موعظة جليلة لكل مرشح لمنزلة الإمامة في الدين:
إن من المواعظ البليغة لأئمة الدين، والعبر المفيدة لسائر المؤمنين، حتى لا يأمنوا من مكر الله، ولو بلغوا في الدين أعلى منزلة، ونالوا فيه أرفع رتبة، قصة الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها فجهل بعد علمه، وفسق بعد طاعته، وأوغل في الجهل والفسوق حتى علم الله منه تأصل الفساد في طبعه وتجزره في قلبه، فوكله إلى نفسه، ولم يقله من زلته، فلم ينتفع بما كان عنده من اليقين في آيات الله، ولم يصبر عند بلاء الله وفتنته، فكان من الغاوين، وضرب الله له في القرآن مثلا بأخس الكائنات في آيات تتلى إلى يوم القيامة.
وقفات للتأمل والاعتبار:
إن دراستنا لهذه القصة الحزينة تكون عبر وقفات نتأمل خلالها كيف انحدر هذا العالم العابد من علو في الدين أكسبه إياه يقينه وصبره، إلى إخلاد إلى الأرض مثقلا بالهوى واتباع الشيطان: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ، سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 175-177].
الوقفة الأولى: من هو الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها.
أغلب المفسرين قالوا إن الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها هو بلعام بن باعوراء، وكان من أهل العلم، لقوله تعالى: {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} وكان أيضا من أهل العبادة حتى اشتهر بكونه مجاب الدعوة وليس نبيا، لأن ما صار إليه وما ختم له به مما يعصم الله عنه الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، غير أنه فتن بملذات الدنيا وعرضها الزائل، حتى انقلب من حال العبادة والطاعة لله، إلى حال المعصية والصد عن سبيل الله، قال القرطبي رحمه الله تعالى: “واختلف في تعيين الذي أوتي الآيات فقال ابن مسعود وابن عباس: هو بلعام بن باعوراء، ويقال: ناعم، من بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام، وكان بحيث إذا نظر رأى العرش وهو المعني بقوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} ولم يقل آية، وكان في مجلسه اثنتا عشرة ألف محبرة للمتعلمين الذين يكتبون عنه، ثم صار بحيث أنه كان في أول من صنف كتابا في أن ليس للعالم صانع…”(1).
الوقفة الثانية: مجمل قصة الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها.
ونظراً لكون القصة من أخبار الأمم الماضية، فإن أوثق المصادر التي يمكن أن ننقل منها تفاصيل قصة الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها هو القرآن الكريم، وهي مجملة فيه يما يفي بتحقيق المقاصد القرآنية في إيراد القصص حيث يركز على أهم فصول الحادثة ويقف عند أبرز مواطن العبرة، لذلك فإن القصة على خطورته وأهميته ملخصة في ثلاث آيات من القرآن الكريم وهي قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ، سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 175-177].
وذكر المفسرون والمؤرخون من مظاهر انسلاخ صاحب القصة عن آيات الله مظاهرته لأهل الكفر نصرتهم على المؤمنين بكل الأساليب والطرق، ولهثه خلف الشهوات وسقوطه في وحلها، بما يطول ذكره.
ولعلنا نكتفي بما ورد في القرآن من هذه القصة العجيبة , ولا نتورط في سوق الأخبار الإسرائيلية الواهية عن تفاصيلها المروية في بعض كتب التفسير والتاريخ(2).
الوقفة الثالثة: دروس وعبر.
إن تأمل هذه القصة وتدبرها يهدي المؤمن بإذن الله إلى الاعتبار والاتعاظ، إذ فيها من العبر والدروس ما يعين على الصبر والثبات على دين الله، للمسلمين عامة وللأئمة منهم خاصة، حتى يستشعر المرء دائما مكر الله فلا يأمنه أبدا {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: من الآية99], فيوطن نفسه على موجبات السعادة و موانع الخسران وهي: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق و التواصي بالصبر، حتى يأتيه اليقين وهو على ذلك، قال تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3].
ومن الدروس والعبر المستفادة من قصة هذا الرجل ما يلي:
1- إن من أبغض الأمور إلى الله، والموجبة لسخطه وانتقامه، كفر نعمه وعدم شكره بالقلب واللسان والفعال، و إن من أعظم النعم الإلهية والمنح الربانية التي يجب شكرها على نحو ما وصف نعمة العلم والهداية، وعلى كل من أوتيهما أن يؤدي شكرهما، فيعترف أولا بأن مسديهما هو الله وحده لا شريك له، كما أقر بذلك أمام الموحدين إبراهيم عليه السلام فيما قص عنه القرآن {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78]، ولهج به يوسف عليه السلام {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ..} [يوسف: من الآية101]، ثم يعمل بما أوتي من العلم، ويدعو إليه، ويصبر على الأذى فيه، ولا يكن كصاحب هذه القصة الذي أبان الله سخطه عليه وعدم رضاه بفعله بذكره سبحانه وتعالى نعمته عليه وهو إتيانه الآيات مقترنا بما قابله من الكفر المتجسد في الانسلاخ منها {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا}.
2- إن ما يقع فيه العبد من الخطأ والزلل في القول أو العمل، ثم يتوب منه ويقلع عنه، لا يوجب دوام سخط الله عليه ولا سلب نعمه إياه، فكل ابن آدم خطاء، وخير الخطاءين التوابون، قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء: 17]، وأما الفاقرة فهي الإصرار على المعصية وقصد مخالفة أوامر الله مع كون المواعظ الشرعية والكونية لائحة وناذرة، ولا يتصور صدور هذا إلا من منسلخ تماما من آيات الله، ومتبع لخطوات الشيطان، يرتع في حوشه الدنيء، ويجول بين الشبهات والشهوات لا يتقي شيئا منها ولا يذر، وهذا هو الطغيان الذي قل من يرجع إلى الاستقامة بعد بلوغه {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف: من الآية176].
3- إن ما فتن به الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها جملة مركبة من مخالفات شرعية من جهة العلم وجهة العمل، فقد انسلخ أولا من آيات الله، وقصد إلى استعمال علمه في الصد عن سبيل الله في محاولته الدعاء على موسى وجيشه بالاسم الأعظم الذي علمه الله، ثم أكل الرشاوى في دين الله، وخذلان المؤمنين وأعانة أعدائهم عليهم، بما أشار على قومه من إرسال نسائهم على بني إسرائيل تستقبلهم لإغرائهم في الفاحشة، كما ورد في بعض الروايات(3)، وكل ذلك يدل على تجرده من حلة اليقين الذي كان قد كساه الله بها، وتخليه عن الصبر الذي كان يعصمه، مما حوله عن مقام الإمامة في الدين وجعله من علماء السوء.
4- إن الذي يقدح في يقين العالم أو ينقص من صبره قد ينبع من مصادر خارجية تغزوا عقيدته و التزامه بطاعة الله، كأن يستفز لاستخدام علمه فيما لا يرضي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو يطلب منه عملا ينصر به باطلا أو يخذل به حقا، وحينئذ يتميز أهل الصبر واليقين عن أهل الرقة في الدين، لما يثبت الله أولئك بإيمانهم وصبرهم فلا تنطق ألسنتهم إلا بالحق، ولا تبطش جوارحهم إلا بالحق، و يخذل أولئك بجهلهم وخفتهم فيتأولون في قول الباطل، وفعل الباطل، ونصرة الباطل، ويتدرجون في ذلك حتى إذا رسخت أقدامهم في الشر صاروا في حزب الشيطان.
5- إن أكبر نقيض لليقين هو الكفر والتكذيب بآيات الله تعالى، كما أن أعظم مانع من الصبر هو الظلم سواء كان للنفس أو للغير أو لهما معا، و على دركاتهما ينحدر المترشح للإمامة إلى أسفل السافلين قال تعالى: {سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} [الأعراف:177]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: من الآية44]، وقال أيضا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: من الآية45]، وقال أيضا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: من الآية47].
وينبغي أن يعلم أنه كما لليقين والصبر فروع فكذلك للكفر والظلم فروع، ومن فروع الكفر التلبث بالتكذيب أو الشك بشيء من دين الله تعالى، أو الابتداع في الدين ما ليس منه، أو الإنكار لشيء من السنة أو معارضته بالأهواء، وغير ذلك مما يبتلى به بعض المنتسبة إلى العلم والإمامة في الدين، وأما فروع الظلم فمنها سائر المعاصي سواء ما كان منها من أعمال القلوب كالحسد والحقد والرياء والسمعة، أو ما كان من أعمال الجوارح كالكذب والنميمة والغيبة وأكل أموال الناس بالباطل، والجور في الحكم بينهم، وغيرها مما يوقع الإنسان في ظلم ربه وظلم نفسه وظلم إخوانه.
6- لا شك أن حور طائفة من أئمة الدين بعد كورهم، وانتكاستهم بعد استقامتهم، وتحالفهم مع دعاة الضلالة وهجرهم لأهل الحق، لمما يبعث في نفوس المسلمين الخوف والحزن، بل قد يسبب تارة انهزام المجاهدين والدعاة ولو إلى حين، نظرا لقوة تأثير أئمة الضلال في مصائر الأمم عبر تاريخ البشرية الطويل، غير أن للحق جولة وصولة، و لبني هارون نجدة وعودة(4)، تهيئ لها صحوة إيمانية علمية ينصر الله بها دينه وأولياءه، ويخذل بها الباطل وأهله، فيبعث من أهل الصبر واليقين من يجدد الدين، ويحمي ديار المسلمين.
خلاصة القول ومسك الختام:
إن درجة الإمامة في الدين ليست رتبة لازمة وصفة أبدية، لا ينزل عنها المرء أو يتحول، بل إنها نتيجة لاستفاء شروط معينة، يلزم من عدمها العدم، ولا يلزم من وجودها وجود ولا عدم لذاتها، حتى إن بعض أهل العلم تخيل وافترض خلو الزمان من أئمة الدين باندراس العلم ثم تعذر العمل بأصول الدين وفروعه، ولذلك نجد في القرآن والسنة وكتب التاريخ والسير أخبار الأئمة الظلمة وعواقبهم السيئة، وسير علماء السوء الذين انسلخوا من آيات الله، ولم يحملوا ما حملوا من الكتاب، وما ضرب لهم من أمثال بأخس الكائنات.
كما نجد في كتب الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية مباحث عن عزل الأئمة ومحاسبتهم، وهو حق للرعية يمارسها عند الاقتضاء، وأحكام الخروج على الولاة الكفرة عند توفر القدرة وأمن الفتنة، مما يدل على وجوب الصبر على استدامة الشروط الشرعية لأهلية الإمامة في الدين، وذلك بمجانبة كل ما من شأنه أن يخل بواحد من الأصلين العظيمين اليقين والصبر، أو بهما معا، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، وصاغ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قاعدته الذهبية في فقه الدعوة والسياسة الشرعية فقال: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين .
_______________
(*) باحث وداعية سنغالي.
(1) تفسير القرطبي 7/319 ط دار الشعب – القاهرة 1372هـ.
(2) راجع تفسير الطبري 9/ 124 ط دار الفكر – بيروت 1405.
(3) ينظر: تفسير الطبري 9 / 124.
(4) إشارة إلى دور بعض آل هارون عليه السلام في مواجهة فتنة هذا الرجل وجيشه. يراجع القصة من كتب التفاسير والتاريخ وخاصة تفسير الطبري.