن كان كمثل شجرة خبيثة فحري بالمصلحين والعقلاء أن يسعوا لأن تجتث من جذورها، إن الأفكار بل حديث النفس وإن لم يعلن قد تكون له آثار مغبتها مردية، وإنما عُفِيَ لهذه الأمة خاصة ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم، كما قال صلى الله عليه وسلم(4)، فإن تكلمت، أو عملت ينظر فيما قيل أو عُمل، فإن كان القول المعبر عن الفكرة يستحق صاحبه العقوبة عوقب، كفكر من يفكر في هتك أعراض المسلمين ويجول خاطره في رميهم بالفواحش مثلاً، أو يفكر في التفجير ويرى مشروعيته في بلاد المسلمين، وأشد من هؤلاء الذين يعلنون فكراً حاصله الطعن في شهادة أن محمداً رسول الله.
7: قولهم: “إن الاعتراض على الأفكار لايتم إلا عبر طرح الأفكار التي تفندها”، وهذا باطل عند جميع العقلاء وإلاّ ما قامت حرب على وجه الكرة الأرضية، ولا حبس مجرم، ولا لجأ أحد إلى القوة في شيء، ولا احتجنا إلى المخافر وأجهزة الأمن والجيش وغيرها، وإنّ الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، ومنشأ هذه المغالطة جهل بعضهم أو تجاهلهم أن من الأفكار الآثمة الخاطئة ما لا يحتاج صاحبه إلى تعليم أو إقناع، إما لعدم جهله، أو لاستكباره أو لإعراضه أو لغير ذلك، ومن السذاجة أن يظن هؤلاء كلَّ فكرة باطلة إنما دفع صاحبها إليها الجهل ببطلانها، أو أن كل حق مردود رده الرادون لمجرد جهلهم به، حتى يجابه بمجرد البيان، فهذا إبليس لعنه الله رفض الانصياع لأمر الله بسبب فكرة عنت له عبر عنها فقال: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ)، وبرهان ذلك عنده: (خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)، ومع ذلك قال الله تعالى: (فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) [الحجر: 34-35]، وهو يوم القيامة خالد مخلد في النار، وأبو طالب في ضحضاح من النار يغلي منه دماغه مع أن ما معه مجرد أفكار فهو لم يعاد الإسلام، بل نصره وحمى رسوله عليه الصلاة والسلام، وكان يقول:
ولقد علمت بأن دين محمد *** من خير أديان البرية دينا
8: زعموا أن الأفكار تجابه بطرح الأفكار التي تفندها، فهل صنع الشيخ العلامة عبدالرحمن البراك غير ذلك، هل مد يده على أحدهم، أو أطلق رصاصة على رأسه؟ غاية ما صنعه البيان المؤصل بالدليل، ثم دعا لاستتابة المرتدين ولم يأمر بقتلهم مباشرة، والاستتابة تقتضي مزيداً من إقامة الحجة عليهم وإتاحة فرصة لتراجعهم، فإن هم لم يرجعوا عن ردتهم بعد ذلك وأصروا واستكبروا استكباراً فحري بهم أن يقتلوا، إذ ليس إشكالهم مجرد فكرة عنت لهم أو خاطرة لم تختمر في أذهانهم بل طعنهم إن هم لم يسلموا بعد الاستتابة طعن في عموم رسالته صلى الله عليه وسلم ووجوب الإيمان بها عن سابق إصرار واستكبار.
9: زعموا أن “الاعتراض على الأفكار لا يتم إلاّ عبر طرح الأفكار التي تفندها”، وهذا باطل فكثير من الأفكار هم يدعون إلى قمعها، ونحن نوافقهم في بعض ذلك كأفكار الخوارج، وأشد من هؤلاء سائر الزنادقة والمرتدين.
10: وهم مع ذلك متناقضون في هذه الدعوى، فلئن كانت الأفكار إنما تجابه بالأفكار فلم تطالبون بموقف حازم من قبل الدولة تجاه مثل فكر العلامة عبدالرحمن؟
11: قالوا: “فمن رأى خطأ في فكر أحد من المواطنين فله أن يناقشه علناً باستخدام الحجة والبرهان لتبيان خطأه”، هكذا (خطأه)، وعجبي من بضعة وتسعين كاتباً لا يحسنون الإملاء مع أن مؤهلهم الرئيس للخوض في كل قضية هو قدرتهم على الكتابة! ثم يردون على الشيخ العلامة الذي قضى مثل عمر أكبرهم سناً في تعليم العقيدة! هذا أوانك يا مهازل فامرحي!!
12: الخطأ في الفكر لا يُرى لكن يرى في المقالة ويسمع في الكلمة، ثم هذا الخطأ في المقال قد يكون لسوء فكر أو لغلط في التعبير، فإن كان لسوء الفكرة المعبر عنها، فإما أن تكون دعوى بغير بينة ولا برهان من غير مختص شأنه كشأن الأمي في القضية المعنية، أو تكون للفكرة حجة وعليها برهان، أما إن كانت مجرد دعوى فطَلَبُهم هذا بمثابة من يخرج في جريدة فيلعن آخر أو يسبه قائلاً: يا حمار افهم! ثم نطالب المعتدى عليه أن يناقش، وأن يثبت له أنه ليس حماراً!
13: قولهم: “من المواطنين” حشو لا داعي له.
14: قولهم: “فله أن يناقشه علناً” ليس كل غلط يستحق النقاش علناً، فلو كانت المسألة اجتهادية وللرأي فيها مجال، وقد تنازع الناس فيها قديماً وحديثاً فقد لا يحسن نقاشها علناً، ولو كانت مجرد إساءة فليس حقها أن تناقش علناً، وتصور لو تهجم أحدهم على واحد من علية القوم بغير حجج ولا بينات أكنتم تطالبون قبل إنزال العقوبة به بمناقشته علناً؟
15: ليس لكل أحد أن يناقش، وقولهم “من رأى فله أن يناقش”، تعميم ليس في محله، فكم من إنسان حري به أن يسكت ويغضي إما لعدم أهليته للنقاش، أو لأن الواقع يبين ألا جدوى فيه فلا تقتضي الحكمة النقاش حينها.
16: قولهم: “فله” يشعر بأن ذلك غير ملزم، والحق أن النقاش قد يكون واجباً عليه وقد يكون أمره واسعاً بالنسبة إليه، وقد لا ينبغي له كما سبق بيانه.
17: قولهم: “ويشرح ما يراه صواباً، لا أن يلغيه بتكفير صاحبه والاستعداء عليه”، ليس من لازم مناقشة باطل بيان الصواب وشرحه، وإنما يتعين هذا مع طالب العلم المريد للحق الذي يثني ركبه في مجالس أهل العلم، وحسبنا بيان الباطل ونقده وإثبات بطلانه كما في فتوى الشيخ وكفى.
18: وليس التكفير إلغاء لفكر الآخر، بل بيان لحكمه في اعتقاد مكفره، بدليل أن الفكرة قد يستمر عليها الكافر، وقد يعتنقها غيره فهي لم تلغ!
19: ثم إنا رأينا من بعضكم استعداء صريحاً على أصحاب أفكار فكيف تمنعون غيركم من الاستعداء على من يراه مجرماً؟ وقد سبق وأن أشرت إلى أن من الأفكار ما لا علاج له إلاّ بقمع السلطان، إذ ليس منشؤها جهل لكن عصبية أو استكبار أو إعراض أو هوى.
20: المطالبة بالقتل التي أنكرتموها حكم شرعي قد يكون في بعض الأحوال واجباً، كما في حال قتل المرتد، وكما في خبر قتل كعب بن الأشرف وقد كان معاهداً آمن في المدينة آذى الله ورسوله بالافتراء عليهما –مجرد كلام- فقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله، فانتدب له محمد بن مسلمة وقصة قتله لكعب مشهورة مذكورة في مناقبه.
21: وزعمهم أن طلب قتل من توجب الشريعة قتله –أعني المرتد- لا يقبله العقل، ربما كان صحيحاً في حق العقل المنتكس المريض، أما العقل السوي فإنه يقبل ذلك، فالإسلام لابد أن يحاط من طعن الطاعنين فيه ومن أعظم الطعن فيه الخروج منه بعد الدخول فيه، أو الخروج بجحد بعض أحكامه الثابتة في الكتاب أو المتواترة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتشكيك الناس فيها.
22: وزعمهم بأن قتل المرتد لا يقره شرع، كذب ظاهر، فقد ثبت في صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: من بدل دينه فاقتلوه؟ فأي شرع يريدون وعن أي دين يتحدثون، إذا كان ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهذا قوله.
23: ثم يقال لهم في قولهم: “ولايقره شرع”: حنانيكم ومن أنتم حتى تتحدثون عن الشرع، وإنما يسأل عن مسائل الشرع مثل الشيخ العلامة عبدالرحمن البراك حفظه الله، فاعرفوا أقداركم والزموها رحم الله مسلمكم.
24: قال المتفيهقون: ” فالإنسان المُكْرَه على الإيمان – إن وجد – لا إيمان له، لأن المؤمن لا يوصف بهذا الوصف إلا إذا وقر في قلبه الإيمان ونطق به لسانه وعملت به جوارحه، فلا إكراه في الدين، وما مُنح البشر حق الاختيار إلا ليكون إيمانهم عن اقتناع”، ونقول لسماحة الموقعين، ليتكم ما أعلنتم بالجهل، وتركتم أمر الشرع لأهل العلم، ومن الذي قال إن قتل المرتد غرضه الإكراه على الإيمان، بل من حكمته ما قاله الطاهر بن عاشور: “حكمة تشريع قتل المرتد، مع أن الكافر بالأصالة لا يقتل، أن الارتداد خروج فرد أو جماعة من الجامعة الإسلامية، فهو بخروجه من الإسلام بعد الدخول فيه ينادي على أنه لما خالط هذا الدين وجده غير صالح، ووجد ما كان عليه قبل ذلك أصلح، فهذا تعريض بالدين واستخفاف به، وفيه أيضاً تمهيد طريق لمن يريد أن ينسل من هذا الدين، وذلك يفضي إلى انحلال الجماعة، فلو لم يجعل لذلك زاجر ما انزجر الناس، ولا نجد شيئاً زاجراً مثل توقع الموت، فلذلك جعل الموت هو العقوبة للمرتد، حتى لا يدخل أحد في الدين إلا على بصيرة، وحتى لا يخرج منه أحد بعد الدخول فيه، وليس هذا من الإكراه في الدين المنفي بقوله تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، على القول بأنها غير منسوخة، لأن الإكراه في الدين هو إكراه الناس على الخروج من أديانهم والدخول في الإسلام، وأما هذا فهو من الإكراه على البقاء في الإسلام”، فعلم من هذا أن قولهم: “ليكون إيمانهم عن اقتناع” إنما سبيله إقامة حد الردة لا منعه، فمعه لا يدخل أحد الإسلام إلاّ عن قناعة، أما بدونه فباب الطعن في الدين بالانسلال عنه مشرع، ثم إن الله عزوجل الذي قال: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، هو الذي أمر بقتل المرتدين، وحرب الكافرين، فعلم أن قوله لا إكراه ناف لوقوع الدين في القلوب بالإكراه، غير ناف لعقوبة المختار للكفر لا في الدنيا ولا في الآخرة، فكما له أن يختار فلنا أن نعاقب على بعض الاختيار كما أمرنا ربنا، وكما أن له أن يختار لله أن يحاسبه يوم القيامة على هذا الاختيار.
25: وزعمهم بأن المكره على الإيمان لا إيمان له زعم فيه إشكال، إذ غاية الأمر أن يكره رجل على إظهار الإسلام، ومن أظهر الإسلام فهو مسلم في الظاهر وسريرته ليست إلينا، وليست المؤاخذة بها علينا، وعليه فقد يكره رجل على الإسلام وهذا قد يجيء من الإسلام الظاهر بما يعصم دمه وماله، ثم قد يكون في الباطن بخلاف ذلك وحكم الإيمان الذي إلينا منوط بما يظهر لا ما يضمر.
وبعد فقد كان يسعني أن أخرج من البيان أخطاء ومغالطات وتناقضات بعدد كاتبيه وربما أزيد، بل لم أجد فيه من صواب إلاّ قولهم في أوله: “بسم الله الرحمن الرحيم”، غير أن المقال لا يتسع لذلك، والغرض منه يحصل بأدنى من ذلك، وحسبنا ما في البيان من إيماء الموقعين لردة الكاتبين، الأمر الذي اضطر كاتبيه إلى إنكار حد الردة، وإقحام الحديث عن حرية الرأي والتعبير، وتصريحهم بأن إنكارهم تكفير الكاتبين إنما هو لأجل ما يترتب على ذلك من الأحكام، فكأنهم يقولون إن الكفر الذي جاء به الكاتبان لا يجابه بالدعوة إلى إقامة حد الردة، ولا يجابه بالتكفير، لأن الإيمان لابد أن يكون عن قناعة واختيار!
فعمرك الله هل رأيت بياناً في نصرة مرتدين بما يتضمن تقرير جواز الوصف الذي كانت به ردتهم؟ ثم رفض إطلاق اسم الردة وبيان حكمها الذين جاءت بهما الشريعة!
وحقاً من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب، فكيف بمن يتكلم في كل فن وليس له فن يعرف!
هذا وإلى الله نشكو ما أوهت هذه العصابة من عرى الإسلام، وإليه نلجأ وبه نستعين، ولا تحسبن –أخي الكريم- أن الله غافل عن الظالمين.
________________
(1) الشفا للقاضي عياض 2/232، وانظر روضة الطالبين للنووي 10/70،
(2) فتاوى اللجنة الدائمة، 2/151 برقم (11043).
(3) المغني 9/16.
(4) صحيح البخاري (4968).