عبث الانتقائية الـمُغْرضة
إن ابتسار النصوص وضرب بعضها ببعض، ليس من شأن الباحث المنصف، فكيف بمن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله، ويشهد أن محمداً صلوات ربنا عليه هو خاتم الأنبياء والمرسلين وأن الله أرسله إلى الثقلين كافة؟
فقد كان صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم فقير المال غني النفس، ثم صار غني المال وبقي كما كان غني النفس.
وغنى المال درجات، فالنبي -صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم- كان في بعض المراحل غني المال، إلا أنّ غناه دون غنى رؤوس الكفر وكان كما وصفه الأعراب الذين جاد عليهم بالعطايا السخية: كان أجود من الريح المرسلة ويعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
وما أحسن إجابة أحد العلماء عن سؤال بهذا الشأن حيث قال:
لا يجوز وصف النبي بالفقر إن قصد به التنقيص من النبي صلى الله عليه وسلم ويؤدب قائله، فقد جاء في التاج والإكليل: قال مالك في رجل عيره رجل بالفقر: فقال أتعيرني بالفقر وقد رعى النبي صلى الله عليه وسلم الغنم، فقال مالك: عرَّض بذكر النبي صلى الله عليه وسلم في غير موضعه أرى أن يؤدب. انتهى.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن فقيراً من ناحية الواقع فقد امتن الله عليه بقوله: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8].
وقد ترك بعد موته بساتين وأموالاً بالمدينة وفدك، وقد كان من أدعيته صلى الله عليه وسلم المأثورة: “اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى”. رواه مسلم وغيره.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه: “اقض عنا الدين وأغننا من الفقر”. رواه مسلم.
وفي سنن النسائي عن مسلم بن أبي بكرة: قال: كان أبي يقول في دبر الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر، فكنت أقولهن، فقال أبي: أي بني عمن أخذت هذا؟ قلت: عنك، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقولهن في دبر الصلاة. قال الشيخ الألباني: صحيح الإسناد.
ولا يعارض هذا الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجه في سننه، عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين. فالمسكنة في دعائه صلى الله عليه وسلم إنما تعني: الذلة والافتقار إلى الله، إرشاداً لأمته إلى استشعار التواضع والاحتراز عن الكبر والنخوة، وفي معناه يقول المباركفوري في شرح الترمذي: فأراد صلى الله عليه وسلم بذلك إظهار تواضعه وافتقاره إلى ربه إرشاداً لأمته إلى استشعار التواضع والاحتراز عن الكبر والنخوة، وأراد بذلك التنبيه على علو درجات المساكين وقربهم من الله تعالى، قال الطيبي ـ رحمه الله ـ لكن لم يسأل مسكنة ترجع للقلة، بل للإخبات والتواضع والخشوع.
وفي النهاية في غريب الأثر: اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين ـ أراد به التواضع والإخبات وأن لا يكون من الجبارين المتكبرين.
أغناه الله من فضله فأنفق ولم يدخر
لقد تقلبت أحوال النبي صلى الله عليه وسلم بين الفقر والغني، لكنه مع ذلك كان منفقاً سخياً لا يخشى فقراً ولا يكنز مالاً، وقد جعل رزقه تحت ظل رمحه صلى الله عليه وسلم.
وقد كان في سائر حياته مترفعاً عن كنز الأموال وادخار الثروات، فأعطى عطاء من لا يخاف الفقر، وذلك لزهده صلى الله عليه وسلم، واستغنائه عن الناس، وحبه للمساكين وللإنفاق في سبيل الله، وحرصه على أمته صلى الله عليه وسلم.
أقبلت عليه الدنيا؛ فما تطلع إلى لعاعة منها، وما جعل منها شيئاً يتعلق به، فكانت قرة عينه في الصلاة لا في متاع الدنيا الزائل، حتى صار يعيش معظم حياته على الكفاف. يقول قيس بن أبي حازم سمعت سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يقول: “والله إني لأول رجل من العرب رمى بسهم في سبيل الله ولقد كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام نأكله إلا ورق الحبلة وهذا السمر حتى إن أحدنا ليضع كما تضع الشاة” رواه مسلم، ويوافقه عتبة بن غزوان رضي الله عنه في حكايته عن هذه الأحوال التي اعترت النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من غزواته ونحوها، فيقول: “لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا”رواه مسلم.
وإذ ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدخر في بيته قوت سنة؛ فإن ذلك لا يتعارض مع دعائه صلى الله وسلم، كما في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: “اللهم ارزق آل محمد قوتاً”؛ فإن المقصود كما قال القرطبي: “معنى الحديث أنه طلب الكفاف، فإن القوت ما يقوت البدن ويكف عن الحاجة وفي هذه الحالة سلامة من آفات الغنى والفقر جميعا”، إذ يحصل التوسط بين الأمان من ذل المسألة، والترف المفضي إلى التطلع إلى حطام الدنيا وزخرفها.
ولقد كانت عظمة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا التوسط، وذاك المسلك؛ تأتيه كنوز الدنيا فيفرقها بين أصحابه من المساكين وغيرهم. كان قريباً رحيماً بأهل الصفة وفقراء المسلمين رفيقاً بهم سخياً عليهم، وكان يخاطب ملوك الدنيا عزيزاً قوياً، تنثر بين يديه غنائم هوازن وغيرها فلا يبيت حتى يفرقها لمن يستحق، ثم يقضى حياته زاهداً متعففاً كريم النفس معطاءً. يفرق الأموال ولا يستأثر بشيء عن أصحابه، حتى سجل عن ذلك أبي هريرة رضي الله عنه شهادته فيما رواه مسلم: “ما شَبِعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله ثلاث ليال تباعاً من خبز حنطة حتى فارق الحياة”، وفي البخاري: “ما شبع آل محمد من طعام ثلاثة أيام حتى قُبِض”. وكذا ما قالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “إن كنا آل محمد صلى الله عليه وسلم لنمكث شهرا ما نستوقد بنار إن هو إلا التمر والماء”، رواه مسلم. ولم يكن ذلك إلا زهداً في الدنيا ورجاء فيمن عند الله سبحانه في مقامه المحمود صلى الله عليه وسلم، وقد أخرج الترمذي من حديث أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا فقلت لا يا رب ولكن أشبع يوما وأجوع يوما فإذا جعت تضرعت إليك وإذا شبعت شكرتك”.
هذه سيرة خير الأنام، كأنه الريح المرسلة في العطاء والسخاء والصدقة، راضٍ بما قسمه الله، زاهداً في الدنيا وزخرفها.